عرفّ بعض الموسوعات التربية فجاء فيها: "تربية Education: وهي تعهد أي امكانات وإنماؤها، وتدريب الشخص ومده بالمعلومات، ولا تعني النضج Maturation وان كان النضج والتربية يتداخلان في كثير من الحالات" الموسوعة المختصرة في علم النفس والطب العقلي ص 160. وجاء في موسوعة أخرى: "تربية ,Training Education عبارة عن طريق يتوصل بها الى نمو قوى الانسان الطبيعية والعقلية والأدبية فينطوي تحتها جميع ضروب التعليم والتهذيب التي من شأنها إنارة العقل وتقويم الطبع وإصلاح العادات والمشارب وإعداد الانسان لنفع نفسه وقريبه في مراكزه الاستقبالية والاعتناء به في الحالة التي يكون فيها قاصراً عن القيام بالاعتناء بنفسه" دائرة المعارف، المجلد السادس ص86. يلتقي التعريفان السابقان على تعهد الإنسان وتنمية قواه من أجل تحقيق العملية التربوية، فما ركائزها عند المتصوفة؟ وما موقف القرآن الكريم منها؟ تقوم التربية الصوفية على ركائز عدة أبرزها ضرورة وجود الشيخ والاتصال به، والتلقي عنه، ولذلك سادت مقولة "من لا شيخ له فشيخه الشيطان". ويأخذ شخص الشيخ في التربية الصوفية حضوراً طاغياً، ويكون أثره في التربية فاعلاً وقوياً، وبالمقابل يجب ان يكون المريد سلبياً أمام الشيخ، مستسلماً له وقد جسدت ذلك مقولة: "يجب ان يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل". وتؤكد التربية الصوفية على ملازمة المريد للشيخ، واستحضار صورته في الأذكار والأوراد. تلك بعض ركائز التربية الصوفية فما مدى اتفاقها مع ركائز التربية القرآنية؟ طرح القرآن الكريم التأسي بالرسول صلى الله عليه عليه وسلم كأهم صورة من صور التربية، لذلك قال سبحانه وتعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً" الأحزاب 21، ومع توجيه القرآن المسلم الى التأسي بالرسول صلى الله عليه عليه وسلم تبرز فروق عدة بين التربية الصوفية وبين التربية القرآنية منها: عدم ضرورة وجود الشيخ الواسطة في العملية التربوية، ويؤكد ذلك إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة لمن يؤدي الفرائض المطلوبة وحدها في إجابته على سؤال الإعرابي له عن المطلوب منه ولم يشترط الرسول صلى الله عليه عليه وسلم عليه صحبته لتحقيق هذا الفوز، فقد ذكر مالك بن أنس: جاء رجل الى رسول الله صلى الله عليه عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يُسمع صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الاسلام، فقال له الرسول صلى الله عليه عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرهن؟ قال: لا إلا ان تطوع، قال رسول الله صلى الله عليه عليه وسلم: وصيام شهر رمضان، قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا ان تطوع، قال: وذكر رسول الله صلى الله عليه عليه وسلم الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا ان تطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه عليه وسلم: أفلح الرجل إن صدق" موطأ مالك، رقم الحديث: 382. ومن الفروق ايضاً بين التربية الصوفية والتربية القرآنية حضور شخص الشيخ الطاغي على شخصية المريد في التربية الصوفية وربط ذلك بكثير من الخوارق في حين تأكيد القرآن الكريم على بشرية الرسول صلى الله عليه عليه وسلم في عملية التأسي من مثل قوله سبحانه وتعالى: "قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إلي انما إلهكم إلهٌ واحدٌ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشركْ بعبادة ربه أحدا" الكهف 110، وقوله سبحانه وتعالى: "قل سبحان ربي هل كنتُ إلا بشراً رسولا" الإسراء 93، وتأكيد القرآن الكريم ايضاً على ان الرسول لا يملك لنفسه النفع والضر ولا يعلم الغيب. قال سبحانه وتعالى: "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملَكٌ إن أتبعُ إلا ما يوحى إلي قُل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون" الأنعام 50. وقد عاتب القرآن الرسول على تصرفات خالف فيها، الأولى من ذلك إعراضه عن ابن أم مكتوم، والتفاته الى أغنياء قريش قال سبحانه وتعالى: "عبس وتولى ان جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذّكّرُ فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزّكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهّى" عبس 1 - 10، ومن ذلك أخذ الرسول صلى الله عليه عليه وسلم بفداء أسرى بدر وكان الأولى قتلهم فنزل قوله سبحانه وتعالى: "ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرضِ تُريدون عَرَضَ الدنيا والله يُريدُ الآخرةَ والله عزيزٌ حكيمٌ" الأنفال 67. ومن الفروق ايضاً بين التربية الصوفية والتربية القرآنية إيجابية المسلم في عملية التأسي التربوية في مقابل سلبية المريد في التربية الصوفية، ويتضح ذلك من خلال ربط القرآن الكريم نجاح عملية التأسي برجاء الله واليوم الآخر وذكر الله حيث قال سبحانه وتعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً" الأحزاب 21، ولا شك في ان امتلاء القلب برجاء الله واليوم الآخر يتطلب من المسلم علماً وعملاً، ويقتضي ايجابيته وفعاليته لكي يتحقق التأسي. ومن الفروق بين التربية الصوفية والتربية القرآنية تأكيد الأولى على عنصر الزمن من خلال ملازمة الشيخ من أجل حدوث التغيير التربوي في المريد، ولكن نجد التربية القرآنية لا تعتمد هذا العنصر ويدل على ذلك تعريف الصحابي بأنه المسلم الذي رأى الرسول صلى الله عليه عليه وسلم ولو مرة واحدة ومات على الإسلام. ويؤكد القرآن ذلك في ايمان السحرة بموسى عليه السلام، وسجودهم لله وتحملهم الأذى في سبيل الله بل موتهم في سبيل الله بعد ذلك، مع أنهم لم يصحبوا موسى، ولم يروه إلا لدقائق معدودة قبل الإيمان وقبل الانقلاب الكامل في حياتهم، وهذا ما جعل فرعون يتهمهم بالتآمر مع موسى عليه السلام، قال سبحانه وتعالى: "فألقي السحرة سجّداً قالوا آمنا برب هارون وموسى عليه السلام. قال آمنتم له قبل ان آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى. قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البيانات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاضِ انما تقضي هذه الحياة الدنيا. إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى" طه 69 - 73. إن وعي علماء المسلمين لأهمية التأسي بالرسول صلى الله عليه عليه وسلم في بناء كيان الأمة الاسلامية هو الذي جعلهم يلتفتون الى سلوك الرسول صلى الله عليه عليه وسلم وأخلاقه وتصرفاته في كل مجال ويحرصون على تدوين أدق التفاصيل فيها من أجل ان تقتدي الأمة بها لأنها مأمورة بذلك. * كاتب فلسطيني.