من الخطوط الهندسية إلى عبير الزهور    جبال فيفا.. كنز السياحة والطبيعة في جازان    ليفربول يفتح دفتر التعازي في وفاة جوتا    محمد بن عبدالرحمن يُشرّف حفل سفارة الفلبين لدى المملكة    وزير الخارجية يصل إلى موسكو في زيارة رسمية لروسيا    منتخب التشيك يجهز الأخضر لملحق المونديال    أمير حائل يضع حجر الأساس لإحدى الشركات الوطنية للمواشي    ضبط (6) مخالفين في عسير لتهريبهم (100) كجم "قات"    حرس الحدود بجدة ينقذ مواطنًا تعطلت واسطته البحرية في عرض البحر    نائب أمير منطقة الرياض يؤدي صلاة الميت على والدة أبناء عبدالعزيز السالم    إنقاذ طفل ابتلع حبة بقوليات استقرت في مجرى التنفس 9 أيام    رئيس مجلس الشورى يلتقي رئيس وزراء مملكة كمبودي    حمد الله يشارك في تدريبات الهلال    فرع هيئة الأمر بالمعروف بالشرقية ينظم ندوة للتوعية بخطر المخدرات    لجنة الصداقة السعودية التركية في مجلس الشورى تعقد اجتماعًا مع نظيرتها التركية    استقرار أسعار الذهب مع ترقب المستثمرين توجهات خفض أسعار الفائدة    مدير شرطة عسير يقلد عايض القحطاني رتبة «رائد»    "ملتقى خريجي الجامعات السعودية يجسّد جسور التواصل العلمي والثقافي مع دول البلقان"    تأشيرة سياحية موحدة لدول مجلس التعاون.. قريباً    استشهاد 22 فلسطينيًا في قصف على قطاع غزة    رئيس جمهورية إندونيسيا يغادر جدة    أبانمي ترعى برنامج عطاء الصيفي بمشاركة ٢٥٠ يتيم    الأهلي يكشف شعاره الجديد ويدشّن تطبيقه ومنتجاته    صراع قوي في ربع نهائي مونديال الأندية.. نهائي مبكر بين بايرن وباريس.. وريال مدريد يواجه دورتموند    أطلقت مشروع (تحسين الأداء المالي للأندية).. "الرياضة" تنقل أعمال لجنة الاستدامة المالية إلى رابطة المحترفين    شدد على أهمية الانخراط في تسوية سياسية عادلة.. المبعوث الأممي يدعو اليمنيين لإنهاء الحرب    وسط توترات إقليمية متصاعدة.. إيران تعلق التعاون مع وكالة الطاقة الذرية    روسيا: فرصة لتسريع نهاية الحرب.. أوكرانيا تحذر من تبعات تأخير الأسلحة الأمريكية    911 يستقبل 2.8 مليون اتصال في يونيو    غندورة يحتفل بقران «حسام» و«حنين»    جامعة الملك سعود تحذر من خدمات القبول المزيفة    أمطار على جنوب وغرب المملكة الأسبوع المقبل    أنغام: لست مسؤولة عما يحدث للفنانة شيرين عبد الوهاب    49.4 مليار ريال إنفاق الزوار في الربع الأول    دعم النمو وجودة الحياة.. الرياض تستضيف"سيتي سكيب"    القبول في الكليات العسكرية للجامعيين.. الأحد المقبل    "الغذاء والدواء": جميع المنتجات تخضع للرقابة    «الكتابات العربية القديمة».. أحدث إصدارات مركز الملك فيصل    باب البنط بجدة التاريخية.. ذاكرة الأصالة والتراث    تكريم عائلة المشجع المكمل ل«المليونين» في المونديال    المخدرات الموت البطيء    الإنجاز والمشككون فيه    الجامعات السعودية تنظم ملتقى خريجيها من البلقان    أخضر السيدات يخسر أمام هونغ كونغ في التصفيات الآسيوية    اللقاءات الثقافية في المملكة.. جسور وعيٍ مستدام    «تسكيائي» اليابانية.. وحوار الأجيال    الشكوى هدية    الأمير جلوي بن عبدالعزيز يرعى حفل انطلاق فعاليات صيف نجران    الشؤون الإسلامية في جازان تنفذ عدة مناشط دعوية في الجوامع والمساجد    أمير منطقة جازان يشهد توقيع اتفاقيات انضمام مدينة جيزان وثلاث محافظات لبرنامج المدن الصحية    الأمير ناصر بن محمد يستقبل رئيس غرفة جازان    ترامب يهدد بترحيل ماسك إلى جنوب إفريقيا    بلدية المذنب تطلق مهرجان صيف المذنب 1447ه بفعاليات متنوعة في منتزه خرطم    أمير تبوك يطلع على تقرير فرع وزارة النقل والخدمات اللوجستية بالمنطقة    تأهيل الطلاب السعوديين لأولمبياد المواصفات    انطلاق النسخة الثامنة لتأهيل الشباب للتواصل الحضاري.. تعزيز تطلعات السعودية لبناء جسور مع العالم والشعوب    المفتي يتسلم تقرير العلاقات العامة بالإفتاء    العثمان.. الرحيل المر..!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"ديوان الاساطير" في كتابه الثالث . الحضارة والسلطة وخلفيات إنبثاقهما في وادي الرافدين
نشر في الحياة يوم 29 - 09 - 1999

الكتاب: ديوان الأساطير سومر وأكاد وآشور الكتاب الثالث - الحضارة والسلطة
ترجمة وتعليق: قاسم الشواف
اشراف: أدونيس
الناشر: دار الساقي - بيروت 1999
يتابع قاسم الشواف وأدونيس في كتابهما الثالث هذا تقديم أساطير الشرق الأدنى القديم بهدف جمعها في موسوعة أو ديوان منذ البدايات الأولى على هذه الأرض التي تنتمي اليها، في وادي الرافدين وسورية، وفي الجزيرة العربية، وانتهاءً بمصر. وكان الكتاب الأول من مجموعة "ديوان الأساطير" تطرق الى موضوع الخصب والإخصاب عبر تقديم أجمل أناشيد الحب في سومر في تسمية "نشيد الانشاد السومري"، بحيث أمكن تضمين الكتاب الأول دراسة حول التوازي مع "نشيد الإنشاد" التوراتي، ولعلها كانت الدراسة الأولى من نوعها باللغة العربية.
وفي الكتاب الثاني عاد الشواف وادونيس الى "البدء والأصول" مع قصص التكوين والخلق التي سبقت قصيدة النظرة الشاملة الى التكوين والخلق وهي "الإنوما إيليش" أي قصيدة التكوين البابلية. وتعرض الكتاب الى موضوع الثواب والعقاب، فروى قصة "الفائق الحكمة" الذي أنقذ البشر من الطوفان، كما تناول سهر الآلهة ودورها في إثابة الملوك بترسيخ ملكيتهم أو معاقبتهم إذا لزم الأمر، وكذلك معاقبة المدن أو البلاد بكاملها. ومن هنا يدخل الكتاب الثاني في أدب المراثي الذي نتج عن ذلك، ليقدم أقدم مثل عرفه المسرح الديني، وكان ذلك في سومر عبر مسرحية "البكاء على خراب سومر ومدينة نفر".
وفي الكتاب الثالث هذا، يدور الموضوع الأساسي حول الحضارة في مراحل بنائها وفي ما تخوله المعرفة من قدرات وسلطة. فيتطرق في فصله الأول الى بدايات الاستقرار لإنتاج الغذاء والكساء، كما يحتفل باستقرار الإله البدوي "مارتو" نتيجة لزواجه من ابنة إله المدينة. ويمجّد بعد ذلك إنليل، سيد الآلهة وسيد البلاد، متغنياً بفضل سيد الهواء والأمطار في اطلاق مسيرة الحضارة وإقامته في "بيت الجبل الكبير" معبده في مدينة نفر.
