الكتاب: الأصول السومرية للحضارة المصرية المؤلف: ل. أ. وادل ترجمة: زهير رمضان الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع - عمان 1999 يجمع الباحثون من مؤرخي الحضارة على أن أقدم الحضارات التي كشف عنها علم "الأركيولوجيا"، أي علم الآثار الحديث، هي حضارتا وادي الرافدين ووادي النيل اللتان نشأتا وتطورتا في الأدوار البدائية في عصور ما قبل التاريخ، وبلغتا طور النضج منذ أواخر الألف الرابع ق.م، ولذلك أطلق عليهما بعض الباحثين مصطلح الحضارة الأصيلة أو الأصلية. وصاحب التحريات الآثارية عن مخلفات هاتين الحضارتين حل رموز الخطوط التي استعملت للتدوين: الخط الهيروغليفي في حضارة وادي النيل والخط المسماري في حضارة وادي الرافدين، ما مكن الباحثين المختصين من معرفة النصوص المدونة في كل منهما في شتى صنوف المعرفة وشؤون الحياة. فكان مثار دهشة كبرى أن يجد الباحثون تلك العلوم والمعارف والآداب وقد بلغت مستوى متقدماً، ويجمعون بالتالي على أن أسس العلوم والمعارف وأصول الآداب البشرية وضعت في هاتين الحضارتين قبل أكثر من خمسة آلاف عام. ووجد الباحثون في النصوص الأدبية التي جاءت الينا من حضارة وادي الرافدين أموراً مدهشة للمستوى المتقدم الذي بلغته تلك الآداب والموضوعات الإنسانية العامة التي تناولتها. فالنتاج الأدبي في حضارة وادي الرافدين، كما تمثله النصوص الأدبية المكتشفة، ذو أهمية كبيرة في تاريخ الآداب البشرية وتطور الفكر الإنساني، ذلك لأنه كان أولى المحاولات الإنسانية في التعبير عن الحياة وقيمها وأحوال المجتمع ومشاكل الفرد، بأسلوب الفن والخيال. وعلى رغم أنها كانت أولى المحاولات في تاريخ تطور الإنسان الأدبي، فان مما يدهش الفاحص لأدب وادي الرافدين أنه، مع ايغاله في القدم وسبقه جميع الآداب العالمية، يتميز بالصفات الأساسية التي تميز الآداب العالمية الناضجة، سواء كان ذلك من حيث الأساليب وطرق التعبير او من ناحية المحتوى والموضوعات التي تناولها أو من ناحية الأخيلة والصور الفنية والعرض القصصي الروائي. وعلى رغم أن غالبية ألواح الأدب السومري والبابلي، مما وصل الينا، لا يتجاوز زمن تدوينها أواخر الألف الثالث وبداية الألف الثاني ق.م. إلا أنها أُبدعت ونضجت في منتصف الألف الثالث ق.م. أي قبل زمن تدوينها بقرون. فإذا قارنا قدم هذا الأدب، سواء من حيث زمن انتاجه أم زمن تدوينه، بأقدم الآداب العالمية لوجدناه يسبقها جميعاً. وبالنسبة الى مصر القديمة مثلاً، لمّا يأتنا من أدبها شيء من عصر الأهرام فيها، وهو عصر نضج الحضارة المصرية وازدهارها في مطلع الألف الثالث ق.م. وقد اكتشف الآثاريون في أوغاريت، المدينة الكنعانية القديمة، أدباً كنعانياً يرقى زمنه الى حدود منتصف الألف الثاني ق.م، أي ما بعد الزمن الذي دوّن فيه أدب وادي الرافدين القديم بما لا يقل عن خمسة قرون. لكن ما هي تأثيرات هذا الأدب وامتداداته في حضارات العالم عبر العصور؟ هذا السؤال يقودنا الى الكتاب الذي نحن بصدده، فهو يطرح بجرأة كبيرة أمرين في غاية الأهمية والدقة: الأول يتعلق بأصل الملوك المصريين الأوائل قبل السلالة الفرعونية الأولى وبعدها، ويرى أنها سلالة سومرية جاءت بنواميس الحضارة الى مصر بعد أن كونت حضارة عالمية امتدت من الهند الى كريت وشملت مصر، لكن مركزها كان في سومر. أما الأمر الثاني فيتعلق بالأصل السومري للكتابة الهيروغليفية المصرية، ويرى المؤلف أن المرحلة الصورية للكتابة السومرية هي أساس الهيروغليفية. بالنسبة الى الأمر الأول، فقد بدأ عصر السلالات مع توحيد اقليمي مصر الشمالي