كانت الحقيبة التي صنعها عم عباس نوار، النجار المجاور لورشة الحاج أبي، من خشب ثقيل ومتين تكاد تزيد في وزنها عن وزن الصبي الذي يعبئها بكتبه وكراريسه ودواة للحبر وريشة وأقلام، مكتبة متنقلة، هذه أوامر حضرة الناظر سدراك أفندي، وبهذا الحمل الثقيل يتهادى الصبي عبر شوارع المنصورة: سيدي عبدالقادر، سوق الخواجات، ثم مشوار في شارع الصيادين حتى مدرسة الأميركان. الجميع يذهبون إلى كنيسة صغيرة جداً تسمى "تشابل" يصطفون صفوفاً، سدراك أفندي يفتش على الأظافر والشعر بعد أن نخلع الطرابيش، والأحذية التي نحرص على تنظيفها بجواربنا، ثم يأتي القس يمر على كل طفل منا سائلاً: "أنت خاطئ؟" والإجابة "أنا خاطئ"، وهكذا في تكرار ممل، ثم ننصرف. وذات يوم تسمرت "أنا خاطئ" في حلقي. أنا لم أخطئ، على الأقل هذا الصباح لم أرتكب إثما. قلت "لا، مش خاطئ"، كرر القس سؤاله الهادئ وكرر الطفل عناده، كيف يشرح القس البروتستانتي لطفل مسلم أن "كلنا خطاة أمام الرب؟". ارتبك الصف عندما بكيت في إصرار "أنا مش خاطئ"، وكانت مشكلة انتهت بأن اصطف الطابور في حوش المدرسة، واصبح الدخول الى "التشابل" اختيارياً. وعندما يقترب الفتى من الخامسة عشرة يعطيه جاره كتيباً صغيراً عنوانه "رسائل إلى الشباب" بقلم ف. أ. لينين، قرأ، أعاد القراءة مرات ولم يفهم حرفاً واحداً، لكنه ويا للدهشة يتعلق بالكلمات، ربما لأن ما كان يعنيه أشياء لم يهتم بها أحد غير هؤلاء، الفقراء، الاستعمار، الحرية، وحتى هذه كانت غائمة وبدائية في ذهنه. ثم... فجأة أتى "الكونستابل" سعد ومعه عم مصطفى المخبر في عربة حنطور، فتشا البيت، سألت أمي مندهشة عن ماذا يبحثان؟ قال الأول: عن أوراق شيوعية، لا هو كان يعرف ما هي الشيوعية، ولا ما هي أوراقها، ولا حتى أنا. قبض عليّ، وكيل النيابة دهش إذ رأى هذا الطفل، وقال له: روح بيتكم، وفعلاً حاولت أن أعود الى بيتنا لكنهم أعادوني. نحن في نيسان ابريل 1949، أول قضية شيوعية في المنصورة، الناس يعطون "شلنا" للشاويش عبده كي يفتح باب الزنزانة ليروا هؤلاء الشيوعيين، يصدمون: هم بشر مثلهم. ولا أنجو من الاعتقال، يقذفون بي إلى "الهايكستب" لمدة عام أو أكثر، بعد ذلك الى مدرستي وبيتي. ويوم حريق القاهرة - 26 كانون الثاني يناير 1952 - قبضوا عليّ مرة أخرى في إحدى التظاهرات التي هزت المنصورة وأودعوني المعتقل، كنت طالباً في الثانوية العامة، أبي حسبها كتاجر شاطر فقرر أن يدفع رشوة ليخرج الابن ويحصل على الشهادة، صديق له رتب الأمر، وعبر تاجر في "الحمزاوي" في القاهرة اتفق على الافراج عني مقابل خمسمئة جنيه، تدفع الى حافظ عفيفي باشا رئيس الديوان الملكي، وفعلاً أفرج عني، لكن ثورة تموز يوليو باغتت الجميع بعدها بأسبوعين، وذهب الملك وحافظ عفيفي. الغريب أن الأب صمم على دفع المبلغ. أليس تاجراً شريفاً يحافظ على كلمته؟ في الجامعة كلية الحقوق في جامعة ابراهيم - عين شمس في ما بعد - يتفجر الفتى نشاطاً، تكون الأقواس قد تداخلت و"حدتو" الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني التي شاركت في ثورة تموز، تقف الآن في المعارضة مطالبة بالديموقراطية. ولأن ثورة تموز لم تكن تعرف معنى كلمة معارضة فتحت السجون أبوابها، هو بقي أحد عشر عاماً على دفعتين لا تفصل بينهما سوى بضعة أشهر يتعرف فيها على الرفيقة ليلى. يحبها ثم يتزوجها بعد انقضاء فترات السجن. السجن بذاته يمكن احتماله وإن كان التلاصق بين البشر في زنزانة مغلقة دوماً، يجعل الجميع يطلون في أعماق بئر الجميع. تعرف عن الجميع ويعرفون عنك كل تفاصيل ذاتك وذاتهم. وهذا مزعج جداً، وهناك "الانفرادي"، أي أن تعاقب بأن تطوي الزنزانة ذاتها عليها وحدك، أنت مع نفسك وحدكما. الزنزانة ضيقة، مغلقة، أرض اسفلتية، في الصباح يخرجون "النظام" بساط من حبال وبطانية متهالكة وتبقى حافياً وبلا ملابس داخلية. فقط "بدلة" إن جاز هذا التعبير من قماش مفكك، ولا شيء آخر، لا كتب ولا صحف ولا ورق ولا قلم، ولا إضاءة ولا أي شيء. الباب مغلق دوماً، فقط ربع ساعة صباحاً وآخر بعد الظهر لتذهب الى دورة المياه المرحاض. كيف يمضي الوقت؟ إنه فيل ضخم لا يتحرك، كيف تحتمل الأقدام الحافية الثلج الأسفلتي؟ كيف تستند على الحائط فتبتل ملابسك؟ فالحائط يبكي دوماً من رطوبة سجن القناطر في شمال القاهرة، الحل الوحيد هو التهاب رئوي حاد. الطبيب الدكتور صادق لا يملك سوى اسبيرين وكوب لبن و"يُصرف له فانلة وحذاء". والمأمور مدير السجن يضع تأشيرة لا تتغير "تستأذن المباحث العامة"، لكن المباحث العامة لا تأذن. ويبتسم الدكتور صادق في ملل "حذاؤك يهدد أمن الدولة". أما التعذيب فهو وحشي طبعاًَ، لكن المحيّر في الأمر أنه بلا معنى، لأنه بلا هدف. قد تعذب سجيناً كي يعترف على رفاقه، أو كي يتراجع عن معتقده، لكنهم كانوا يضربوننا من دون أسئلة، أو طلبات، فقط يعذبونك. وأشهد أن الجسد الإنساني خُلق ليحتمل ما لا يُحتمل. دوماً سألت نفسي ماذا كانوا يريدون؟ ولا أجد إجابة سوى الإذلال، التشفي، أن تنكسر، ولم أنكسر. ولأنه "كل هم يزول" اصبح الآن في الحادية والثلاثين نحو الاغتراب. هو عرف السجن ونسي الآخر، سمع عن التلفزيون ولم يره، نسي هل يدور قرص الهاتف إلى الشمال أو اليمين تراهن مع سجين مثله وخسر الرهان، فقد تلك الفترة المسماة فترة الشباب، تلك الفترة التي يلهو فيها الشبان ويعبثون أو يتعابثون، وخرج ولم يزل طالباً في السنة الثالثة في كلية الحقوق. كان يتأسى من أن الزمن يمضي والعمر تتراكم سنواته وهو لم يزل "محلك سر" في الدراسة، قال سجين له: عندما تخرج، انجز ما تبقى من عامين دراسيين ثم احصل على الدكتوراه، وبها تقترب ممن سبقوك. الفتى الريفي الذي تكون فكرياً وعقلياً ووجدانياًَ في السجن وليس أي سجن يواجه الحياة الصاخبة. أول يوم لامست أقدامه الحرة طرقات القاهرة، وجد صحفاً على الأرصفة تنادي من يقرأ. كم ظل محروماً من الصحف، أخرج جنيهاً ليشتري صحيفة، أخرجه عن عمد فهو لا يعرف كم ثمن الصحيفة. البائع قال: مفيش فكة عملات صغيرة وبعد قليل يعمل هذا الفتى في صحيفة "أخبار اليوم" ثم يصبح مديراً لمكتب رئيس مجلس إدارتها خالد محيي الدين ومنه يتعلم الكثير... وبه وبعلاقته معه يخترق سدوداً كثيرة. ويبعد خالد عن "أخبار اليوم"، فيطاح هو أيضاً. لكنه يتذكر نصيحة صديق السجن.. يعد رسالة دكتوراه الفلسفة، بعدها يقرر أن يواصل دراسته الاكاديمية. استاذه الألماني قال إن دكتوراه العلوم ليست سهلة، فأنت تريد أن تصبح مثلي. أربعة عشر عاماً، واربعة عشر بحثاً تحول كل منها إلى كتاب، ثم حصل على دكتوراه العلوم. ثم يقفز كانون الثاني يناير 1977 في وجه الجميع: السلطة ونحن. كان أعقد الدروس وأعقد الاختبارات، عن ماذا نبحث دوماً؟ تحريك الجماهير تحت شعاراتنا، أليس كذلك؟ وها هي الجماهير تحركت، بأكثر مما كنا نحلم به. ملايين المصريين في كل مصر يصرخون بشعاراتنا ويواصلون التظاهر، ولكن، متى يمكن أن تتحرك سلطة دولة العالم الثالث؟ وفي أي اتجاه، وما قيمة الرأي العام وتظاهرات الملايين؟ وماذا بعد التظاهر؟ وإلى متى نتظاهر؟ ثمان وأربعون ساعة هزت فيها مصر النظام، ويخيل إليك أن مصر كلها معك... لكن، ماذا تفعل بها؟ وكيف تتصرف فيها؟ وتصبح بلادة النظام جزءاً من حصنه وحصانته. ثم يطلق السهم الأخير، نزلت دبابات الجيش إلى الشارع، والمصريون يمتلكون ذكاء يكفيهم لكي ينسحبوا أمام الجيش. ومن جديد إلى السجن، الآن في سجن القلعة، تكتمل بهذا دورته على كل السجون، فجأة أخلي السجن، وبقي فيه وحده. اشتكى في الماضي من الحبس منفرداً في زنزانة، هو الآن منفرد في سجن، محاورات كثيرة، محاولات لإلصاق تهمة التحريض على كل ما كان. وهل كان بإمكان أحد أن يحرض على كل ما كان؟ ثم محاولة إغراء، الإفراج مقابل الاستقالة من حزب التجمع وتعهد بعدم الاشتغال بالسياسة، ثم لا شيء، فبعد الرفض وجدوا أن لا دليل ضده وأفرج عنه. ويبقى فيه بقية من قدرة على الشغب في التلفزيون وبالمصادفة البحتة. شاهد مناقشة أطروحة السيدة جيهان السادات. صُعق من حجم التدليل الذي سكبته لجنة مناقشة الأطروحة المناقشة أذيعت كاملة في التلفزيون. تحركت شهيته للشغب. كتب مقالاً عنوانه "يا زوجات رؤساء الجمهورية... اتحدن". حكى حكاية زوجة ماو تسي تونغ، كيف تملقوها وسموها عبقرية العبقريات، وكيف نالت أكثر من درجة دكتوراه، ثم ومع الغروب وعندما مات الزوج سجنوها، حاكموها، شتموها في الصحف وفي المحكمة. كيف يمكن أن تحتج؟ خلعت ثيابها بالكامل أمام المحكمة، جرى القضاة منسحبين، ثم اقترح المقال في براءة أن تشكل زوجات رؤساء الجمهورية اتحاداً يضمن مستقبلهن بعد وفاة الأزواج، واقترح له شعاراً "يا زوجات رؤساء الجمهورية اتحدن: الديموقراطية أو الاستربتيز". مر المقال لكنه لم يبتلع. ومن جديد إلى سجن القلعة، المحقق لم يجد أسئلة، فليس من اللائق أن يسأل عن هذا الموضوع، كما أن الموضوع لم يلمس أحداً سوى زوجة ماو تسي تونغ. على أية حال أفرج عنه بعد فترة. وهناك في رحلة الحياة أشياء أخرى جميلة: بيت، زوجة، أولاد: خالد وغادة، وأحفاد: نيفين ورامي... وكتب خمسة وأربعون كتاباً وعمل سياسي. والأجمل في حياتنا جميعاً حزب التجمع. لكن السجن يظل البصمة التي تلاحق سجيناً مزمناً. وتتواصل السنوات، تتراكم، تبلغ السابعة والستين، كتب مذكراته، وكأنه يضع نقطة الانتهاء. ويتبقى ما يتبقى من أيام، هو الآن يدبر، يرتب: أن يجد الفرصة كي يستريح في ما يتبقى من أيام. ويبقى السؤال الأكثر تعقيداً: "كيف، ومتى يمكن للإنسان أن يستريح؟". بل ما معنى كلمة "يستريح"؟ كاتب مصري. الأمين العام لحزب التجمع