نشرت "الحياة" في عددها الصادر في 7 تموز يوليو الماضي، مراجعة لكتاب "ل. أ. وادل" الموسوم "الأصول السومرية للحضارة المصرية"، أرجو إفساح المجال لابداء بعض التعليقات والتحفظات بشأنها. يطرح الكتاب أمرين في غاية الاهمية والدقة، الاول يتعلق بأصل الملوك المصريين الأوائل قبل عصر الأسرات وبعده، ويرى انها سلالة سومرية جاءت بأصول الحضارة الى مصر. والآخر وهو الاخطر نسبة الكتابة المصرية القديمة الى الحضارة السومرية، وارجاع الكتابة الهيروغليفية الى اصل سومري. بداية، يشار إلى أن هناك محاولات عدة تعمد إلى سلب الحضارة المصرية القديمة ابرز انجازاتها وابدع تجلياتها. وأن هذا الكلام وغيره الكثير ورد في مؤلفات اجنبية وعربية عدة، منذ نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الجاري. تعددت الآراء عن الموطن الاول الذي انتسب اليه الملوك الأوائل في عصر بداية الاسرات الملكية المصرية. ومن ضمن ما قيل في هذا الشأن من علماء مبرزين امثال هنري دي مورغان، وفنلدرز بتري، وفيكتور لوريه وغيرهم، ان هؤلاء الملوك انتموا الى جنس غريب، سموه جنس الاسرات، وفد على مصر من منطقة بلاد النهرين على الارجح وتغلب على القطر المصري كله وقهر أهله شمالاً وجنوباً، وادخل الى مصر علامات الكتابة التصويرية وبعض الرسوم الزخرفية وطريقة البناء باللبن والاختام الاسطوانية وغيرها. وهذا الربط ضعيف يصعب التسليم به، وتضعفه قرائن عدة أهمها انه ليس ثمة شبه من قريب او بعيد بين اسماء ملوك الاسرات المصرية وكبار موظفيهم وبين اسماء اهل بلاد النهرين، علاوة على انتفاء الشبه بين الهيئات والملامح والقامات الفارعة للمصريين القدماء الاوائل من ملوك وموظفين، وبين هيئات وملامح وقامات أهل بلاد النهرين. هذا وصوّر ملوك عصر التوحيد لأنفسهم رموزاً دينية وألوية حربية ذات اصل نابع من البيئة المصرية، وليس لها شبيه صريح بين رموز العراق القديم وألويته. ومن الصعب افتراض قيام هجرة كبيرة لتفرض نفسها على مصر وشعبها من خلال عبورها البحر الاحمر بمراكب كثيرة كبيرة في ذلك العصر البعيد. إلى هذا، لم تترك هذه الهجرة المزعومة، جنسية كانت ام حضارية، أي أثر واضح يدل عليها في الكتابة او وسائل البناء باللبن او العناصر الزخرفية، هذا في ظل عدم اعتراف ملوك الاسرات الاوائل ولا الاواخر بولاء ما للمنطقة التي يُفترض انهم وفدوا منها، بل صوّر فنانوهم بالنقش والنحت أسرى من الآسيويين تختلف ملامحهم عن ملامح المصريين حكاماً ومحكومين. أما بالنسبة الى اللغة المصرية القديمة، فقد اخترعها المصري القديم باعتبارها وسيلة ثابتة للتعبير عن فكره واهدافه، وانتقلت من المرحلة الاشارية الى المرحلة التصويرية، الى المرحلة الصوتية. ونتجت عن تلاقي بعض اصول عائلات لغوية كثيرة واختلطت مع مجموعات لغوية مثل السامية والحامية والشمال افريقية. وفي المحصلة النهائية، خرجت بشخصيتها المستقلة ومعبرة عن خصوصية بيئتها وانسانها. فقد صورت حيوانات ونباتات وادي النيل نفسه ولم تتضمن أية عناصر دخيلة، وظلت ترمز طوال عهودها الى ادوات ومواضيع ومنشآت صميمة نشأت في البيئة المصرية، وحافظت على عناصرها التصويرية اكثر من ثلاثة الاف عام، واضافت الى مقاطعها الصوتية حروفا هجائية. في الوقت نفسه نجد ان الكتابة التصويرية في بلاد النهرين قصرت عن التطور الداخلي، وعجزت عن الاستمرار طويلا بين اهلها وغلبتها الكتابة التخطيطية المسمارية، ووقفت بها عند حد المقاطع الصوتية، من دون ان تتطور بها الى الحروف الهجائية، وكان الاولى ان تنضج صور هذه الكتابة وتكتمل تطوراتها في بيئتها القديمة. وعن اسبقية اللغة