قضت سنة الله في الانسان أن جعله يمر بمراحل متعددة في رحلته الدنيوية، فيبدأ وليداً ضعيفاً، ثم شاباً قوياً، وأخيراً شيخاً ضعيفاً. ولقد عنيت الشريعة الاسلامية برعاية هذا الانسان منذ نعومة أظفاره وحتى مماته. وتزايدت في الآونة الأخيرة دعوات الاهتمام بهذه الفئة، كما بذلت جهود علمية لخدمتهم. وانصبت تلك الجهود على النواحي المادية الصرف، فظهر ما يسمى بنظام التقاعد والتأمينات الاجتماعية، كما تم تخصيص العام 1999 سنة دولية للمسنين بدعوة من الجمعية العامة للأمم المتحدة. وان كان هذا التنادي بين الدول المعاصرة لم يبرز الا في السنوات الأخيرة، فان الاسلام نظم هذا الأمر وأكد عليه قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، وانعكس ذلك على سلوك المسلمين في تعاملهم مع المسنين. وسنذكر في هذا المقال أبرز المرتكزات التي تقوم عليها هذه الرعاية لكبار السن، وبعد ذلك مظاهر هذه الرعاية المتميزة للكبار في التصور الاسلامي.وبداية ينبغي أن نعرف أن لفظ المسن كثيراً ما يرتبط لدى بعض الباحثين في علم الاجتماع بسن معينة وهو سن الستين، فيقال: المسن هو من تجاوز عمره الستين. ومن المعلوم أن هذه المرحلة نسبية وتتفاوت من فرد لآخر، فبعض من بلغ هذا العمر أو تجاوزه قد يكون نشيطاً ولا تظهرعليه بوادر السن أو الشيخوخة، وربما نجد من هو دون هذا العمر وقد ضعف واشتعل رأسه شيباً. لذا نستطيع القول ان العمر التاريخي للانسان يعد معياراً غير دقيق لتحديد مرحلة وصفه ب"المسن". ويمكن ترتيب مراحل عمر الانسان استظهاراً من معاجم اللغة بعد مرحلة المراهقة كالتالي: شاب، ثم كهل، ثم شيخ، ثم هرم. فكل من تجاوز مرحلة الشباب وهي الى الأربعين فهو مسن في اللغة. ونلحظ أن آخر هذه المراحل هي مرحلة الهرم، وهذا هو الذي تعوذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله "اللهم اني اعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم". وتقوم رعاية المسنين في الاسلام على أسس عدة تنطلق منها أوجه الرعاية التي تقدم لهذه الفئة، وأبرز هذه الأسس ما يلي: 1- الانسان مخلوق مكرم، ومكانته محترمة في الاسلام: لقد أسجد الله له ملائكته حين خلقه، قال تعالى "اذ قال ربك للملائكة اني خالق بشراً من طين * فاذا سويته ونفخت فيه من روحي فَقَعوا له ساجدين* فسجد الملائكة كلهم أجمعون". وهو سجود اكرام واعظام واحترام كما ذكر المفسرون، قال تعالى "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً". 2- المجتمع المسلم مجتمع متراحم متماسك متواد: قال تعالى واصفاً المجتمع المسلم "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم"، ويصف الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد، وذلك في ما رواه النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى". 3 - المجتمع المسلم مجتمع متعاطف متكاتف متعاون: لقد حض الاسلام وحرص على أن يجعل المجتمع المسلم متآزراً متعاوناً يشد بعضه بعضاً، وذلك من خلال الحث المتواصل لأفراده على خدمة بعضهم بعضاً، وتفريج كرب اخوانهم المسلمين، وادخال السرور على أنفسهم. ورتب على ذلك الأجر الجزيل، وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل:أي العمل أفضل؟ قال: "أفضل العمل أن تُدخل على أخيك المؤمن سروراً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً". 4- المسن المؤمن له مكانته عند الله ولا يزاد في عمره الا كان له خيراً: تضافرت الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن لا يزاد في عمره الا يكون خيراً له، فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه انه اذا مات أحدكم انقطع عمله وانه لا يزيد المؤمن عمره الا خيراً"، وعن أنس رضي الله عنه قال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بخياركم قالوا: بلى يا رسول الله، قال: خياركم أطولكم أعماراً اذا سددوا". 5- توقير الكبير والتشبه به سمة من سمات المجتمع المسلم: يتصف المجتمع المسلم بصفات كريمة، منها: توقير الكبير في السن. وقد تواتر حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على اكرام الكبير وتوقيره، ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ان من اجلال الله اكرام ذي الشيبة المسلم". كما أخرج الترمذي عن أنس قال: جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا". 