من أهم المفاهيم التي شاعت في الأدبيات السياسية في فترة ما بعد الحرب الباردة هو مفهوم "إجراءات بناء الثقة" باعتباره مدخلاً أساسياً لحل الصراعات الدولية، وبناء السلام. فأينما نظرت في الادبيات السياسية الدولية الراهنة حول حل الصراعات الدولية، وبالذات في العالم الثالث، لوجدت أن الحديث يكاد ينحصر حول تلك الاجراءات باعتبارها العلاج النهائي لكل اشكال الصراعات. فأنت تجد هذا المفهوم في ادبيات المشاركة الاوروبية - المتوسطية، وفي عمليات تسوية النزاعات في جنوب وشرقي اسيا، بل إن جمهورية كازاخستان عندما فكرت في أنشاء إطار للأمن الاسيوي اطلقت عليه اسم "مؤتمر اجراءات التفاعل وبناء الثقة". وظهر مفهوم "إجراءات بناء الثقة" في اطار عملية الإنفراج الدولي بين المعسكرين الشرقي والغربي ابتداء من سنة 1972، وتم تدشينه رسمياً في مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الاوروبي سنة 1975، وتطويره في ما بعد بحيث اصبح يشمل بعداً عسكرياً تحت مسمى "إجراءات بناء الثقة والأمن". وهذه الاجراءات في جوهرها هي ذات طبيعة عسكرية تشمل تبادل المعلومات حول القوات المسلحة، ونظم التسليح بين الاطراف، والاخطار المسبق بالمناورات العسكرية، ودعوة الاطراف الاخرى لمراقبة تلك المناورات مع إخطارها مسبقاً بتحركات القوات، والسماح للأطراف الاخرى بالتفتيش المفاجئ على بعض المنشآت العسكرية. والهدف من كل تلك الاجراءات هو طمأنة الاطراف الاخرى الى نيات الدولة، وخلق إطار من الثقة المتبادلة، بافتراض ان هذه الثقة ستخلق المناخ المناسب لتسوية الصراعات وبناء السلام. إن جاذبية مفهوم إجراءات بناء الثقة تتبع من بساطته وتركيزه على عنصر الثقة بين البشر كمدخل لتسوية الصراعات، لكن تأمل أسلوب طرح المفهوم في فترة ما بعد الحرب الباردة، يوضح ان له دلالات خطيرة ينبغي الحذر منها، حتى لا يتحول كما يريد البعض الى اداة لتكريس الاستيلاء على الاراضي. فالمفهوم كما يطرح حالياً يركز على ادخال اجراءات بناء الثقة. فإذا تراكمت تلك الاجراءات فإنها ستؤدي في مرحلة لاحقة الى حل مشكلة الاراضي المحتلة. ومقولتنا الاساسية في هذا المقال هي ان هذا الطرح يتسم بخلل شديد. فهو من ناحية لا يتسق مع الخبرة الاوروبية في السبعينات، كما انه من ناحية اخرى، يركز على الناتج النهائي لعملية بناء الثقة ويتجاهل شروطها التي ادت الى نجاحها في الخبرة الاوروبية، وبالتالي يتحول المفهوم الى اداة لتكريس الاحتلال الاقليمي، كما هو الحال في الصراع العربي - الاسرائيلي. من المؤكد أن تبني مفهوم إجراءات بناء الثقة في اوروبا في منتصف السبعينات أسهم في إقرار الامن الاوروبي. بيد ان نجاح هذا المفهوم في الخبرة الاوروبية لم يتحقق، كما لم يتم ادخال المفهوم في اوروبا الا بعد ان توافر شرطان اساسيان: الشرط الاول هو التوصل الى حال من التعادل الاستراتيجي بين الشرق والغرب في اطار مجموعة اتفاقات ضبط التسلح. فعندما ادخلت اوروبا هذا المفهوم وكانت العلاقات بين المعسكرين المتصارعين وصلت منذ سنة 1957، الى حال التعادل الاستراتيجي المسماة "توازن الرعب" والتي تمثلت في قدرة كل معسكر على استيعاد الضربة الاولى النووية والرد بضربة ثانية مماثلة، ما ادى الى تضاؤل احتمال