وبعد الولاء لإنليل ولنفر، يبرز الفصل الثاني تدخل أنكي وهو سيد المعرفة ومهارة الصنع، ودوره التنظيمي للبلاد وترسيخ أسس الحضارة واستقطاب الولاء نحو مدينته اريدو. وفي ما يتعلق بالسلطة أيضاً، لا ينسى الكتاب دور إنانا / عشتار في ما عرفته البلاد من محاولات للحد من عنفوانها وحيويتها بصفتها قائدة الجيوش وسيدة المعارك ولكن ذلك لا يحول دون ارتقائها وتمجيد سلطتها.
أما الفصل الثالث، واستكمالاً للبعد الحضاري، فيتحدث عن دور المدرسة والحكمة في تعميم الحضارة ونشر القيم الأخلاقية التي تبني مجتمع البشر. فيتعرض لدور التعليم في مدارس سومر وآكاد، ويقدم مجموعة من الحكم والأمثال، منتهياً بقصة احيقار الآرامي حكيم بلاط نينوى في القرن السابع قبل الميلاد. كما يطرح موضوع دراسة للتعرف على أصول "كليلة ودمنة" في ضوء قصص وحكايات الحيوانات المماثلة التي عرفتها آثار سومر واحيقار ولقمان الحكيم.
وبدورنا سنحاول متابعة أهم الأفكار الخاصة بالسلطة، لا سيما تلك التي تتعلق بالسلطة الالهية والسلطة البشرية والعلاقة بينهما. لقد كان من الطبيعي جداً بالنسبة الى العراقي القديم، وهو ينظر الى الكون باعتباره حشداً من الآلهة الممثلة للطبيعة بكل أجزائها، أن يفكر بالتنظيم الذي ينبغي أن يخضع له المجتمع الإلهي الذي يضم هذا الحشد، خصوصاً أن كل واحد منها يتمتع بإرادته الخاصة التي يتم التعبير عنها من قبل كل جزء من أجزاء الطبيعة عبر الترابط الذي يقيمه مع الأجزاء الأخرى. فقد راح البابلي، مدفوعاً بحدسه، يطبق على الطبيعة تجربته للمجتمع الإنساني مفسراً إياها بشكل مجتمعي. وإذا حاولنا أن نجد ميزة خاصة بأرض الرافدين، فعلينا أن نشير الى الشدة في توكيد أهل هذا البلد على العلاقات المنظمة بين القوى التي كانوا يرونها. فالتنظيم كان ضرورياً في نظر العراقي القديم بسبب الموقف الخاص الذي اتخذه ازاء الفوضى، هذا الموقف الذي يرجع بالدرجة الأساسية الى المعنى المتميز الذي اتسمت به في نظره. فالإله آن أو آنو كان قد مثّل السماء أو القوة التي نهضت بالكون وجعلته بعيداً عن الفوضى لتجعله منظماً غاية التنظيم. كذلك الحال بالنسبة الى الملحمة "اينوما ايليش" التي تروي قصة الخليقة. فهذه الملحمة تعبر قطعاً عن مدى الأفكار الأساسية التي سادت دنيا البحر المتوسط قديماً، وهي انتصار الكون كلاً منظماً على الفوضى. فقد كان ينظر الى الكون على أنه اشاعة النظام في الفوضى التي كانت سائدة.
ويبدو أن العراقي القديم لم يقبل الفوضى بسبب المعنى الخاص الذي اقترنت به. بكلمة أخرى كانت الفوضى تعني لديه الثبات والخمول. فالمصريون كانوا يتصورون عالمهم ثابتاً وغير متطور، لقد خرج تاماً كاملاً من بين يدي الخالق، والأحداث التاريخية ليست - بالتالي - أكثر من اضطرابات سطحية تصيب النظام المقرر. والوقائع المتفرقة والملامح الكثيرة الأخرى التي تبدو غير مترابطة في الحضارة المصرية، يمكن فهمها جميعاً على أنها نتيجة اقتناع أساسي بأن الذي لا يتغير هو وحده ذو قيمة. أما العراقيون القدامى فقد ذهبوا الى خلاف ذلك، ذهبوا الى الاعتقاد - وهم يستوحون تجارب واقعهم اليومي - بأن الكون في صراع مستديم بين مبدأين هما القوى الدافعة الى الحركة والقوى الدافعة الى السكون. وفي هذا الصراع يتحقق النصر للقوى الدافعة الى الحركة على القوى الدافعة الى السكون.
