فصل الصيف له نكهة خاصة لدى شريحة كبرى من الطلاب الجامعيين والمهنيين في كندا، فهو، خلافاً لما هو شائع في البلدان العربية، ليس فرصة للراحة بعد عناء الدرس او للتمتع بمباهج الحياة او للهو العبثي او وقتاً ضائعاً او فراغاً مملاً، انما هو تحضير واستعداد عن سابق تصور وتصميم، لعمل منتج آخر، يشق طريقه الى اسواق العمل. بتعبير اوضح ان للعمل الصيفي قيمة نوعية وحوافز معنوية لا تقف عند حدود المادة، بل تتخطاها الى ما هو أسمى، الى اختبار الذات والمعلومات والمهارات المكتسبة خلال الأعوام الدراسية حيث يضع الشباب اللبنة الأولى في مدماك مستقبلهم الواعد. وهذه هي ميزة الانظمة التعليمية الراقية التي تعد طلابها للعلم والحياة، ويرسم المسؤولون فيها استراتيجيات وطنية عامة تستهدف بناء الانسان وانماء مؤسسات المجتمع المدني الانتاجية والخدماتية، الحكومية منها والخاصة، ذلك ان التحدي القائم اليوم يكمن في تخريج منتجين للعمل بدل الباحثين عنه في السراب، وفي تحويل التربية الى نمط استثماري يسوق للمعارف والخبرات في عالم شديد التغير والتنوع والمنافسة. ولا غرو اذا ما استهل الاعلان العالمي للتعليم العالي والمهني لعام 1998 في مقدمته مثل هذا التناغم والتكامل بين العمل والتربية كاحدى ابرز التحديات الكبرى في عصر العولمة. وفقاً لهذه المقاييس تنتهج الدول الغربية المتطورة سياسات اجتماعيات - اقتصادية لاستثمار ما لديها من طاقات شبابية وتوظيفها تباعاً في اسواق العمل تلبية لحاجات البلاد والعباد واستمراراً في عملية الانتاج، لا سيما في فترة الصيف حيث يلجأ عادة آلاف العمال والموظفين في القطاعات الحكومية والخاصة الى الانقطاع عن اعمالهم للاستفادة من العطلة السنوية المشروعة. ففي كندا يغطي العمل الصيفي نسبة تتراوح بين 15 و30 في المئة من مجمل العملية الانتاجية في البلاد. والتجربة الكندية في هذا المجال عريقة تعود الى ثلاثين سنة خلت بدأت كندا تطبيق برامج العمل الصيفي منذ العام 1969 حيث تخصص الحكومة اكثر من 360 مكتباً للعمل الطلابي وترصد لها الموازنات الضخمة بمعدل 2 مليار دولار سنوياً علاوة على ما توفره من برامج الاعداد والتدريب والتأهيل المهني واللغوي عبر مراكزها المنتشرة في طول البلاد وعرضها وشبكات الانترنت وبنوك المعلومات المتوافرة في دوائر النشاطات الشبابية او في اطار البلديات التي تؤمن بدورها خدمات مماثلة. وفي هذا الاطار ايضاً تزود الكليات الجامعية والمعاهد المهنية والثانويات الطلاب في نهاية كل عام دراسي بمجموعات كبيرة من اللوائح والمستندات والوثائق والمعلومات والكتيبات حول فرص العمل المتاحة اضافة الى ما تنشره الصحف اليومية وجرائد الاحياء والمناطق الاسبوعية، كما تخصص الحكومة مراكز اجتماعية يشرف عليها اخصائيون لتدريب الشباب والشابات على الاصول والقواعد الواجب اتباعها باتجاه سوق العمل بدءاً من تجهيز البطاقة الذاتية C.V التي تتضمن نبذة مختصرة عن امكاناتهم العلمية والمهنية وخبراتهم المكتسبة، الى المقابلة الشخصية مع رب العمل تتطلب تكنيكاً وأسلوباً مرناً لا يخلو من الحذاقة اثناء التخاطب والتعامل معه اذ ان مثل هذه الامور تشكل الخطوة الرئيسية على طريق العمل. والى ذلك تسخر الدولة العديد من مراكز التطوع لاعداد وتدريب الراغبين على اجهزة الكومبيوتر تتراوح اعدادهم كل عام بين 2000 و5000 طالب حيث يمكنهم الاستفادة من فرص عمل ثمينة في اقسام السكرتاريا وادخال المعلومات والمحاسبة وغير ذلك من الوظائف الادارية. "شباب اليوم عمال الغد": انطلاقاً من هذا الشعار الذي تلتزم به الحكومة الكندية في سعيها الدؤوب لاستقطاب العدد الأكبر من الطلاب وتوظيفهم في مختلف مرافقها العامة والخاصة، تضع في سبيل ذلك مجموعة من البرامج التأهيلية بالتعاون مع بعض المؤسسات الاخرى بما يتناسب مع اختصاصات الطلاب وميولهم ورغباتهم. ومن اهم تلك البرامج: 1 - استراتيجية عمل الشباب يتضمن هذا البرنامج خطة عمل اعدتها الحكومة بالتعاون مع بعض المؤسسات الخاصة والنقابات والمعامل والجمعيات الاتنية ذات الانشطة الشبابية لاعداد الطلاب الذين تتراوح اعمارهم بين 16 و25 عاماً، وتدريبهم على بعض المهارات الفنية التي تحتاجها تلك المرافق. هذه الاستراتيجية القائمة على