ما أن تُنهي قراءة رواية "تومبوكتو" للكاتب الأميركي الشهير بول أوسْتير، التي صدرت ترجمتها الفرنسية أخيراً عن دار "آكت سود"، حتى يتبادر الى ذهنك السؤال التالي: لو لم يكن بول أوستر نفسه هو كاتب رواية "تومبوكتو"، فهل كانت هذه لتحظى باهتمام النقاد أو القراء أو المعنيين بالأدب بشكل عام؟ هل كانت لتُنقل مثلاً الى لغات أخرى كي لا تضيع على من لا يقرأ الإنكليزية فرصة الاطلاع عليها؟ وهل كنت أنت نفسك، على تواضع مكانتك وآرائك وثقافتك، لتغامر بتناولها في مقالة حتى وان كانت هذه الأخيرة لن تطول إذا طالت، إلا قلّة قليلة من مواطني هذا العالم الشاسع الفسيح؟ أعتقد أن قارئاً متوسطاً كي لا نقول متطلباً، أكان أميركياً، أوروبياً، آسيوياً، أفريقياً أو عربياً، سيلتقي عند قراءته لهذه الرواية مع آخرين كثر سواه حول رأي بسيط مفاده أن هذه الرواية متوسطة جداً من حيث مستواها الأدبي، كي لا نقول انها أقل من متوسطة، مخيّبة أو سيّئة... لكن، يبقى السؤال الأساسي: لم الكتابة إذاً عن هذه الرواية والأعمال المهمّة التي تستحق التعريف بها ليست على ندرة أو قلّة أو خفاء؟ ببساطة، لفشّ الخلق! ذلك أن لي صديقاً فلسطينياً منفياً في فرنسا كان قد كتب رواية نشرها عام 1994 في الناصرة تحمل عنوان "أمراء خان الصفا" وبطلها سائق تاكسي يتحدّث طوال الرواية الى كلب، وأن أحداً من النقاد أو القرّاء العرب لم يوله شيئاً من الاهتمام، لا مدحاً ولا ذمّاً، على رغم أن روايته على هناتها، أفضل بكثير وأمتع وأرقى مستوى من رواية بول أوسترك خصوصاً وأن رواية "تومبوكتو" لا تتميز بشيء، سوى أن بطلها كلب! أجل بطل رواية "تومبوكتو" كلب! وهو ليس بطلاً فحسب، بل هو الراوي والشخصية الرئيسية التي يُفترض بنا أن نتابع قصتها ونكتشف أحاسيسها، همومها وهواجسها. ولو كان كلب أوستر، أي "السيد بون" كما يرد اسمه في الرواية، يضيف شيئاً الى أدبية هذا العمل الروائي، أي لو أن استخدامه كبدعة تأليفية يفتح أمام هذه الرواية آفاقاً مغايرة أو يضيف اليها أبعاداً فنية أو يمدّها حتى بنوع من الغرائبية أو الاستثنائية، لما كان من الممكن التوقّف عند هذا الخيار إلا بغية استظهار نيّاته وتبيّن أوالياته وقوانينه ومزاياه وإضافاته. غير أن بطل رواية "تومبوكتو" الكلب، يبقى كلباً في النهاية. ولا نقول ذلك للانتقاص من قيمة الكلاب أو لنعتها بمحدودية الرؤية وقصر النظر وضيق المخيّلة، بل لأن بول أوستر يقع منذ الصفحات الأولى أسير خياره الاستثنائي هذا، وهو خيار تقتضي أصول السرد والتأليف أن يتمّ التعامل معه على أنه خيار "طبيعي" أو "اعتيادي" إذا صحّ التعبير، كي لا يقع المؤلف تحت وطأته فيكتفي به ويرتاح عليه كأنما هو العصا السحرية التي ستنثر على النص الروائي رذاذاً عجائبياً يصبغه بالفرادة والندرة والعمق، ويموّه فيه كل مواقع الضعف والنقص. هي الفكرة الغريبة أو الغرائبية التي ينحاز اليها بول أوستر في هذه الرواية، غير أنه ما أن يركب قطار الكتابة حتى يلجأ الى النوم معتقداً أن فكرته هذه تملك ما يكفيها من الوقود وقوة الدفع كي تصل الى وجهتها من دون أن تستوجب منه تدخّلاً أو مقاومة. هكذا يُسلم بول أوستر زمام أموره كروائي الى فكرته "الاستثنائية" تلك، فيمسك رسنها منقاداً وراءها، كما لو أن فكرته هي بطله الكلب الذي يمسك بيده كي يقوده الى حيث تذهب به أقدامه. والمشكلة لا تقوم في انقياد بول أوستر كروائي وراء بطله، فهذا ما يقع غالباً لكثير من المؤلفين الذين كثيراً ما رووا كيف استقلّت شخصياتهم عنهم فراحت تسيّرهم، بعد أن كانوا هم من يقومون