وعبّر العراقيون القدامى عن هذا الاعتقاد عن طريق ملحمة اينوما ايليش، فالصراع الذي دار في هذه الملحمة بين مردوك أو إنليل من جهة وبين تيامات من جهة أخرى، أي بين الريح والماء، يتضمن رمزاً قديماً لفيضان الربيع. ففي كل ربيع تطغى المياه على سهول وادي الرافدين وتعود الدنيا الى فوضى الزمن الأول المائية، الى أن تصارع الرياح المياه وتجففها وتستعيد الأرض اليابسة.
هكذا نلاحظ أن العراقيين القدامى كانوا قد طرحوا التنظيم كضرورة لا غنى عنها، وهذا ما تؤكده كثرة الأساطير المتعلقة بالتنظيم، كما تؤكده نظرتهم اليه باعتباره معياراً للحضارة. فقد وسموا الكوشيين الذين جلبوا الهلاك والدمار الى بلاد سومر وشعبها في عهد سلالة أكاد بأنهم "شعب لا يتحمل النظام".
ان تمسك العراقي القديم بالتنظيم كضرورة لا غنى عنها بالنسبة الى المجتمع الإلهي هو الذي قاد به الى التمسك بالسلطة. وهذه العلاقة التي أقامها ما بين التنظيم والسلطة كان قد أوحى بها المنطق العام لتفكيره القائم على أساس من الانتقال من المعلوم الى المجهول. بكلمة أوضح أن العراقي القديم كان قد استوحى واقع سلطة الدولة التي يعيش في ظلها لينقل صورتها الى المجتمع الإلهي، مثلما نقل صورتها الى ميادين أخرى تنم هي ايضاً عن نوع من التنظيم كالعالم السفلي والمعبد.
ذهب العراقي القديم في تفكيره الى الاعتقاد بأن السلطة كانت قد وجدت منذ الأزل، أي أنها وجدت قبل أن يوجد من يمارسها على الأرض. فهي كانت في السماء. فقد جاء في قائمة الملوك السومرية: "بعد أن هبطت الملكية من السماء...".
ولكن هذه السلطة الأولى لم تكن لتتمتع بوجود عيني، فهي لم تكن لتمثل إلا مفهوماً مجرداً. ان آنو إله وسلطته لا يمكن أن تكون إلا الالوهية ذاتها، وهي على هذا الأساس تبقى مفتقدة لكل صورة عينية. إلا أن هذه السلطة ستسير خطوة في طريق الوجود العيني عندما تصبح امتيازاً يختص به انليل. بكلمة أخرى ان السلطة بقدر ما ستبدو امتيازاً خاصاً بانليل ستميل الى أن تمثل مفهوماً أكثر عينية، ذلك لأن سلطته تمثل السيادة الحقيقية الممارسة على الأرض كلها من قبل السماء.
فالعراقي القديم كان يذهب الى الاعتقاد بأن السلطة السياسية كانت قائمة أصلاً في السماء. ولكن المجلس الإلهي كان يملك الحق في اختيار أي عضو من أعضائه لحفظ النظام والأمن في الداخل وقيادة القوات المسلحة، واعلانه ملكاً عليهم بدلالة القيام بهذه الوظائف. ومثل هذا الرمز يعمل في الأرض لتحقيق الوظائف ذاتها عن طريق وكيله البشري، حاكم دولة مدينته.
