عندما أخبر عصمت اينونو الصحافة، صباح العشرين من أيلول سبتمبر 1937، انه سوف يترك رئاسة الحكومة "لستة أسابيع" لا أكثر، حرص على أن يضيف أن تركه الحكم سببه الارهاق وشعوره أن عليه أن يخلد الى الراحة بعض الشيء ريثما يستعيد قواه. وكذلك حرص على أن يشير أنه إذ يفعل هذا، فإنه يفعل "بإذن من رئيس الجمهورية". ورئيس الجمهورية المعني بذلك الكلام كان، بالطبع، مصطفى كمال أتاتورك. طبعاً لم يصدق أحد من الذين استمعوا الى تصريح اينونو، النصف الآخر من حديثه. صحيح أن خبر تركه الحكم فاجأهم لأن أحداً لم يكن يتوقع أن يبتعد تابع مصطفى كمال ومعاونه الأمين عن الحكم، على تلك الشاكلة، ولكن كان في الامكان قبول الأمر، كنتيجة لحالة من حالات مصطفى كمال المزاجية، غير أن ما لم يكن بالامكان تصديقه كان الشق الآخر، الذي يتحدث عن الابتعاد ستة أسابيع، وضرورات الراحة وما شابه. ومن هنا كانوا، جميعاً، على يقين من أن ما يقدم عليه اينونو، انما هو نتيجة خلاف بينه وبين أتاتورك، أو بشكل أكثر وضوحاً، نتيجة غضب هذا الأخير على رئيس حكومته. عصمت اينونو، كان تولى رئاسة الحكومة من دون فترة انقطاع تذكر، منذ اليوم الذي اعلنت فيه تركيا جمهورية، وأضحى مصطفى كمال رئيساً لها. فقط ابتعد اينونو عن ذلك المنصب لثلاثة أشهر ونيف حين كلف علي فتحي اوكبار برئاسة الحكومة. اذن، ما الجديد الذي يجعل ابتعاد اينونو هذه المرة ممكناً. بالنسبة الى وضع مصطفى كمال، كان الرجل قد أضحى مريضاً جداً، وكانت حالته الصحية بدأت تثير القلق في طول تركيا وعرضها وهو على أية حال، سيموت قبل نهاية العام التالي. صحيح أن مرضه لم يفقده شيئاً من قوته وسيطرته، لكنه - بشكل خفي - فتح باب خلافته، ما جعل الصراعات تشتد من حوله بين المرشحين للخلافة، عن طريق أنصارهم على الأقل. وكان عصمت اينونو، طبعاً، من أوفر المرشحين حظاً، بسبب قربه دائماً من مصطفى كمال وارتباط اسميهما. ومن هنا كان من الطبيعي أن تكون سهام المعارك موجهة ضده بشكل خاص. وهكذا، طوال الفترة السابقة كان على مصطفى كمال أتاتورك أن يمضي ساعات كثيرة من وقته وهو يصغي الى أعيان النظام والقيادات الحزبية، وهم ينتقدون عصمت اينونو ويوجهون اليه الاتهامات. ويرى المؤرخون أن الاتهامات والانتقادات كانت بشكل عام ظالمة وتبعث من خوف الاعيان والسياسيين منه، "لأنه كان معروفاً بنزاهته" و"وعيه"، و"بأنه رجل ذو ضمير"، ما يعني أنه - بعد رحيل مصطفى كمال - سوف "يكون عقبة كأداء في وجه الانتهازيين والوصوليين، الذين - ودائماً حسب المؤرخين - لم يكن لديهم سوى غايتان: أولاهما الوصول الى المواقع العليا في السلطة والاحتفاظ بها، وثانيتهما، ملء الجيوب بأموال الدولة ودافعي الضرائب" في الوقت نفسه، الذي يعلنون فيه أنهم ورثة أتاتورك والمحافظون على تراثه. مهما يكن في الأمر فإن مصطلى كمال أتاتورك كان مدركاً لموضوع الصراع، وكان لا يفتأ يردد، في كل مرة وجه فيها أمامه، انتقاد الى عصمت اينونو، يقول: "انني أعرف ان في امكاني دائماً أن أتكل على وعي ونباهة ونزاهة عصمت". ولكن مع الأيام، كان لا بد لمقاومة أتاتورك، في هذا المجال، أن تضعف، اذ كلما اقترب موعد الحديث عن الخلافة، كلما تكالب السياسيون أكثر وأكثر ضد عصمت اينونو. وفي صيف العام 1937 كان المرض قد اشتد جدياً على مصطفى كمال، من دون أن يجرؤ أحد على أن يطالبه بفحص نفسه لمعرفة ماهية ذلك المرض. ومع اشتداد المرض، أصبح مصطفى كمال اضيق خلقاً وأكثر عصبية وأسوأ مزاجاً. لذلك راح يعطي تعليماته الى بعض الوزراء، من دون الرجوع الى عصمت اينونو، اختصاراً للوقت، وتحسباً دون ممانعة الوزراء من تنفيذ أوامره ان وصلتهم عن طريق اينونو. ولم يكن في وسع اينونو ان يتحمل مثل ذلك الوضع، حتى ولو كان فيه حفاظ على صحة الزعيم ومزاجه، لذلك خلال سفر الاثنين في القطار بين انقرة واسطنبول، واذ جرؤ اينونو وفاتح رئيسه بما ينغص عليه حياته، قائلاً له أن الأمور باتت تتجاوز طاقته على الاحتمال، قال أتاتورك له: "إذا كنت تشعر انك غير قادر على تحمل الأمور، وتحس أنك لم تعد قادراً على التفاهم معي، من الأفضل لنا أن نوقف التعاون في ما بيننا ولو بصورة مؤقتة". وهكذا ما أن أطل اينونو على الصحافيين في مثل هذا اليوم من ذلك العام، وفاتحهم ب"النبأ الجديد"، حتى وقع الخبر كالصاعقة، واعتبر مؤشراً، بين أمور أخرى، على قرب نهاية أتاتورك.