في مثل هذا الشهر تعود بغداد من جديد لإطلاق نغمة الابتهاج وتعليق الزينات في محاولة جديدة للزهو والتفاخر بعمل أخرق، والإصرار على الباطل، وتدعي ان ما قامت به سنة 90 ضد الكويت هو عمل قومي يجب تهنئة النفس عليه، لا عمل يجب محاسبة المتسببين فيه، وهو ما يؤكد ان المناخ العربي والدولي الذي يقول باستحالة التعامل مع نظام بغداد هو مناخ يواجه الحقيقة، ويعرف توجهات النظام الحاكم. ويؤكد الإصرار على الموقف ضلوع بغداد المتعمد في إطالة عذاب الشعب العراقي. في هذا الشهر الحزين نذكر بغداد وأهل العراق الذين يجمع المؤرخون العرب على ان أتعس قرن مرّ على تاريخهم هو القرن العشرون، كما أجمع الأوروبيون قبل ذلك على ان القرن التاسع عشر هو أتعس قرن مرّ على التاريخ الاسباني، ففي قرننا هذا شهد العراق مستوى غير مسبوق من عدم الاستقرار شرد بسببه ملايين العراقيين الى أقصى الأرض، ومات الكثير من فنانيه ومبدعيه وهم مغبونون في الغربة، ثم ابتلي بجوع وخوف غير مسبوقين في السنوات الثلاثين الأخيرة من هذا القرن، وسالت دماء الأبرياء تقريباً في كل مدينة وقرية عراقية قرباناً لنظام لا يعرف حتى الأقربون منه ماذا يريد ان يحقق للعراق. فقد كرر النظام العراقي، وبمناسبة ذكرى الاحتلال في الأسبوع الأول من هذا الشهر، الطروحات القديمة نفسها، سواء بالنسبة لمقولاته السابقة أو ابتكاراته الدعائية الفاشية. ما يلفت النظر في هذا الإصرار الكامل وغير المبرر من قبل بغداد على الاستمرار في تجاهل حقائق يمر بها العالم، ان هذا التحول العظيم نحو الحرية والتعددية، واحترام حقوق الانسان، لم يمر على العراقيين طيف منه، بل يقوم النظام بتجاهل فج لمتغيرات العالم يتجلى في دعاية مضللة من جانب النظام العراقي الحاكم. إن استخدام الكلمات المؤدية لمعان منفرة وبغيضة على المتلقي، هو أمر معتاد في الدعاية المضادة وله تأثير كبير في حرب الدعايات، فقد استخدم الحلفاء كلمة الهوني ومفردها الهون وهو شعب مغولي دمر أوروبا وعصف بها بعنف وفوضوية، للإشارة الى الألمان في الحرب العالمية الثانية، وهو مفهوم له دلالة عاطفية كبرى وفعالة في الثقافة الأوروبية، واليوم عندما تفتح أي قاموس تجد ان معنى الكلمة إما شعب مغولي شرس، أو جندي ألماني. والألمان بدورهم استخدموا بعض المفاهيم الصاعقة لوصف الحلفاء، ولعل بعض التعبيرات التي تبناها النظام العراقي في برنامج دعايته المضللة هي تعبيرات ألمانية نازية، عبرت له من المانياالشرقية والممارسات الدعائية التي تمت في شرق أوروبا بعد الحرب الثانية. عند دراسة الدعاية العراقية نجد انها تستند على مجموعة من المرتكزات لا تتغير، وهي ثلاثة: اللعب على العاطفة، تضليل الحقائق، ثم التزوير. إحدى ركائز الدعاية العراقية انها تعتمد على اثارة العواطف لدى المتلقين، ومن مظاهرها السابقة واللاحقة ما يلي: في المؤتمر الأخير الذي عقد في بغداد أوائل هذا الشهر تحت اسم "مؤتمر الشعب العربي" رددت اجهزة الدعاية العراقية مفاهيم مثل "الامبريالية"، و"الصهيونية العالمية"، كما تشير أدبيات النظام العراقي الاعلامية الى المعارضة العراقية في الداخل والخارج على أنها من استنبات