بعد مرور ثلاث سنوات على وفاتها، تبقى الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس في الواجهة، تحتّل صفحات المجلات والصحف مثيرة الإنتقادات والمشاعر المختلفة، ويأتي كتاب صديقها الشاب، يان اندريا، الذي صدر أخيرا عن دا ر "بوفير" في باريس ولقي اهتماما واسعا ليؤكّد إفتتان الفرنسيين بنتاج دوراس التي تركت ما لا يقلّ عن 70 كتابا إضافة الى الأفلام والمسرحيات والمقالات الصحفية، وكذلك بحياتها الصاخبة والمثيرة. وُلدت مارغريت دوراس سنة 1914 في مستعمرة فرنسية في فيتنام الجنوبية حيث كان والدها مديرا للتعليم وحيث بقيت زوجته، بعد وفاته، تدرّس وتربّي أولادها الثلاثة: بيار، مارغريت وبول. وكتبت دوراس بغزارة عن تلك الطفولة وعن تلك البلاد باحثة عن جذورها وعن عالم راكد وصفته ك"شاطىء من الرجال والنساء ينامون وفيه تمتد حقول ا لرزّ على مدى البصر وتختلط مع سير الأنهر أو مع بحر الصين". ويحتّل هذا المكان كل نتاجها الأدبي إذ أن لا شيء أهم من طفولتها، "الطفولة الى الأبد" كما كتبت أو كما يقول أحد النقّاد: "لم تكف حياة كاملة أن تعطي لتلك الصور تماسكا تاما. لكنها كانت تظهر فجأة، بلا نظام، عند منعطف كتاب، أو تفرض نفسها، منتصرة، شيئا فشيئا كلما خفّ الأمل بالحياة وكلما جعلتها رحلة "باخرة الليل" تغوص في ظلمتها ا لذاتية". ناضلت في الحزب الشيوعي الفرنسي وشاركت في المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية الى جانب الرئيس الفرنسي الراحل، فرانسوا ميتران، وتزوّجت وطّلقت وأنجبت ولدا من عشيق خارج الزواج، واشتهرت وحصلت على جائزة "غونكور" 1984 لكتابها "العشيق" الذي لقي نجاحا هائلا وترجم الى 42 لغة، وانجرفت الى الشراب فانتفخ وجهها وشاخ وسمن جسمها النحيل... عاشت دوراس دائما في حالات متطرفة وفي عنف كبير، في اعتزالات وابرازات، وكتبت في هذه الحالات كلها، ثم أخرجت أفلاما بالطريقة ذاتها التي عاشت فيها، انتهاكية، وفاضحة ومتحدية. وفي آخر حياتها، أحبّت شابا في الثلاثينات بقي في رفقتها حتى وفاتها. يان اندريا، الذي أمضى معها 16 سنة، كتب لها رسالة طويلة 230 صفحة يخاطبها ويخاطب نفسه فيها فنكتشف حبّهما وحياتهما اليومية ومشاجراتهما... مكتوبة بشاعرية أحيانا وبتقطّع وإقتصاد حينا آخر، حسب طريقة دوراس التي أحبّت الكلمات وإنما استخدمتها بقلّة، من دون توابع ولا تفاصيل. "هذا الحب" وضعه اندريا خلال السنة الفائتة، بعد خروجه من أزمة نفسية عميقة على أثر وفاة دوراس إذ اختفى أو أخفى فسه في غرفة في منطقة سان-جرمان دي بري الباريسية، قريبا من المنزل الذي سكنه مع الكاتبة، وأمضى سنة ونصف السنة دون أن يرى أحد ودون أن يتّصل بأي شخص كان، يأكل ويشرب ويدخّن، لا يخرج سوى لشراء الصحف والسجائر... أما الطعام والشراب فكان يوفرهما له "الصيني" الكائن قرب البيت. وعندما قرّر "العودة الى الحياة"، اتصّل بوالدته وانتقل الى منزلها في الريف الفرنسي، حيث بقي فترة من الزمن يتعافى ليستعيد حالة طبيعية، من الناحيتين ا لجسدية والنفسية. يقول أنه وضع الكتاب دفعة واحدة، على مرحلة شهرين، ويكتب : "... بدأت أكتب. مثل المجنون، أضرب على الآلة الكاتبة رسالة طويلة. كل صباح، رسالة الى التي اسمّيها: م.