بتسييرها. المشكلة هي أن أوستير لم يختر الكلب البطل المناسب، أي ذاك الذي سيجعل من هذه التجربة مغامرة مليئة بالمفاجآت، بالفرادة أو بالعمق، بل اختار كلباً مسطّحاً لم يتحوّل الى شخصية، فجاءت روايته رتيبة السير، محدودة الرؤية، ضيقة الخيال وفقيرة الحساسية. تبقى العناصر السردية التي يختارها أوستير في روايته هذه شبيهة بتلك التي تتشكّل منها معظم أعماله الروائية السابقة، أي الغرابة بمعنى الهامشية واللامألوف، أو بمعنى الانخراط في عوالم تحيا تدريجياً الدمار، الانهيار والزوال، وتروح من الكثرة الفوضوية الى الفراغ المخلِّص. عوالم منهارة هي على مسافة وسطية بين الواقع والخيال، بين العدمية والأمل، الشاعرية والنبوّة، الخطيئة والقدسية، كما هي الحال في "الثلاثية النيويوركية" أو في عمله "اختراع الوحدة". وهي روايات تنتهي على فراغ هائل يلي خراباً كونياً، أو على بياض قدسي ينتهي إليه فساد الأشياء والأجساد ودمارها. فسيد "السيد بون" أو صاحبه هو ويليام الشاعر الشاب المدمن على المخدرات الذي ظهر له بابا نويل على شاشة التلفزيون ذات يوم مخاطباً إياه شخصياً، فقرّر أن تكون له مهمة في الحياة ألا وهي "تسجيد رسالة عيد الميلاد في كل يوم من أيام السنة، عدم طلب أي شيء من العالم ومبادلته بالحب. بمعنى آخر، لقد قرّر ويليام أن يتحوّل الى قديس". ويروي الكلب كيف بدّل صاحبه اليهودي شُهرته فأصبح يُدعى ويليام كريستماس، كيف وشم رسم بابا نويل على ساعده، وكيف أصبح متشرداً يحيا في الأزقة برفقة كلبه "السيد بون". غير أن حياة التشرد والتسكع تلك ستستهلك ويليام بشكل مبكر، فيتوفى هذا الأخير تاركاً "السيد بون" وحيداً مع مصيره المعلّق. وما الفصول اللاحقة من الرواية، سوى ذكريات الكلب عن سيّده، أحلامه التي تجعله ناطقاً يتناقش وإياه فيما يشغل باله، والمغامرات التي ستقع له خلال رحلاته للبحث عن صاحب أو سيد آخر يتبنّاه. هكذا وتباعاً، يلتقي "السيّد بون" بمجموعة من الأولاد تجعله يكتشف القسوة التي تميز البشر أحياناً، يليهم طفلٌ صيني الأصل يخبئه في بيته بالسر عن والديه الى أن يتم اكتشافه، فيهرب "السيد بون" ويحيا حياة التشرد والتسكّع والذعر الى حين وقوعه، وبناء على نصيحة ويليام الذي يجيئه في الحلم، على عائلة برجوازية تتبناه هذه المرة بالإجماع وتصالحه مجدداً مع الصنف البشري. تسافر العائلة لإمضاء العطلة الصيفية، فتقوم بوضع "السيد بون" موقتاً في مركز خاص يُعنى بالكلاب. غير أن "السيّد بون" المصاب بالحمّى يهرب، ثم يرى ويليام في الحلم، فيعده ذاك بأنه ينتظره في "تومبوكتو"، أي في العالم الآخر الذي يرحل اليه الناس بعد وفاتهم، لأن الكلاب من أمثاله مقبولة هناك. يستجمع "السيد بون" آخر قواه كي ينزل الى الشارع العريض حيث تمرّ السيارات مسرعة، علّ سيارة تصدمه فتحمله الى "تومبوكتو" قبل انتهاء النهار. قد تشبه رواية "تومبوكتو" قصص أفلام والت ديزني التي تزخر بشخصيات الحيوانات، إلا أنها تبقى دونها من حيث البدعة والتخييل. ربما لأن أوستير الذي يعدنا برحلة تشبع نَهَمَنا، لا يذهب بخيالينا الى أي مكان" وربما لأنه يرمي الينا بما سيدغدغ مشاعرنا، فنبقى منتظرين حتى نصاب بما يشبه التحسس والحُكاك" وربما لأنه فصلاً وراء فصل، يلوّح بمفاجآت لا تقع، وان وقعت فلكي توقعنا بالخيبة والملل بعد طول انتظار. وربما لأننا شعرنا بشيء من الغيظ بعد قراءة هذه الرواية، غيظ من يعد نفسه بعدم الوقوع مجدداً في فخاخ وسائل الإعلام،، قرّرنا أن نكتب هذا المقال لشيء من الدفاع عن النفس، أو لذرّة من الانتقام!