ليس بين الاستعادة والاعادة مسافة ما. وهنا، لا أريد أن أستعيد عن عبدالوهاب أشتاتاً من ذكرى ظلت محتفظة بطراوتها، على تقادم السنين، فعبدالوهاب لا يستعيد لئلا يعيد والذكرى عنده اشارة، وإلا فهي موت أشد بؤساً في حاضر مقتسم مرفوض... المستقبل وحده يظل المنطلق والمطلق. وبين الإشارة والمطلق، رحلة صعبة، وخيار أصعب، وعرق نافر. ولأني أرى في ملمح من الذكرى ما يشير وينبىء، فلأقل شيئاً: في الخمسينات الأولى، كان الشعراء التقدميون، يهزون ضمير شعب كامل، كانوا يمنحونه - وهو الأعزل المستلب - احساس الفرح بآت لا ريب به، وكان ذلك الآتي الذي لا ريب فيه، يبدو أبعد من أبعد نجم. هذا التفاؤل الواثق كان أعمق ما أدهشني في علاقتي الشعرية الأولى بعبدالوهاب، حين كنت أرسل اليه قصائدي، من البصرة، ببريد آخر. لا يزال هذا التفاؤل الواثق أعمق ما يدهشني. كنت أحياناً أجد عند عبدالوهاب، مرارة الطفل الجائع، وانها لمرارة يضيق بها شعره، وقد يضيق بها قارىء لشعره، لكن عبدالوهاب لا يضيق بها حتى إذا آنس في دجنته شؤبوب ضوء، ولو كان واحداً وحيداً، غمر الألق الوضاء ديواناً كاملاً. هذه المرارة التي تتأكله، والتي تركت ميسمها على شفتيه، عبر السنين الطوال، كانت له الزاد والمنعة: لولاها لاستمرأ، ولرضي، لولاها ما كان الرافض، المبحر، ميتاً أو واقفاً، لولاها ما كان هو. شاعر عراقي.