د. أفعل ذلك من دون أن أعرف ما الذي أفعله فعلا. أكتب دون إعادة قراءة. كل صباح، أكتب. أكتب إليك وكأنه كان ممكنا أن أكتب إليك...". ولكن اندريا بدأ يكتب الى دوراس منذ زمن بعيد، فقبل أن يتعرّف إليها كان يراسلها باستمرار إذ أنه اكتشفها بعد قراءته رواية "أحصنة تاركينيا" وراح يقرأ كل رواياتها ومسرحياتها ومقالاتها في الصحف ويكتب لها الرسائل من دون إنقطاع على مدى خمس سنوات الى أن إستجابت له في يوم من الأ يام. فحدّدت له موعدا في الفندق الذي كانت تقيم فيه، في تروفيل، في منطقة النورماندي، وعندما وصل إليها.. بقي ستة عشر عاما. كان ذلك سنة 1980، هو في الثامنة والعشرين من عمره وهي في السادسة والستين، وكانت بداية "هذا الحب". يكتب لها : "نعم، أعتقد أن خلال كل هذه السنوات، لم أفهم الكثير، كنت كالمخبول، ولكن هذا كان ضروريا . وأنت ساعدتني في ذلك فتركتني وحيدا، لا أفهم، بلا أي كلمة مواساة، بلا أي كلمة تشجيع، دون أي كلمة لطيفة. وكأن الحبّ كان يجب عليه أن يمرّ بهذه القساوة التامة، وكأن الحبّ كان يجب عليه أن يحمي نفسه، أن يدمّر نفسه كي ينوجد وكي يستمّر في الوجود. وكأن الحبّ لم يمرّ فقط بك وبي، وكأننا كنّا أقل أهمية منه...". يكتب لها ويذكّرها بكل ما كان يحصل بينهما: الأيام السعيدة والساعات الصعبة، المشاوير الجميلة في السيارة السوداء على ضفاف نهر السين أو عند شاطىء النورماندي، أمراضها وأوجاعها، ويركّز خاصة على أولوية حياتها : الكتابة. كانت تملي عليه وهو يضرب على الآلة ساعات طويلة، وبهذه الطريقة كان كتاب "العشيق" وكتاب "الألم" و"اميلي ل.." يكتب اندريا: "انه أمر صعب للغاية، فهي في تركيز تام، تبحث عن الكلمة، تجدها، تهدم الجملة في بحثها عن شيء آخر، كلمات أخرى، عن ترقيم معيّن، ومن أجل صفحة مكتملة أضرب عشرات الصفحات. أحيانا، الصوت ليس واضحا وأخشى عدم سماعي الكلمة. لا أجرؤ أن أطلب منها الإعادة. آتدبّر أمري. أضرب على الآلة. وهي تجد الكلمة. والكتاب يُصنع. تقول: أعتقد أنني سأصل الى ذلك، لست متأكدة بعد ولكنني أعتقد بأنه سيكون كتابا. شيئا لم يحصل بعد.. ". وُلد يان اندريا من لقائه مع مارغريت دوراس، وفي الكتاب الذي وضعه عن علاقتهما المدهشة- المتحدة والنزاعية في آن- أصبحت دوراس شخصية روائية بدورها وكانت قالت له مرّة، "أنني موضوع من ذهب". وهو يكتب: "مرة أخرى، تظهر الإبتسامة. وجهك يتحوّل الى وجه طفل، طفل يعرف، يعرف كل شيء في البراءة الكاملة لمعرفة خارقة. في هذه الإبتسامة للوجه كله، للرأس كله، للروح كلها، للقلب كله، تقولين: الموضوع هو أنا... أمتثل لأمرك. مرة أخرى. أكتب إليك. وأكتب وفقا لك. وهذا ليس كل شيء. أنا هنا، لم أمت، لم الحقك حيث أنت، ولكنني أفكّر بك كل يوم وأفعل ما طلبتيه: أكتب". كتب إليها وكتب وفق ما كتب وبنَفَسِها أيضا، مستعملا الكلمات بالطريقة ذاتها التي كانت تستعمل دوراس كلماتها. وهنا لا بدّ من التوقّف عند بعض من كلماتها في آخر نصّ صدر لها بعد وفاتها بشهر واحد، في نيسانابريل 1996، "البحر المكتوب"، حيث تقول : "... كل شيء سيموت؟ هل سينتهي كل شيء؟ سيتوقف؟ حتى الدموع والحب والموت؟ الشعور؟ لم نعد نعرف. هل هو يوم سيّء؟ هل يكون ذلك؟ فقط ذلك، يوم سيّء؟ لم نعد نعرف شيئا بطريقة واضحة. وفجأة، أصبح عمرنا مئة عام. نبكي. نريد أن نبكي أكثر ولكن، لا يكفي. إنما لا أحد يقوله...". وكان يان أندريا أصدر من قبل كتاباً عن الروائية الفرنسية مارغريت دوراس حمل الحرفين الأولين من اسمها وعائلتها "م.د." صدر عن منشورات مينوي وفيه يعتمد اسلوبها السرديّ والايقاع الذي تميّز به نثرها. وبدا الكاتب الفرنسي الشاب متأثراً كل التأثر بالروائية الكبيرة.