بقبول حزب العمال الكردستاني إنهاء القتال، يبرز مرة أخرى انغلاق الأبواب أمام النضال المسلح في الجبال بالنسبة الى لأكراد. وتنزل الحركة الكردية من جديد سلالم أخرى إلى أرض المدن وأرضيتها، خصوصاً في تركيا. وهذا لا يعني أن الجبال ستكف عن ان تثير توق الحالمين بالانعتاق السريع أو أن تحرك عندهم رغبة اللجوء إلى السلاح وتمنحهم أرض التراجع ومخابئ الوقاية من شر الأعداء. الجبال والبنادق تقدم تنفيساً لا يقدر عمقه الا من يعاني من قمع وظلم لا يستطيع الإنسان تحملهما، فيختار دونهما كل شيء وبأي ثمن. ومع ذلك فإن ثوار حزب العمال الكردستاني يعيشون منذ فترة عملية التراجع المستمر عن الحرب ومواصلة للانكماش الدائم على الذات. ولكن في المقابل يتمخض في تركيا وأمامها الوجود الكردي كمشكلة بدأت لتستمر، فيما لا تبدو نهاية هذه المشكلة في نهاية عبدالله أوجلان ولا في نهاية حزبه. ولنا أن نقرأ في وصول اليمين المتطرف واليسار القومي إلى الحكم في اسطنبول، بعد حصولهما على أصوات كثيرة في انتخابات نيسان ابريل من هذا العام، رد فعل قومياً ضد كل ما يمكنه ان يكون انفتاحاً على هذه المشكلة. وفي المقابل تأتي نتائج الانتخابات نفسها كردياً لتدل على تمسك أكبر تمارسه شرائح أوسع من الأكراد، بضرورة الاستجابة لمطالبهم والتوقف عن إنكار هويتهم. فما حصل عليه "حزب ديموقراطية الشعب" المعروف بتمثيله للأصوات الكردية من نتائج على نطاق البلديات، يثبت هذا التوجه. ذاك انه لم يحصل لا هذا الحزب ولا أي حزب كردي آخر على مثل تلك النتائج في ما مضى، ولولا تدخل السلطات لتغيير نتائج الانتخابات لكان حزب ديموقراطية الشعب حصل على بلدية مدينة مرسين الواقعة على البحر الأبيض المتوسط والتي، من دون ان تكون مدينة كردية، التجأ إليها عدد كبير منهم نتيجة الحرب. ويزيد عدد سكان هذه المدينة على مليون نسمة. والانتخابات ذاتها بينت حدود المسألة الكردية بين أكراد تركيا أنفسهم. فرغم وصول حزب ديموقراطية الشعب إلى أكثر من عشرين بلدية في المناطق الكردية، من بينها بلدية ديار بكر التي تعتبر إحدى كبريات مدن البلاد، إلا أن الحزب ظل، على نطاق تركيا، محصوراً، رغم تطور الوعي السياسي بالمسألة خلال السنوات الماضية. وأدت المعطيات الجديدة للمشكلة بأحد كبار السفراء الاتراك السابقين في الولاياتالمتحدة إلى الكتابة قبل أيام محللاً كيف أن الوسائل المستعملة حتى الآن لحل المشكلة الكردية، هي الوسائل نفسها التي استعملتها الحكومات التركية منذ القرن التاسع عشر. ورأى ان الظروف قد تغيرت وتطورت، إلا أن طريقة معالجة هذه المشكلة لم تتغير. ويدعو السفير هذا إلى البحث عن وسائل أخرى لايجاد مخرج، خصوصاً أن حزب العمال الذي كان عقبة أمام أي حل لم يعد باستطاعته أن يفرض إرادته على الدولة التركية. ومثل هذه الدعوات والتحليلات تزداد في تركيا. ولكن العسكر والقوميين لا يجدون فيها ما يفيد مواقعهم ونفوذهم. والسنوات المقبلة هي، في أكثر الترجيحات، سنوات