توأمة العمل والتربية هي ذات فائدة مشتركة بين الدولة والمؤسسات الخاصة اذ تسمح لهذه الاخيرة باستمرار وتيرة الانتاج بشكل طبيعي من جهة وتخفيف الاعباء المالية عن الحكومة وانخفاض معدلات البطالة من جهة اخرى. فقد اشارت احصاءات Jeunesse canada 1998 الى تأمين 900 وظيفة لشباب جامعيين توزعوا على دوائر الارشيف والمؤسسات الثقافية والدينية والشبابية بمعدل عمل يتراوح بين 8 و12 اسبوعاً، والى 450 فرصة عمل اخرى في المرافق السياحية والأثرية والتاريخية. وعلى غرار الحكومة تقوم البلديات، كل في نطاقها الجغرافي، كل عام بتعيين ما لا يقل عن 200 شاب وشابة للعمل في المرافق العائدة اليها كمراقبين في الحدائق العامة او مشرفين Sauveteurs على احواض السباحة او مدربين للألعاب الرياضية او عمال للقيام بغرس الزهور وسقايتها وتشذيبها. كما ان مراكز الشرطة تختار كل عام عدداً من الطلاب الثانويين من صفي الرابع والخامس حوالى 20 شرطياً من كل مدرسة للعمل كشرطة جوالين على دراجات هوائية حيث يتوزعون على المناطق التي تشهد تجمعات عامة في الحدائق والمنتزهات وأحواض السباحة والمهرجانات للمحافظة على الأمن وتنظيم محاضر ضبط بالمخالفين. 2 - مؤسسة Boulo للمتفوقين هي مؤسسة حكومية تهتم بتأهيل المتفوقين Genie في اختصاصاتهم العلمية والتكنولوجية وفق برنامج مشترك بين ادارات الجامعات والمؤسسات المختصة بهذين الحقلين. وقد تم استخدام ما يزيد على 19 الف طالب جامعي في عموم كندا عام 1998. 3 - مؤسسات طلابية مستقلة تمنح المؤسسة الكندية للتنمية وبنك التنمية الكندي الطلاب الراغبين بانشاء مؤسسة مستقلة خلال فصل الصيف قرضاً مقداره ثلاثة آلاف دولار على ان يعيدوا هذا المبلغ في اوائل تشرين من كل عام وذلك ضمن الشروط التالية: - ان يكون طالب القرض كندياً لا يقل عمره عن 18 عاما. - ان يعد مشروعاً مفصلاً عن كامل اوضاع المؤسسة. - ان تتوافر فيه شروط العمل القانونية. وتكمن أهمية هذه المبادرة، علاوة على ما قد توفره من مردود مالي، انها تمنح القائمين بها خبرة السوق وتضعهم على طريق الاحتراف التجاري والعمل الحر. 4 - التعاونيات الطلابية بعيداً من أية مشاركة حكومية، يلجأ بعض الشباب من الطلاب الذين تتراوح اعمارهم بين 15 و25 سنة ومن مختلف الاتنيات الى تشكيل تعاونيات مستقلة لا يتعدى عدد افرادها العشرين، وتتمتع بهيكلية تنظيمية مجلس ادارة ولجان متخصصة وآليات عمل تقوم على مبدأ المشاركة الديموقراطية وروح المسؤولية الجماعية. هذه التعاونيات تعتبر بمثابة بنك للمعلومات والخدمات في الاحياء والمناطق حيث تنحصر اعمالها عادة بتوزيع الاعلانات للشركات الكبرى وأعمال الصيانة داخل المنازل وخارجها وقص الاعشاب في الحدائق العامة والخاصة وتنظيف زجاج الأبنية والمحال التجارية ودهان البيوت وطرشها ونقل أثاث المنازل طيلة شهر تموز يوليو من كل عام وغسيل السيارات في محطات الوقود وتفسيح الكلاب وحضانة الصغار والمسنين. يشار الى ان هذا النوع من التعاونيات يدل على مدى نضوج فكرة العمل الجماعي المنظم والديموقراطي بين الطلاب الذين ينخرطون باكراً في تجارة السوق ويشكلون جزءاً منه ويدخلون في علاقة تنافسية مع مؤسساته. ولئن يتفق الجميع في هذه "المدرسة المهنية" على أهمية مردودها المالي فإنهم يختلفون في اوجه انفاقه. فمنهم من يسعى الى تأمين اقساطه ولوازمه المدرسية للعام المقبل، ومنهم من يود شراء ما يعجز الأهل عن شرائه له، ومنهم من يأمل في تكوين رصيد مالي في احد البنوك لاستخدامه وقت الحاجة. 5 - مكاتب العمل الزراعية والى جانب مؤسسات العمل الصيفي ذات الطابع التقني والمهني والاداري، يوجد العديد من مكاتب العمل الزراعية الخاصة بموسم القطاف الصيفي الذي يكاد ينحصر بقطاف التفاح والفراولة والخضار على انواعها. ويستثمر اصحاب المزارع جهود آلاف العمال من طلاب وغيرهم ومن مختلف المستويات والاعمار والاتنيات بأجور متدنية اجمالاً لا تتعدى حصيلتها اليومية 30 دولاراً. ومهما يكن من امر تبقى التجربة الكندية مثالاً عز نظيره في اي من البلاد العربية او بلدان العالم الثالث لجهة التوأمة بين نظام العمالة والنظام التربوي اللذين ينعم في ظلهما الانسان بحقوقه في العلم والعمل والحياة ويطمئن فيهما الى حاضره ومستقبله.