فالسلطة السياسية، كما نلاحظ، تتميز بأنها لم تكن تبدو في نظر العراقي القديم باعتبارها ذات طبيعة انسانية، وإنما على العكس من ذلك، فهي كانت تبدو في نظره ذات طبيعة ما فوق انسانية. وبالتالي فإن الناس على الأرض لا يعرفون منها الا انعكاسها، وان العاهل ما هو إلا التجسيد العيني لهذا الانعكاس. وهكذا فإن الماسكين الفعليين بالسلطة السياسية في سومر، مثلما هي الحال في آشور، كانوا قد بقوا لمدة طويلة يتحاشون ان يضفوا على السلطة السياسية معنى انسانياً. فالملوكية التي كانوا يتمتعون بها لم تكن لتمثل مجرد سلطة سياسية كان قد حصل عليها جندي بسبب احتكاره للسلاح، أو رجل سياسي محظوظ بسبب ما يملكه من كفاءة سياسية متميزة... بل ان السلطة السياسية كانت تنأى في نظر العراقي القديم عن كل هذه الاعتبارات المادية وذلك لأنها كانت تمثل بالنسبة اليه سراً إلهياً زود به كائن انساني.
الكتاب: ديوان الأساطير سومر وأكاد وآشور الكتاب الثالث - الحضارة والسلطة
ترجمة وتعليق: قاسم الشواف
اشراف: أدونيس
الناشر: دار الساقي - بيروت 1999
يتابع قاسم الشواف وأدونيس في كتابهما الثالث هذا تقديم أساطير الشرق الأدنى القديم بهدف جمعها في موسوعة أو ديوان منذ البدايات الأولى على هذه الأرض التي تنتمي اليها، في وادي الرافدين وسورية، وفي الجزيرة العربية، وانتهاءً بمصر. وكان الكتاب الأول من مجموعة "ديوان الأساطير" تطرق الى موضوع الخصب والإخصاب عبر تقديم أجمل أناشيد الحب في سومر في تسمية "نشيد الانشاد السومري"، بحيث أمكن تضمين الكتاب الأول دراسة حول التوازي مع "نشيد الإنشاد" التوراتي، ولعلها كانت الدراسة الأولى من نوعها باللغة العربية.
وفي الكتاب الثاني عاد الشواف وادونيس الى "البدء والأصول" مع قصص التكوين والخلق التي سبقت قصيدة النظرة الشاملة الى التكوين والخلق وهي "الإنوما إيليش" أي قصيدة التكوين البابلية. وتعرض الكتاب الى موضوع الثواب والعقاب، فروى قصة "الفائق الحكمة" الذي أنقذ البشر من الطوفان، كما تناول سهر الآلهة ودورها في إثابة الملوك بترسيخ ملكيتهم أو معاقبتهم إذا لزم الأمر، وكذلك معاقبة المدن أو البلاد بكاملها. ومن هنا يدخل الكتاب الثاني في أدب المراثي الذي نتج عن ذلك، ليقدم أقدم مثل عرفه المسرح الديني، وكان ذلك في سومر عبر مسرحية "البكاء على خراب سومر ومدينة نفر".
وفي الكتاب الثالث هذا، يدور الموضوع الأساسي حول الحضارة في مراحل بنائها وفي ما تخوله المعرفة من قدرات وسلطة. فيتطرق في فصله الأول الى بدايات الاستقرار لإنتاج الغذاء والكساء، كما يحتفل باستقرار الإله البدوي "مارتو" نتيجة لزواجه من ابنة إله المدينة. ويمجّد بعد ذلك إنليل، سيد الآلهة وسيد البلاد، متغنياً بفضل سيد الهواء والأمطار في اطلاق مسيرة الحضارة وإقامته في "بيت الجبل الكبير" معبده في مدينة نفر.
وبعد الولاء لإنليل ولنفر، يبرز الفصل الثاني تدخل أنكي وهو سيد المعرفة ومهارة الصنع، ودوره التنظيمي للبلاد وترسيخ أسس الحضارة واستقطاب الولاء نحو مدينته اريدو. وفي ما يتعلق بالسلطة أيضاً، لا ينسى الكتاب دور إنانا / عشتار في ما عرفته البلاد من محاولات للحد من عنفوانها وحيويتها بصفتها قائدة الجيوش وسيدة المعارك ولكن ذلك لا يحول دون ارتقائها وتمجيد سلطتها.