نشوب حرب عالمية مفاجئة. كذلك فإنه منذ سنة 1963 تم توقيع مجموعة من اتفاقات ضبط التسلح ابتداء من اتفاقية الخطر الجزئي للتجارب النووية سنة 1963، وحتى الاتفاقية الاولى للحد من الاسلحة الاستراتيجية سنة 1972. وكرست تلك الاتفاقات حال التعادل الاستراتيجي بين المعسكرين. اما الشرط الثاني، فهو اتفاق المعسكرين على الاعتراف بأن الحدود السياسية الراهنة في اوروبا قد اصبحت حدوداً نهائية. ففي سنة 1970 قبلت المانيا الغربية تحت زعامة المستشار برانت الاعتراف بحدودها مع بولندا، وفيما بين عامي 1971، 1972 اعترفت بألمانيا الشرقية ومع نهاية سنة 1973، تبادلت العلاقات الديبلوماسية مع بلغاريا وهنغاريا، وتشيكوسلوفاكيا، كما وقعت اتفاقات تعاون مع الاتحادالسوفياتي. ان دلالة هذه الاتفاقات هي ان اوروبا انهت المشكلات الاقليمية الحدودية واعترفت بالحدود الراهنة كحدود نهائية. لم تأت اجراءات بناء الثقة في اوروبا إلا بعد ان توافر الشرطان المشار اليهما، وكآداة لتكريس الامر الواقع الذي تم الاتفاق عليه. وهذه هي المعضلة الجوهرية في الطرح العربي لمفهوم إجراءات بناء الثقة كأداة للتعامل مع الصراع العربي - الإسرائيلي. فهذا الطرح يتجاهل أن إجراءات بناء الثقة هي مفهوم تم ادخاله لتكريس وتثبيت وضع تم الاتفاق عليه، وليست اداة للتغيير، كما ان تلك الإجراءات لا يمكن ان تحقق نجاحاً ما لم يتم الاتفاق على تسوية المشكلات المتعلقة بالاراضي والحدود، وما لم يتم بناء تعادل استراتيجي والتوصل الى اتفاقات لضبط التسلح، ومن ثم فإن الطرح الغربي يركز على الإجراءات من دون ان يلتفت وبشكل متعمد في تقديري الى ان هذا التركيز على إجراءات بناء الثقة من دون الاهتمام بشروط نجاحها انما يكرس الاحتلالات الاقليمية. كذلك، فليس من المتصور ان تدخل الاطراف في إجراءات لبناء للثقة في الوقت الذي يحتل فيه طرف اراضي طرف آخر، او في الوقت الذي يحتكر فيه طرف الأسلحة النووية. هذا الامر لم يحدث في اوروبا، فكيف يتصور ان يحدث في الشرق الاوسط او جنوب اسيا؟ كذلك، فإن ادخال إجراءات بناء الثقة من دون حل مشكلة الاحتلال الاقليمي انما يؤدي الى "تعويد" الطرف الذي احتلت ارضه على الرضا بالاحتلال، بل والثقة بالمحتل، واعطائه الوقت اللازم لاستيعاب الارض المحتلة امام أعين الذين احتلت اراضيهم. ما نقوله ببساطة هو دعونا نقرأ الخبرة الاوروبية قراءة صحيحة، ونطبقها بالشكل الذي طبقت به في اوروبا، وليس بالعكس. وفي مؤتمر حضرته في النمسا في العام الماضي حول مفهوم إجراءات بناء الثقة، تحدث احد الدارسين النمساويين موضحاً ان إجراءات بناء الثقة لم تنجح في اوروبا الا بعد ان اعترفت المانيا الغربية بدولة المانياالشرقية، ودلالة ذلك انه لا يمكن تصور نجاح إجراءات بناد الثقة في الشرق الاوسط الا اذا اعترفت اسرائيل بالدولة الفلسطينية وتمت تسوية مشكلة الاراضي المحتلة، وبعد ذلك تأتي اجراءات بناء الثقة لكي تكرس هذا الوضع. توضح قراءة خبرة إجراءات بناء الثقة في اوروبا أن هذه الإجراءات شهدت اربع طفرات، يحلو للاوروبيين ان يطلقوا عليها مصطلح "أجيال"، فهناك الجيل الاول الذي دشنه مؤتمر ستوكهولهم سنة 1986 والذي تحول الى مسمى إجراءات بناء الامن والثقة، وهو مستوى اعلى