وكالة المخابرات الاميركية، وقد كان لهذه التعابير صدى في ستينات هذا القرن، أما اليوم فهي كلمات وتعابير لم يعد لها صدى حتى لدى العامة من الناس، وهو دليل آخر على فقدان النظام العراقي للبوصلة السياسية. المثال الآخر، في الثامن من آب اغسطس سنة 90 بعد أيام قلائل من الاحتلال العراقي للكويت، حيث نقلت الاخبار برقية من وكالة الانباء العراقية عن متحدث باسم القيادة العامة للقوات المسلحة العراقية تفيد ان: "اسرائيل قد صبغت طائراتها بألوان السلاح الجوي الاميركي، ووضعتها مع طياريها تحت إمرة القيادة الأميركية، وقد زودت الطيارين بوثائق أميركية" وهي نغمة لعبت عليها الدعاية المضللة أكثر من مرة في تاريخنا العربي، وثبت فشلها، في الوقت الذي لم تدع فيه القيادة العراقية مثل هذا الادعاء عندما قصفت الطائرات الاسرائيلية المفاعل الذري في بغداد! العاطفة الدينية لم تكن بمنأى عن الاستخدام الانتهازي للدعاية العراقية، فبجانب كتابة اسم الله على العلم العراقي، واستدعاء بعض الدعاة للتصفيق لأعمال النظام باسم الاسلام، اختط هذا النظام طريقاً تجتمع فيه العاطفة والتضليل في آن، فقد أطلق دعاية ضخمة بأن الجنود النصارى يدنسون الأماكن المقدسة الاسلامية! وقد كانت هذه الدعاية متعارضة مع هدف آخر للنظام العراقي وهو إظهار احترامه للمسيحيين وتسامحه مع أعرافهم وممارساتهم، الى درجة ان وسائل إعلامه كررت في أكثر من مرة ان "شرب البيرة متاح في العراق!" وان هناك كنائس في العراق يعبد فيها الله! حتى الأخلاق لم يعد لها مكان يحترم في نظام الدعاية للبعث العراقي، فقد نشرت جريدة تصدر في لندن وتأتمر بأمر صدام في 13 آب 90 في صدر صفحتها ما نصه "خمسة آلاف مومس - اعذروني عن ذكر البلاد - تُصدَّر للجنود الاميركان في السعودية"! وقد طيرت وكالات الأنباء هذا الخبر، ونشرته في الهند جريدة "تايمز أوف انديا" على سبيل المثال، ربما هذا الأمر هو الذي من أجله امتنع قائد مسرح العمليات الأمير خالد بن سلطان كما جاء في مذكراته عن إعطاء تصريح بأن يقضي الجنود الاميركان اجازاتهم في ذلك البلد. بعد الاعتماد على العاطفة فإن العمود الثاني للدعاية العراقية هو تزوير الحقائق وهو فن أجاده النظام العراقي معتمداً على الكذب، ولو لتحقيق قناعات مبتسرة ولفترة قصيرة، حيث يعمد الى حقيقة معروفة للجميع ثم يجري تحريفها حرف ثم عمم ولعل ذلك التكتيك اتبع اكثر من مرة، وما زال متبعاً في ملف الدعاية العراقية، ففي الأشهر التي سبقت احتلال الكويت بدأت ترتفع في وسائل الاعلام العراقية نغمة ان الكويت والإمارات ايضاً، قد تسببتا في إغراق سوق النفط، وهو الأمر غير المبرر ولا المنطقي، ولكن بعد سنوات بدأت اسعار النفط تنحدر الى أسفل درجاتها وتضرر جميع المنتجين، ولم يكن للعراق هدف هذه المرة من اتهام الآخرين بالتسبب في ذلك لأنه ببساطة لم يعد منتجاً للنفط، فقد استغل تراجع الطلب العالمي على سلعة النفط في نهاية الثمانينات ليحقق بعضاً من أغراضه المبيتة، ومع الأسف فإن هذه الكذبة انطلت على كثيرين أو على من أراد تصديقها. أما التضليل الآخر فهو ما عرف بنشر محضر اجتماع السفيرة الاميركية في ايلول