أما الفصل الثالث، واستكمالاً للبعد الحضاري، فيتحدث عن دور المدرسة والحكمة في تعميم الحضارة ونشر القيم الأخلاقية التي تبني مجتمع البشر. فيتعرض لدور التعليم في مدارس سومر وآكاد، ويقدم مجموعة من الحكم والأمثال، منتهياً بقصة احيقار الآرامي حكيم بلاط نينوى في القرن السابع قبل الميلاد. كما يطرح موضوع دراسة للتعرف على أصول "كليلة ودمنة" في ضوء قصص وحكايات الحيوانات المماثلة التي عرفتها آثار سومر واحيقار ولقمان الحكيم.
وبدورنا سنحاول متابعة أهم الأفكار الخاصة بالسلطة، لا سيما تلك التي تتعلق بالسلطة الالهية والسلطة البشرية والعلاقة بينهما. لقد كان من الطبيعي جداً بالنسبة الى العراقي القديم، وهو ينظر الى الكون باعتباره حشداً من الآلهة الممثلة للطبيعة بكل أجزائها، أن يفكر بالتنظيم الذي ينبغي أن يخضع له المجتمع الإلهي الذي يضم هذا الحشد، خصوصاً أن كل واحد منها يتمتع بإرادته الخاصة التي يتم التعبير عنها من قبل كل جزء من أجزاء الطبيعة عبر الترابط الذي يقيمه مع الأجزاء الأخرى. فقد راح البابلي، مدفوعاً بحدسه، يطبق على الطبيعة تجربته للمجتمع الإنساني مفسراً إياها بشكل مجتمعي. وإذا حاولنا أن نجد ميزة خاصة بأرض الرافدين، فعلينا أن نشير الى الشدة في توكيد أهل هذا البلد على العلاقات المنظمة بين القوى التي كانوا يرونها. فالتنظيم كان ضرورياً في نظر العراقي القديم بسبب الموقف الخاص الذي اتخذه ازاء الفوضى، هذا الموقف الذي يرجع بالدرجة الأساسية الى المعنى المتميز الذي اتسمت به في نظره. فالإله آن أو آنو كان قد مثّل السماء أو القوة التي نهضت بالكون وجعلته بعيداً عن الفوضى لتجعله منظماً غاية التنظيم. كذلك الحال بالنسبة الى الملحمة "اينوما ايليش" التي تروي قصة الخليقة. فهذه الملحمة تعبر قطعاً عن مدى الأفكار الأساسية التي سادت دنيا البحر المتوسط قديماً، وهي انتصار الكون كلاً منظماً على الفوضى. فقد كان ينظر الى الكون على أنه اشاعة النظام في الفوضى التي كانت سائدة.
ويبدو أن العراقي القديم لم يقبل الفوضى بسبب المعنى الخاص الذي اقترنت به. بكلمة أخرى كانت الفوضى تعني لديه الثبات والخمول. فالمصريون كانوا يتصورون عالمهم ثابتاً وغير متطور، لقد خرج تاماً كاملاً من بين يدي الخالق، والأحداث التاريخية ليست - بالتالي - أكثر من اضطرابات سطحية تصيب النظام المقرر. والوقائع المتفرقة والملامح الكثيرة الأخرى التي تبدو غير مترابطة في الحضارة المصرية، يمكن فهمها جميعاً على أنها نتيجة اقتناع أساسي بأن الذي لا يتغير هو وحده ذو قيمة. أما العراقيون القدامى فقد ذهبوا الى خلاف ذلك، ذهبوا الى الاعتقاد - وهم يستوحون تجارب واقعهم اليومي - بأن الكون في صراع مستديم بين مبدأين هما القوى الدافعة الى الحركة والقوى الدافعة الى السكون. وفي هذا الصراع يتحقق النصر للقوى الدافعة الى الحركة على القوى الدافعة الى السكون.
وعبّر العراقيون القدامى عن هذا الاعتقاد عن طريق ملحمة اينوما ايليش، فالصراع الذي دار في هذه الملحمة بين مردوك أو إنليل من جهة وبين تيامات من جهة أخرى، أي بين الريح والماء، يتضمن رمزاً قديماً لفيضان الربيع. ففي كل ربيع تطغى المياه على سهول وادي الرافدين وتعود الدنيا الى فوضى الزمن الأول المائية، الى أن تصارع الرياح المياه وتجففها وتستعيد الأرض اليابسة.