من إجراءات بناء الثقة تميز بإدخال العنصر العسكري. وفي سنة 1990 تم إدخال الجيل الثالث في اطار "وثائق فيينا" وذلك بعد نجاح "الجيل الثاني" في التوصل الى اتفاقية القوات التقليدية في اوروبا سنة 1990، والتي وضعت سقفاً على خمسة انظمة من التسلح التقليدي. واخيراً، جاء "الجيل الرابع" في اطار "منتدى التعاون الامني" سنة 1993، وهو المنتدى الذي أقر اجراءات جديدة تشمل نقل الاسلحة التقليدية، وحل الازمات وغيرها، ما مهد لإنشاء مؤتمر الامن والتعاون الاوروبي. ما أهمية هذا السرد للاجيال الاربعة من إجراءات بناء الثقة في الخبرة الاوروبية؟ من المسلم به أن إجراءات بناء الثقة في اوروبا نجحت في تحقيق اهدافها في ظل الشروط التي توافرت لها. ولكن الانتقال من جيل الى آخر لم يكن انتقالاً آلياًَ، أي انه لم تكن هناك قوة رفع ذاتية لتلك الاجراءات بحيث إن نجاح الجيل الاول مهّد بشكل طبيعي او تلقائي للانتقال الى الجيل الثاني. فالانتقال من الجيل الاول الى الجيل الثاني جاء بعد التغير السياسي في الاتحاد السوفياتي، والمتمثل في صعود غورباتشوف الى السلطة وإتباعه سياسة خارجية جديدة. فلو لم يصل غورباتشوف الى السلطة لما حدث الانتقال الى الجيل الثاني. وبالمثل، فإن الانهيار السياسي للاتحاد السوفياتي هو الذي خلق المناخ لظهور الجيلين الثالث والرابع من تلك الإجراءات. فالتغيرات السياسية في الاتحاد السوفياتي وشرق اوروبا لم تأت نتيجة لإجراءات بناء الثقة لكن العكس هو الصحيح. ودلالة ذلك جوهرية لجهة ان التغير في الرؤية الاستراتيجية للاطراف المتصارعة ضروري لنجاح ولتطور إجراءات بناء الثقة. فما لم تتخل اسرائيل عن توجهاتها التوسعية في الارض العربية المحتلة، وما لم تتخل عن مشروعها الصهيوني كما تخلى غورباتشوف عن المشروع السوفياتي فإن أي قدر من إجراءات بناء الثقة لن ينجح في بناء الثقة بين الاطراف العربية والاسرائيلية. بعبارة اخرى، فإن التغير في البيئة الاستراتيجية والتوجهات السياسية هو الذي يؤدي الى نجاح إجراءات بناء الثقة وليس العكس. وإذا تأملنا خبرة اجراءات الثقة بين الهند وباكستان منذ سنة 1971 لوجدنا دليلاً على صحة ما نقول. فهناك سجل حافل لتلك الإجراءات بين الدولتين. لكنها لم تنجح في حل مشكلة كشمير، ولا في وقف سباق التسلح التقليدي والنووي بين الدولتين. وتنطبق الملاحظة ذاتها اذا تأملنا خبرة إجراءات بناء الثقة في شرقي اسيا وبالذات في العلاقات بين الكوريتين. ففي الحالتين اتضح ان التعامل مع المشكلات الجوهرية الاراضي الممحتلة، التوحيد الاقليمي، ضبط التسلح والتعادل الاستراتيجي هو المدخل لنجاح إجراءات بناء الثقة وليس العكس. أشرنا في مقدمة هذا المقال الى ان الغرب يقدم إجراءات بناء الثقة كمدخل عام لتسوية الصراعات. ولكن تأمل الخبرة الواقعية يوضح ان لهذا التأكيد حدوداً فقد دافع الاوروبيون عن إجراءات بناء الثقة في التعامل مع الصراع العربي - الاسرائيلي، والصراع القبرصي، والصراع في البوسنة والهرسك. ولكنهم في حالات الصراع مع ليبيا، والعراق، ويوغوسلافيا تجاهلوا إجراءات بناء الثقة، وأصر الاوروبيون على اتباع استراتيجية الإذعان، بمعنى تقديم مطالب للطرف الآخر عليه أن يطبقها من دون مناقشة او تفاوض، فاذا لم