تحمل في احشائها الكثير من الرفض والقمع. لكن النتائج لا تبدو على المدى الطويل ملائمة لرغبة من يرفضون كل نظرة إلى المسألة بعين أخرى غير التي تحدق فيها وتعالجها منذ أكثر من قرن. لقد ربحت السلطات التركية المعركة ضد حزب العمال، لكنها لم تربح الحرب بعد ضد الأكراد. وهناك عقبتان أساسيتان في هذه الحرب، قد يكون التغلب عليهما أصعب من حزب العمال ذاته. العقبة الأولى تأتي من أكراد تركيا أنفسهم. فخلال السنوات الأخيرة استطاعوا ان يحصلوا على ما لم يكن الكثيرون منهم قبل فترة يأملون الوصول إليه. فهم يستطيعون الآن ان يكتبوا ويطبعوا ما يريدون بلغتهم أو باللغة التركية عن الشؤون الكردية، من تاريخ وسياسة ودين واقتصاد وأدب وتراث. وهناك العشرات من الكتب والمجلات والجرائد التي تصدر في تركيا. ورغم ان الكتّاب لا يسمحون لأنفسهم بكتابة كل ما يريدون خوفاً من الملاحقة والسجن، إلا أنهم يكتبون الكثير مما يخالجهم. اليوم هناك العشرات من العناوين التي تستعمل كلمة كردستان، في حين كانت هذه الكلمة من الكلمات التي تخافها السلطات التركية وتمنعها أكثر من منعها أية كلمة أخرى. ولا تقتصر هذه المطبوعات في الحديث عن كردستان تركيا فقط، بل تتعرض لجميع أجزائها. فعلى سبيل المثال خصصت مجلة "سبرستي" الصادرة في اسطنبول عدداً خاصاً في شباط فبراير الماضي لدراسة أكراد العراق سمته "كردستان الجنوبية". والشخصيات السياسية التاريخية الكردية التي قادت الثورات ضد السلطات العثمانية أو التركية، والتي كانت ضمن قائمة "الخونة" في نظر الدولة، أخذت تعود إلى الصفحات الأولى من المطبوعات الكردية بوصف اصحابها مناضلين وأبطالا، ومنهم الشيخ سعيد الذي قاد حركة 1925 ضد السلطات التركية التي أعدمته مع العشرات من اتباعه. هذه المسائل تبدو سهلة أو سطحية، إلا أنها بالنسبة الى اكراد تركيا الذين كان يمنع عليهم قبل أقل من عشر سنوات حتى التحدث في المحلات العامة بلغتهم، تشكل أموراً مهمة. والتراجع عن هذه الحريات صعب جداً. أما العقبة الثانية التي تواجه السياسة الكردية لتركيا، فتأتي من الوضع الحالي لأكراد العراق. فرغم نفوذها في شمال العراق وقدرتها على فرض الكثير من ارادتها في هذه المنطقة، إلا أن الحرية التي يعيشها الأكراد هناك تشكل بالنسبة اليهم مكسباً أعلى بكثير من السقف الذي تقبل به الدولة. فكل يوم يمر على الوضع هناك يزداد الأمر الواقع عمقاً ورسوخاً. ومن الممكن ان لا يكون مستقبل هذه المنطقة قد تم بتّه حتى الآن. إلا أن المصالح التركية لن تكون العامل الحاسم والوحيد في تقرير مصير أكراد العراق. ولو ان الدول المقررة توصلت إلى ضرورة إنهاء الوضع القائم في شمال العراق بإعادته إلى السلطات المركزية من دون أية حقوق تذكر لسكانه، فان تركيا ستكون ربحت أكبر معاركها ضد الأكراد منذ أكثر من خمسة عشر عاماً. إلا أن هذا الاحتمال غير واضح في الوقت الحاضر، لذلك سيستمر الوضع هناك على خطورته الكبيرة على السياسة الكردية لتركيا.