6- المسن ذو الشيبة المسلم له منزلة ومكانة متميزتان في الاسلام وذلك بما ألبسه الله من ثياب الوقار بشيبه، فلقد روى كعب بن مرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من شاب شيبة في الاسلام كانت له نوراًَ يوم القيامة". 7- وجوب تقديم الرعاية الشاملة للمسن من قبل الدولة، ذلك أن المسن يدخل ضمن الرعية التي يعد امام المسلمين راعياً لهم ومسؤولاً عنهم، كما في حديث عبدالله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالامام راع وهو مسؤول عن رعيته". وهذه المسؤولية التي تلزم امام المسلمين تجاه رعيته، ومن بينهم المسنون، هي مسؤولية شاملة لجوانب الرعاية كلها وما تحمله من وجوه ومعان. وبعد فهذه أبرز الأسس التي تنطلق منها أوجه الرعاية المقدمة للمسنين في الاسلام، أما أبرز الممارسات العملية لرعاية كبار السن في المجتمع المسلم فهي رعاية الوالدين باعتبارها مظهراً من مظاهر رعاية المسنين، فلقد أوصى الله بالوالدين خيراً وأمر ببرهما وجعل الاحسان اليهما قرين عبادته، قال تعالى "وقضى ربك ألا تعبدوا الا اياه وبالوالدين احساناً". كما جعل شكره قريناً لشكر الوالدين، قال تعالى "ووصينا الانسان بوالديه حملته امه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك اليّ المصير"، وفي جعل الشكر لهما مقترناً بالشكر لله دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد وأكبرها وأشدها. وعلى كل حال فمما سبق من الآثار والأحاديث في بر الوالدين يتضح لنا أمر جلي آخر مصاحب للبر وهو أن كل هذه الرعاية التي تقدم للوالدين يمكننا أن نعدها مظهراً من مظاهر رعاية المسنين في المجتمع المسلم، اذ الغالب الأعم أن الوالدين كبيران في السن، فإلى جانب البر الذي أمر الله به للوالدين نجد هناك رعاية للمسن في المجتمع، وهو نوع من أظهر أنواع رعاية المسنين في المجتمع المسلم. وكما أوصى الاسلام ببر الوالدين في حياتهما، فتح باب البر حتى بعد وفاتهما، وجعل من أبواب برهما صلة صديقهما بعد وفاتهما، فلقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من البر أن تصل صديق أبيك"، بل عده الرسول من أبر البر، أخرج الامام مسلم عن ابن عمر أن رسول الله قال: "ان من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه". ولقد تمثل المجتمع الاسلامي الأول ذلك البر وتعامل معه واقعاً عملياً وتطبيقياً، فقد بلغ بهم الأمر أن يسافر أحدهم ليصل أصدقاء أبيه، ففي المسند أن يوسف بن عبدالله بن سلام قال: "أتيت أبا الدرداء في مرضه الذي قبض فيه، فقال لي: يا ابن أخي: ما أعمدك الى هذا البلد؟ أو ما جاء بك؟ قال قلت: لا، إلا صلة ما كان بينك وبين والدي عبدالله بن سلام". ان رعاية المسنين قد لا تبدو ظاهرة من هذه الآثار، ولكن بتأمل بعض جوانبها يتضح لنا ذلك. فمما لا شك فيه أن صديق الوالدين في الغالب الأعم كبير السن فعندما يقوم المسلم بصلة صديق والديه واكرامه فهو في حقيقة الأمر يقوم برعاية لمسن في المجتمع، الى جانب بره بوالديه، وهذه احدى صور البر الرائعة في المجتمع المسلم، والتي تساعد أفراد المجتمع في القيام بدمج المسن في المجتمع، كما يؤدي ذلك الى القضاء على العزلة التي قد يمر بها كبير السن أو يشعر بها. وبهذا التوجيه الكريم استطاع الاسلام أن يخفف من آثار التغيرات الاجتماعية والنفسية التي يمر بها المسن، فحين يزور أفراد المجتمع أصدقاء آبائهم، فهم بذلك يبرون آباءهم، وذلك يعني أن الجيل المتوسط في المجتمع ارتبط تلقائياً بجيل كبار السن. أما المسن في المجتمع المسلم بشكل عام فله مكانته المتميزة، اذ يتم التعامل معه بكل توقير واحترام يحدوه في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا". وجميع هذه الممارسات لها أصل شرعي، بل فيها حث وتوجيه نبوي فضلاً عن ممارساته صلى الله عليه وسلم مع المسنين وتوجيه أصحابه نحو العناية بالمسنين وتوقيرهم واحترامهم وتقديمهم في أمور كثيرة. فها هو يأمر خادمه أنساً صراحة بذلك، ففي الحديث "يا أنس ارحم