هكذا نلاحظ أن العراقيين القدامى كانوا قد طرحوا التنظيم كضرورة لا غنى عنها، وهذا ما تؤكده كثرة الأساطير المتعلقة بالتنظيم، كما تؤكده نظرتهم اليه باعتباره معياراً للحضارة. فقد وسموا الكوشيين الذين جلبوا الهلاك والدمار الى بلاد سومر وشعبها في عهد سلالة أكاد بأنهم "شعب لا يتحمل النظام".
ان تمسك العراقي القديم بالتنظيم كضرورة لا غنى عنها بالنسبة الى المجتمع الإلهي هو الذي قاد به الى التمسك بالسلطة. وهذه العلاقة التي أقامها ما بين التنظيم والسلطة كان قد أوحى بها المنطق العام لتفكيره القائم على أساس من الانتقال من المعلوم الى المجهول. بكلمة أوضح أن العراقي القديم كان قد استوحى واقع سلطة الدولة التي يعيش في ظلها لينقل صورتها الى المجتمع الإلهي، مثلما نقل صورتها الى ميادين أخرى تنم هي ايضاً عن نوع من التنظيم كالعالم السفلي والمعبد.
ذهب العراقي القديم في تفكيره الى الاعتقاد بأن السلطة كانت قد وجدت منذ الأزل، أي أنها وجدت قبل أن يوجد من يمارسها على الأرض. فهي كانت في السماء. فقد جاء في قائمة الملوك السومرية: "بعد أن هبطت الملكية من السماء...".
ولكن هذه السلطة الأولى لم تكن لتتمتع بوجود عيني، فهي لم تكن لتمثل إلا مفهوماً مجرداً. ان آنو إله وسلطته لا يمكن أن تكون إلا الالوهية ذاتها، وهي على هذا الأساس تبقى مفتقدة لكل صورة عينية. إلا أن هذه السلطة ستسير خطوة في طريق الوجود العيني عندما تصبح امتيازاً يختص به انليل. بكلمة أخرى ان السلطة بقدر ما ستبدو امتيازاً خاصاً بانليل ستميل الى أن تمثل مفهوماً أكثر عينية، ذلك لأن سلطته تمثل السيادة الحقيقية الممارسة على الأرض كلها من قبل السماء.
فالعراقي القديم كان يذهب الى الاعتقاد بأن السلطة السياسية كانت قائمة أصلاً في السماء. ولكن المجلس الإلهي كان يملك الحق في اختيار أي عضو من أعضائه لحفظ النظام والأمن في الداخل وقيادة القوات المسلحة، واعلانه ملكاً عليهم بدلالة القيام بهذه الوظائف. ومثل هذا الرمز يعمل في الأرض لتحقيق الوظائف ذاتها عن طريق وكيله البشري، حاكم دولة مدينته.
فالسلطة السياسية، كما نلاحظ، تتميز بأنها لم تكن تبدو في نظر العراقي القديم باعتبارها ذات طبيعة انسانية، وإنما على العكس من ذلك، فهي كانت تبدو في نظره ذات طبيعة ما فوق انسانية. وبالتالي فإن الناس على الأرض لا يعرفون منها الا انعكاسها، وان العاهل ما هو إلا التجسيد العيني لهذا الانعكاس. وهكذا فإن الماسكين الفعليين بالسلطة السياسية في سومر، مثلما هي الحال في آشور، كانوا قد بقوا لمدة طويلة يتحاشون ان يضفوا على السلطة السياسية معنى انسانياً. فالملوكية التي كانوا يتمتعون بها لم تكن لتمثل مجرد سلطة سياسية كان قد حصل عليها جندي بسبب احتكاره للسلاح، أو رجل سياسي محظوظ بسبب ما يملكه من كفاءة سياسية متميزة... بل ان السلطة السياسية كانت تنأى في نظر العراقي القديم عن كل هذه الاعتبارات المادية وذلك لأنها كانت تمثل بالنسبة اليه سراً إلهياً زود به كائن انساني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.