يفعل فإن العقاب العسكري الصارم هو الرد الوحيد. ولم يحدد لنا الاوروبيون ما هي المعايير التي طبقت للتمييز بين الصراعات التي يجب التعامل معها من منظور إجراءات بناء الثقة، وتلك التي لا تقبل الا استراتيجية الإذعان والعقاب العسكري. إن تأمل الصراعات التي اوردناها يوضح ان الغرب دافع عن استراتيجية إجراءات بناء الثقة فقط في الصراعات التي لم يكن طرفاً مباشراً فيها، وطبّق استراتيجية الإذعان في الصراعات التي كان طرفاً مباشراً فيها، أو كانت له مصالح جوهرية فيها. فهل يعني ذلك ان إجراءات بناء الثقة لا تنطبق على الغرب حين يتعامل مع الآخرين؟ ام ان ذلك يعني ان هناك صراعات لا تحل عن طريق إجراءات بناء الثقة؟ فإذا كان الامر كذلك فمن المتعين على المدافعين عن إجراءات بناء الثقة ان يحددوا لنا طبيعة الصراعات التي لا تحل الا عن هذا الطريق وما هي المعايير التي على اساسها يؤكدون ان الصراع العربي - الاسرائيلي لا يحل الا عن طريق إجراءات بناء الثقة. إن "انتقائية" تطبيق إجراءات بناء الثقة في الصراعات وتجاهلها في صراعات اخرى يضع المفهوم بأسره محل تشكك ويحوله الى اداه لتكريس اوضاع يرغب الغرب في تكريسها لا في حلها. ما الذي نخلص اليه من هذا كله؟ أولاً: عند التفكير في تطبيق إجراءات بناء الثقة، فإنه ينبغي البدء في توفير الشروط اللازمة لنجاحها كما حدث في اوروبا، وهذه الشروط هي حل القضايا الاقليمية، وبناء حال من التكافؤ الاستراتيجي عن طريق اتفاقات ضبط التسلح. بعد ذلك تأتي اجراءات بناء الثقة لتكريس هذه الأوضاع لأن إجراءات بناء الثقة، كما قدمنا، هي اجراءات "للتثبيت" وليس "للتغيير". ثانياً: انه عند مناقشة إجراءات بناء الثقة تنبغي مناقشة المعايير الطبقية للتمييز بين الصراعات التي تحل عن طريق إجراءات بناء الثقة، وتلك التي لا تحل الا عن طريق الإذعان والقوة المسلحة. فهذا التحديد جوهري لصدقية المفهوم، وتأكيد عدم توظيفه كأداة لتكريس الاحتلالات. ثالثاً: هناك العديد من المشروعات المقدمة لإدخال إجراءات بناء الثقة في الاطر العربية - الاوروبية، والمتوسطية الاوروبية والمتوسطية الاطلنطية المختلفة، وهي مشروعات تفتقر الى التنسيق في ما بينها، فضلاً عن انها تصب في اتجاه تبني المعايير الاوروبية اكثر منها في اتجاه الدخول في حوار حقيقي مع الدول العربية والمتوسطية حول تلك الاجراءات وشروط تطبيقها كذلك، فإنها تركز فقط على كيفية التعامل مع مشكلات الامن المتوسطي والعربي. واخيراً، لوحظ ان اوروبا مستعدة لأن تضرب عرض الحائط بإجراءات بناء الثقة اذا تطلب الامر ذلك وتمثل هذا عندما كونت بعض الدول الاوروبية قوات التدخل البري السريع، واخرى للتدخل البحري السريع في المتوسط من دون تشاور مسبق مع شركائها المتوسطيين ومن دون التفات الى أثر ذلك على الثقة بين الشركاء الاوروبيين والمتوسطيين. انني آمل ان يثير هذا المقال نقاشاً واسعاً بين المثقفين العرب حول قضية إجراءات بناء الثقة، نظراً لما لاحظته عبر السنوات الاخيرة من تكرار ترديد هذا المفهوم بين الكثير تأثرا بالأدبيات الاوروبية من دون التفات الى الافتراضات والشروط الجوهرية التي تستتر خلف هذا المفهوم. * كاتب مصري. مدير مركز الدراسات الاسيوية في جامعة القاهرة.