المصرية القديمة عن الكتابة المسمارية السومرية، توضح ابحاث ودراسات عالم الآثار الالماني الدكتور غونتر دراير، خصوصاً في كتابه "مقبرة يوجي من عصر ما قبل الاسرات وشواهدها على الكتابة المبكرة" ان المصريين القدماء "كانوا اول من توصل الى شكل متطور للكتابة". وبناءً على حفائره في جبانة "أم الجعاب" في ابيدوس العرابة المدفونة، مركز البلينا محافظة سوهاج في صعيد مصر استكمالاً لحفائر شيخ شيوخ عصور ما قبل التاريخ المصرية عالم المصريات الاشهر الدكتور فرنر كايزر، فقد رد بداية اصول اللغة المصرية القديمة الى عصر نقادة الثانية حوالى 3600 ق.م. أي أسبق من الكتابة المسمارية بحوالى 400 سنة. وجاء ذلك من خلال دراسة دراير لمدة عشر سنوات كاملة عكف خلالها على فحص 150 لوحاً كتابياً و200 قطعة من بقايا وأوان وأوعية عثر عليها في مقبرة لحاكم غير معروف في ابيدوس يعود تاريخها الى تاريخ يبعد عن اقدم كتابة معروفة بنحو 400 عام. اما عن العناصر الزخرفية المتشابهة بين مصر القديمة والعراق القديم، فنجد ان الاصل المصري وقف امام الاصل العراقي وجهاً لوجه. واشياء مثل وجود القوارب والحيوانات المتقابلة والاشخاص الملتحين فهي اشياء من سمات الحضارة المصرية القديمة. ومثل هذه الرسوم وجد على القمار والصلايات الحجرية، ويمثل منظر الحيوانات المتقابلة كبح جماح القوتين، ومثله تماماً المنظر المصري الشهير الذي يمثل اسدي المشرق والمغرب. وعن الاشخاص الملتحين فنجد ان المتحف البريطاني في لندن يحوي تمثالاً لرجل ملتح من عصر بداية الاسرات ما يدل على ان الالتحاء سمة مصرية اصيلة وليست وافدة بدليل استمرارها في تماثيل الملوك المصريين بعد ذلك وبخاصة في الاحتفالات والمناسبات الرسمية. أما بالنسبة الى العمارة اللبنية فقد شاعت في مصر في بناء المساكن وواجهات العمائر ذات المشكاوات، وتطور البناء باللبن في مصر في مختلف مراحله الطبيعية واستعاض المصريون عنه بعد ذلك بالأحجار المتوافرة في بيئتهم بكثرة على عكس بيئة العراق القديم الفقيرة في الاحجار. وبنى المصريون القدامى السطوح الداخلية لمشكاواتهم على مستويات متعاقبة كثيرة، واستخدموها في واجهات قصور الملوك واسوارها فضلاً عن واجهات مصاطبهم وكبار رجال دولتهم واسوار المدن والحصون، على عكس بلاد النهرين التي استخدم اهلها المشكاوات في تشييد معابد الارباب فقط. وعن الاختام الاسطوانية، نقول انه شاعت في مصر في مطلع عصر بداية الاسرات اختام اسطوانية صغيرة الحجم، كان اصحابها ينقشون عليها اسماءهم ورموزا، تدل عليهم ويختمون بها على مقتنياتهم الخاصة ووثائقهم. واختلفت الأختام المصرية عن العراقية، فصنع اصحابها بعضها من الخشب، ونقشوا عليها ألقابهم وعلامات كتابية واضحة اكثر مما اعتاد اهل العراق القديم، علاوة على نقشهم مناظر أخروية، وتطورت الاختام المصرية في احضان حضارة اهلها مسايرة تقاليدهم في الصناعة والنقش والزخرف. وأخيراً أود الاشارة الى أن المراجع - إيلي سعاده - ذكر انه لم يأت من عصر الاهرام ادب. وحتى لا تظلم الحضارة المصرية زمن الاهرام، نذكر بأن هذا العصر اخرج العديد من الروائع الادبية، سواء كانت ضمن الادب الديني او الادب التعليمي او الادب القصصي أو أدب السيرة الذاتية، ويكفي ان اثراً ادبياً كمتون الاهرام، بزغ في هذه الحقبة المؤسسة، ونصائح وتعاليم "بتاح حتب" و"الملك مريكارع" وغيرها. ويمكن الرجوع الى المؤلفات التي تناولت الادب المصري القديم، امثال كتابات المصري سليم حسن والاميركية مريام ليشتهايم، والالماني ادولف إمان، والانكليزي جون بينز والفرنسية كلير لالويت... وغيرهم. * باحث مصري.