سبتمبر والذي عقد مع رئيس النظام في أواخر تموز يوليو 1990، قبل الاحتلال بثمانية أيام فقط. في هذه الوثيقة التي نشرها النظام العراقي مشوهة، تبدو كل الظروف مواتية لنشر الدعاية المضادة والتذاكي المفرط، فقد كان هذا هو اللقاء الأول بين سفير اميركي في بغداد وصدام حسين، وقد تم بعد سنتين من وجود غلاسبي في بغداد، لذلك فإن كثيرين صدقوا ما نشرته الدعاية العراقية وقتها على لسان غلاسبي، بل تم اختراق أولي في الصحافة الاميركية، وبعض أعضاء الكونغرس الاميركي، وبعد ان اتضحت الحقائق ونشرت البرقيات المتبادلة بين غلاسبي ووزارة الخارجية الاميركية، منها برقية قبل يوم واحد من المقابلة، بأن تبحث السفيرة مع أعلى مسؤول عراقي تستطيع ان تقابله في بغداد، وتؤكد ان أي خلافات مع الكويت يجب ان تحل سلمياً، وبعد ان تبينت هذه الحقائق، ظهر التضليل الذي قامت به ماكينة اعلام النظام العراقي وقتها، بنسب أقوال للسفيرة لم تتفوه بها قط. أما التزوير المباشر فإن أمثلته كثيرة، منها تزوير دولي بكتابة مجموعة من الرسائل من اشخاص وهميين لأركان المراسلات الشخصية في الصحف والمجلات، وقد تم ذلك في بلدان افريقية وعربية وحتى أوروبية، مستفيدة تلك الماكينة الدعائية العراقية من تقاليد راسخة للنشر، اما النوع الآخر من التزوير المباشر فهو تزوير الوثائق خصوصاً الوثائق الكويتية. بل ان الدعاية الفجة للنظام العراقي زورت أصوات مسؤولين خليجيين، كي تدعي للعامة والسذج أن لها باعاً طويلاً في التقاط المكالمات والتدخل التكنولوجي المتقدم. الدعاية العراقية المضللة هي دعاية فجة. ولعل بعضنا يذكر الفكرة الساذجة لإطلاق مفهوم "الضيوف الاجانب" على الرهائن العالميين الذين احتجزهم نظام بغداد إبان مرحلة حرب تحرير الكويت، وكيف استهجن العالم هذه الفكرة، وكانت في الأساس معدة لاستخدامهم بوصفهم دروعاً بشرية لتأخير أو وقف حرب التحرير، كما نذكر التصريحات التي أدلى بها وزير الاعلام العراقي وقتئذ نصيف جاسم "بأننا سوف نرمي جثث الجنود الى الكلاب لتأكلها!". الأمثلة كثيرة للتدليل على ركائز الدعاية العراقية المضللة، وهي ثلاثية اللعب على العاطفة، والتضليل المتعمد، والتزوير، وهي ما زالت مصرة على نهجها. ورغم ان المثل العربي المشهور يقول: ان كان المتحدث مجنوناً وجب ان يكون المستمع عاقلاً، على الرغم من ذلك فقد وجد النظام العراقي الكثير من المجانين يصدقون دعايته السابقة وربما اللاحقة. غير ان الأمر الخطير اليوم هو عنصر ثالث في الدعاية العراقية، وهو إثارة عقدة الذنب باستخدام أطفال العراق في هذه الدعاية المسمومة، في ثلاثية جديدة هي الأطفال والحليب والدواء. فبعد عرضه غير الانساني لجثث القتلى وتشويه الانسان العراقي بالكي وقطع اليد، وبالقانون يعود نظام بغداد الى ابتزاز العاطفة الانسانية بعرض صور عن معاناة الاطفال، وهو يعرف قبل غيره انه هو المسؤول الأول عن معاناة هؤلاء الاطفال، لأنه ببساطة لم يوفر لآبائهم ولا لأمهاتهم الا العذاب المقيم، فكيف نصدق ونقتنع بأنه يريد ان يوفر لهم الغذاء والدواء؟ * كاتب كويتي، الأمين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.