والجنوبي في مملكة قوية واحدة، وحكمت ست سلالات لما يقرب من الألف سنة في المملكة المصرية القديمة. واعتلى العرش لمدة قرنين متتاليين سلالتان كلتاهما من أصول جنوبية من مدينة تينس قرب ابيدوس، ولكن العاصمة الإدارية لهما أصبحت مدينة ممفيس الواقعة بين الشمال والجنوب، أي في أنسب مكان يمكن أن تقوم فيه عاصمة للقطرين. ولذلك وصفت ممفيس عند المصريين القدماء بأنها ميزان الأرضين، فهي نقطة توازن المملكة السياسية والدينية الجديدة. وقد غدت مصر في عهد المملكة القديمة من أعظم دول العالم القديم، ونضجت فيها الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية حتى شكلت نسق حضارة أصيلة ومتميزة أعطت العالم القديم واحدة من أنصع صفحات الحضارة البشرية. لقد دار جدال طويل حول أصل السلالتين الأولى والثانية، وما زالت الآراء غير مستقرة في هذا المجال. وهناك آراء ترى أن أصلهما رافدي سومري، ومنها آراء المؤلف وادل. إلا أن هذا الأمر يشوبه الكثير من التحفظات بسبب الفارق الزمني الواضح مع ظهور السلالة السرجونية الأكدية التي يعتبرها وادل أصل السلالتين الأولى والثانية، أي أن الملوك الثلاثة الأخيرين لعصر ما قبل السلالات من أصل رافديني، وهم جد سرجون الآكدي وأبوه وسرجون نفسه. هذا الفارق الزمني الذي يقترب من 500 سنة اجبر المؤلف على وضع تاريخ قسري، فرأى أن السلالة المصرية الأولى لا تبدأ مع مطلع الألف الثالث أو قبله بقليل وانما تحديداً مع سنة 2704 ق.م، وهو ما يصعب قبوله أمام التحديدات الأركيولوجية التي أصبحت ثابتة نسبياً. وبرر المؤلف هذه المسألة عندما وضع نفسه مع المنهج الذي يسمى ب"مدرسة التاريخ القصير" حول بداية الحضارة المصرية في مقابل "مدرسة التاريخ الطويل" التي شاعت مع بداية هذا القرن، وأصبح بمرور الزمن تاريخ مصر يقترب من مقترحات "مدرسة التاريخ القصير". المشكلة الأخرى في منهج وادل تكمن في نفيه المطلق لجزرية نسبة الى الجزيرة العربية السلالة الآكدية واعتبارها سلالة سومرية لغة وثقافة. فالثابت تاريخياً أن السومريين والجزريين كانوا يتعايشون لأزمان طويلة في جنوب وادي الرافدين، لكن بداية الملكية ظهرت في سومر واستمرت حتى ظهر الآكديون بقيادة سرجون. وحكمت سلالته لأكثر من قرنين، ثم اجتاحت جموع الغوتيين شمال ووسط وبعض جنوب وادي الرافدين وانتهى حكم السلالة الآكدية. ثم حرر السومريون البلاد من حكم الغوتيين البرابرة الذين يرى المؤلف أنهم أصحاب حضارة، ويمتون بصلة عرقية ولغوية للسومريين. وهذا خطأ فاضح وقع فيه المؤلف، فالثابت أن فترة الاحتلال الغوتي اتسمت بالظلمة والجمود وتوقف التطور الحضاري على المستويات كافة. إلا أننا نلحظ وسط هذه الطروحات الرنانة ميلاً عرقياً عند المؤلف خلاصته أن السومريين هم الآريون الأوائل، وأنهم افتتحوا فجر الحضارات البشرية، بل ونشروا حضارتهم العريقة في امبراطورية سومرية تمتد من الهند الى كريت. ويريد المؤلف من كل هذا أن يقول إن الآريين هم أصحاب أول وأوسع وأعظم الحضارات القديمة، ولا يعنيه هنا أن السومريين ظهروا في وادي الرافدين وليس أوروبا أو غيرها، وكل ذلك ليؤكد مركزية الغرب منذ فجر التاريخ والى يومنا هذا. ولكن هذا لا يعني مطلقاً أن نظريته لا تحمل في ثناياها الكثير من الاكتشافات واللفتات الذكية والمبدعة والجريئة والتي لم يتوصل اليها أحد سواه. ولعل من أهم هذه الكشوفات إعادة قراءة الكتابة الهيروغليفية الأولى قبل السلالة المصرية الأولى وبعدها على أساس سومري. وقد قدم أشياء وأحداثاً جديدة لا يمكن أن نمر بها بسهولة بحجة منهجه أو