الصغير ووقر الكبير". ولقد تطبع أفراد المجتمع المسلم بذلك الخلق وتوارثوا توقير الكبير واحترامه وتقديره انقياداً لتعاليم دينهم، واتباعاً لسنة رسولهم. كما تشرب المجتمع المسلم ذلك الطبع وهذا الاحترام والتوقير لكبار السن، وأصبح سمة من سماته، فلا تكاد تجد كتاب حديث أو زهد أو توجيهات أو نصح الا ويعقد فيه باب أو أكثر عن توقير الكبير أو تسويده أو احترامه أو اكرامه، بل وضعوا قواعد لذلك، فيقرر ابن عقيل أن من مشى مع انسان أكبر منه فيمشي عن يمينه يقيمه مقام الامام في الصلاة، وان كانوا جماعة فيستحب مشي الجماعة خلف الكبير. اذاً فالمسن في المجتمع المسلم يعيش في كنف أفراده، ويجد له معاملة خاصة تتميز عن الآخرين. ولم تقتصر هذه الرعاية على المسن المسلم، بل امتدت لتشمل غير المسلم طالما أنه يعيش بين ظهراني المسلمين، فها هي كتب التاريخ تسطر موقف عمر رضي الله عنه مع ذلك الشيخ اليهودي الكبير، فيذكر أبو يوسف في كتابه "الخراج": "ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، فقال: من أي أهل الكتب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك الى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر رضي الله عنه بيده فذهب به الى منزله، فرضخ له أي أعطاه من المنزل بشيء ثم أرسل الى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه اذا أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم "انما الصدقات للفقراء والمساكين"، فالفقراء هم المسلمون والمساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه". واضافة لتلك الرعاية الخاصة، يمكننا أن نلمس صوراً من الرعاية العامة للمسنين، وذلك حينما تعجز الأسر عن تقديم الرعاية اللازمة أو حينما لا يكون هناك ثمة راع أو معين لذلك المسن. فلقد برز في المجتمع المسلم ما يسمى بالأربطة وهي أماكن تهيأ وتعد لسكنى المحتاجين، وأصبح بعضها ملاجئ مستديمة لكبار السن. فالأصل هو رعاية المسن في أسرته فهو قربة لله عز وجل ثم الفرع وهو ظهور هذه المؤسسات الاجتماعية مثل: الأربطة، والأوقاف، والدور الاجتماعية، وهي في نبعها جهود شعبية من أفراد المجتمع المسلم، ثم دخلت الدولة في تنظيمها والاشراف عليها. وبالنسبة الى النساء فقد أذن للمرأة كبيرة السن في ترك الحجاب الشرعي الذي تؤمر به صغيرة السن الشابة، قال تعالى "والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جُناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم"، قال المفسرون عند هذه الآية: ان الله رخص للمرأة الكبيرة أن تضع ثيابها عنها، والمراد هنا ما كان على ظاهر البدن الا الثياب التي على العورة الخاصة، فأباح الله لهن ما لم يبح لغيرهن. كما امتدت يد الرعاية في المجتمع المسلم لكبار السن حتى في حالة الحرب، فمن المعروف أن العالم الحديث لم يعرف آداب الحرب الا في القرن الماضي، في حين جاء بها الاسلام قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. أما في الاسلام فكانت هذه الآداب الحربية تطبق ابتداءً، حتى ولو لم يكن هناك أية اتفاقات أو معاهدات، فها هي سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم تنطلق يمنة ويسرة، ولقد اشتملت وصاياه صلى الله عليه وسلم ووصايا خلفائه من بعده الى الجيوش على عدد من التوجيهات والوصايا وشملت جوانب عدة منها: العناية بالشيوخ وكبار السن والاهتمام بهم وعدم قتلهم أو التعرض لهم. روى الطبراني عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا بعث جيشاً أو سرية دعا صاحبهم، فأمره بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: اغزوا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا وتغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً ولا شيخاً كبيراً". ويتضح من نص الحديث أن ذلك كان ديدنه صلى الله عليه وسلم لله عليه في كل غزوة أو سرية، ولم تكن محض صدفة أو مقولة يتيمة خرجت من فمه صلى الله عليه وسلم، فالراوي يقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا بعث جيشاً أو سرية"، فاللفظ يدل على تكرار ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم. * باحث سعودي.