قرأت بكثير من المتعة سلسلة الاحاديث التي كان حازم صاغية قد سجلها سنة 1984، في مساق اعداده كتاباً بقي غير مكتوب، ونشرها في "الحياة" تباعاً، في خلال الأسابيع الفائتة، تحت عنوان "معرفة بعض لبنان طوائف وعائلات، مناطق وأحزاباً سياسية". وقد دامت علي المتعة حتى طالعتني في عدد 20 الجاري الحلقة الأخيرة، وهي حديث أجراه صاحب السلسلة معي وكنت قد نسيت أمره كلياً، فانقلبت المتعة الى شيء من الهلع وعلمت انه "لا يعرف الشوق إلا من يكابده". ولأسارع الى القول انه ليس عندي ما ألوم عليه حازم صاغية حقاً، فالحديث حديثي من أوله الى آخره، ولم أكن أدليت به ليبقى سراً بيننا. على أنني لم أكن أدليت به لينشر على هذه الشاكلة ايضاً، وكانت هذه الشاكلة فوق مأمولي منه بكثير...! اذ الحق ان ما روعني من أمره ليس كثرة الزلات الموصوفة من قبيل ان الشيخ موسى شرارة توفي في أوائل القرن الماضي، والصواب: في أواخر، وان عبداللطيف الأسعد توفي في أواخر الثلاثينات، والصواب: في وسطها، وأن آل جمعة من أحلاف آل بيضون، والصواب آل حمقة، وأن أحمد شرارة أخ لعدنان وغسان والصواب أن الأخيرين ابنا خالي ولم يظهر لهما ثالث الى يومنا هذا، وأنني تتلمذت على جوزيف خوري في دير مشموشة، والصواب جوزيف عبود، الخ. هذا الى جمل أشعر أنها بقيت ناقصة لأنه كان كافياً، في مثل المجلس الذي كنا فيه، ان أحك أنفي حتى يفلت مني حبل الكلام والى شيء من الاضطراب في تسلسل الوقائع المتصلة ببلدية بنت جبيل... الخ، مرة اخرى. ما روعني شيء غير هذا كله، إنه البون الذي أراه فاغراً بين حديث أعطي لتستخرج منه، بصور مختلفة، شواهد على تقديرات تاريخية، وبين رواية للوقائع نفسها كان يسع صاحب الحديث وهو من محترفي الكتابة ان يكتبها، لو حزم أمره على الكتابة. بل إن البون يبقى فاغراً ايضاً ما بين حديث يعطى للغاية المشار اليها وحديث يعطى للنشر كما هو. فلو كنت في واحدة من الحالتين الأخيرتين، لكان اختلف، على الأقل، التوازن ما بين عناصر الروايات... ولكان اختفى، على الأرجح، هذا التبجح الذي جعلني أروي شؤوناً ترقى الى القرن التاسع عشر والى ما قبله وكأنني من شهود العيان. ذاك مع علمي بأن ما يتصل بموضوعنا من مصادر موثوقة تخص الاحداث السابقة لهذا القرن الذي نودع، نزر لا يشفي غليلاً، وانه اذا كان لنا ان نستنطق، في شأن أقدمية العائلات والعلاقات بينها مثلاً، معالم مادية ذكرت أهمها في الحديث، فإن هذه المعالم، وإن صح اعتبارها قرائن مؤيدة ل"نظرية" معينة، لا يصح اتخاذها أدلة مفضية الى حقائق مقررة. هذا كل شيء. بلى! بقي أن أقول انه وجد من أمتعته قراءة هذه الحلقة - كما امتعتني قراءة سابقاتها - وان صديقاً من الذين أعول على تقديرهم أعظم التعويل تجشم الاتصال من باريس ليُسمعني، بشأنها، كلمة طيبة... فشكراً لحازم صاغية! * كاتب ومؤرخ لبناني.