نزعته، بل يجب أن تكون اكتشافاته هذه أموراً دافعة للمزيد من الدقة والتقصي، وأن تجعل المختصين متوقفين أمام هذه الكشوفات ذات الأهمية الاستثنائية في سبيل التأكد منها. لقد اندفع المؤلف في منهجه الى نقطة متطرفة، واعتبر الفينيقيين والعموريين آريين أيضاً. وهذا ما ترفضه أبسط البديهيات المتفق عليها الآن حول التاريخ القديم. أما الأمر الثاني المتمثل بالأصل السومري للهيروغليفية، ففيه الكثير من الصحة. فهو يقدم لنا جداول ومقارنات في غاية الأهمية، ونرى أن الاتصال الثقافي المبكر بين سومر ومصر حصل في وقت يقترب من زمن اختراع الكتابة في سومر، ويسميه العلماء بالزمن الشبيه بالكتابي في حدود 3200 ق.م. والمرجح أن الكتابة السومرية، وهي في مرحلتها الصورية، انتقلت الى مصر. ولا بد هنا من ايراد بعض البراهين التي يقدمها علماء الآثار حول هذا الموضوع. ففي المرحلة الوسطى من عصر ما قبل السلالات حصل تطور خطير ومهم في تاريخ مصر القديم. فقد ظهرت دلائل قوية على حصول غزو أو هجرة آسيوية قدمت الى مصر وأحدثت القفزة النوعية التي جعلت مصر تتسارع حضارياً وتبدأ بتشكيل حضارتها النوعية الأصيلة. ويرجح العلماء أن تكون هذه الهجرة أو الغزو من وادي الرافدين، وأن ملامحها الحضارية تشير الى أنها ذات طابع سومري. وقد سلك القادمون الجدد الى مصر أحد طريقين: الأول من خلال فلسطين والدلتا وهو الأرجح، والثاني عن طريق البحر الأحمر عبر وادي الحمامات. ويسوق العالم جين فيركوتر مجموعة من الأدلة التي تؤيد حصول هذه الهجرة أو هذا الغزو وهي: 1 - ظهرت مع بداية عصر حضارة الجرزي في الشمال المصري مقابر تحتوي على جماجم ذات رؤوس طويلة وجماجم ذات رؤوس مستديرة، ولا بد أن النوع الثاني هو بقايا جنس سلالة جديدة غازية. 2 - ان مقبض العاج المحفور لسكين صوانية من عصر ما قبل السلالات في جبل الأراك في مصر يظهر أشياء قوارب ومشاهد حيوانات متقابلة وأشخاصاً شخص ملتحٍ يلبس عمامة هي من طراز وادي الرافدين. 3 - لا بد أن تكون الأبنية المشيدة بالآجر المجفف بالشمس في أواخر عصر ما قبل السلالات المتأخرة مستوحاة من النصب السومرية المعاصرة، حيث استخدمت الأساليب البنائية والزخرفية نفسها. 4 - ان ظهور الكتابة في مصر في الوقت الذي ظهرت في وادي الرافدين لا يمكن أن يفسر إلا أنه تقليد للكتابة السومرية التي كانت موجودة حينذاك، حيث أن كلا النظامين الكتابيين يعتمد الأسس نفسها ويتضمن عناصر من النوع نفسه. ويقدم هنري فرانكفورت أدلة أخرى على ظهور المؤثرات الرافدينية في عصر ما قبل السلالات مثل ظهور الأختام الأسطوانية التي تحمل أشكالاً ونقوشاً رافدينية الطابع، وكذلك منقوشات المقبض الذهبي للسكين التي عثر عليها في جبل الطريف في مصر، وغيرها من الأدلة. ويرى فرانكفورت أن من الخطأ اعتبار مولد الحضارة المصرية ناتجاً عن الاتصال بوادي الرافدين فقط، لأن دلائل التطور والتغير التي كانت تتجمع نحو نهاية ما قبل عهد الأسر كثيرة جداً. والظاهر أن نتيجة هذا التطور والتغير كانت مصرية قطعاً في طابعها العام وفي خصائصها، ويرى أنه إذا تم اغفال المؤثرات الرافدينية كلها فلا يمكن اغفال انتقال بدايات الكتابة من وادي الرافدين في مصر. ومن المعروف آثارياً ان الكتابة السومرية في شكلها الصوري هي أول كتابة عرفها الإنسان وأنها ظهرت في حدود 3200 ق.م، لذلك تكمن ميزة كتاب وادل في أنه يحمل أهمية خاصة سواء لحضارات وادي الرافدين أو النيل أو الهند أو كريت، لأنه يحرض على فهم جديد لها، ويقدم - من زاوية غير مألوفة تماماً - مشهداً آخر لها غير الذي نعرفه.