تعد مدينة بابل الأثرية الواقعة الى الجنوب من مدينة بغداد بحوالى 90 كلم تقريباً احدى أهم مدن حضارات وادي الرافدين، ذلك ان الحضارة البابلية في العراق هي من أقدم حضارات العالم المعروفة والتي ازدهرت فيها الفنون والعمارة والآداب والعلوم والنظم السياسية والقانونية والاقتصادية، وحفلت بالعديد من الأحداث والشواهد التاريخية، وتركت شواهد متميزة على مر العصور. والاسم السومري لمدينة بابل هو الصيغة المألوفة "كادنكرا"، أم الاسم البابلي "باب ايلو" أو "باب ايلي" فهو ترجمة للصيغة السومرية، ومعنى الاسم باب الإله أو الآلهة. وإذا كانت هناك اشارات الى وجود مستوطن في موضع بابل يرجع تاريخه الى عصور ما قبل التاريخ نحو 4000 سنة قبل الميلاد، فإن أقدم اشارة تاريخية الى المدينة جاءت من عهد السلالة الأكدية في حدود 2350 سنة قبل الميلاد، وكذلك ذكرت المدينة في أخبار سلالة أور الثالثة. أصبحت لبابل مكانة سياسية في تاريخ العراق القديم منذ قيام سلالتها الأولى 1880-1580 قبل الميلاد، والتي اشتهرت بملكها السادس حمورابي. وبقيت مركزاً لوادي الرافدين ما يقارب من 15 قرناً، وعاصمة لعشر سلالات حاكمة، أولاها السلالة الأمورية والأخيرة السلالة الكلدية ومن ملوكها نبوخذنصر الذي تنسب إليه غالبية الأبنية الباقية في هذه المدينة. كما اختارها الاسكندر الكبير عاصمة لملكه لاحقاً. وتعرضت مدينة بابل عبر تاريخها الحضاري الطويل لموجات متلاحقة من الخراب والتشويه على أيدي الغزاة من الخارج والحكام من الداخل. فبعد نهاية سلالة بابل الأولى هاجمها العيلاميون بقيادة ملكهم شتورك ناخونتي خلال القرن الثاني عشر قبل الميلاد، فنهبوا كنوزها وأخذوا نقوشاً تاريخية من بينها مسلة الملك الأكدي نرام - سن، ومسلة حمورابي التي حوروا في خاتمتها. ولكن الملك البابلي نبوخذنصر الأول حاربهم وانتصر عليهم. وقد وجد المنقّبون الفرنسيون الآثار المسروقة هذه في مدينة سوسة، عاصمة عيلام. كما تعرضت مدينة بابل الأثرية الى غزوات وأعمال تخريب أخرى على أيدي الآشوريين ولا سيما ملكهم سنحاريب الذي أخمد ثورتها ودك حصونها وقصورها 689 قبل الميلاد. وخضعت بابل للسيطرة الأخمينية، وظلت مسكونة خلال العهود الاسلامية. وفي ظل سياسة الاستبداد المعاصر التي طالت كل نواحي الحياة في العراق لم تسلم المدن الأثرية والتاريخية العريقة من التشويه والتخريب العمراني المتعمد إذ طالت معظم معالمها خصوصاً التي انشئت حديثاً، فقد تغيرت صورتها الحضارية التي كانت تتميز بها لقرون عدة وبصورة ملفتة للنظر. ولعل ما قامت به الحكومة الحالية من تشويه لمعالم مدينة بابل الأثرية هو المثال الواضح على هذه السياسة المستبدة، فقد شوهت جدرانها بصورة واضحة، إذ زينت بزخارف ونقوش آجرية تتوزع خلالها وتحمل اسم حاكم النظام القائم في العراق كتعبير عن نزعته الذاتية. إن هذا السلوك غير الحضاري يفقد هذه الآثار جماليتها ويمسخ فيها معالمها وتمايزها العمراني الذي ينم عن الأصالة الحضارية التي اتسمت بها المدن الأثرية في العراق. تخطيط مدينة بابل الأثرية بابل مدينة واسعة تبلغ مساحتها 30 كلم2، وتضم العديد من المباني منها المعابد والقصور والشوارع والبوابات، وسلسلة من المصاطب. وقد أحاط نبوخذنصر الثاني مدينة بابل بسورين، وشيّد السور الخارجي من ثلاثة جدران الواحد تلو الآخر. وبلغ سمك الجدار الأول الذي شيّد باللبن 7 أمتار، أما الجدار الثاني الذي شيّد بالآجر فقد بلغ 7.80 متر، ثم يليه الثالث الذي شيّد بالآجر أيضاً، ويبلغ سمكه 3 أمتار، وأمام هذا السور خندق. وشيدت على طول هذا السور أبراج دفاعية. أما السور الداخلي فيتألف من الأجزاء الشرقية والشمالية والجنوبية، ويتكون من جدارين من اللبن: احدهما يوازي الآخر، وتفصل بينهما مسافة 7 أمتار، وهما يؤلفان الاستخدامات الداخلية، ويبلغ طول السور 8 كلم. ولمدينة بابل شوارع واسعة مستقيمة منتظمة تتقاطع بزوايا قائمة تقريباً. وبعض هذه الشوارع يقع بموازاة النهر، وينتهي بعضها الآخر بأبواب المدينة. وأشهرها الشارع المسمى الآن ب"شارع الموكب"، ويعتبر الشارع الرئيسي لمدينة بابل الأثرية، ويتميز بأبراجه وجدرانه المزينة، وكانت تمر فيه تماثيل الآلهة على هيئة موكب من معبد "مردوخ" أثناء عيد رأس السنة البابلية، وتمر من باب كبير هو باب عشتار، وعلى هذا الشارع الرئيسي يتعامد الكثير من الشوارع الفرعية والممرات. وأبرز معالم مدينة بابل الأثرية هي: الزقورة "الصرح المدرج"، بوابة عشتار، المعابد، قصور المدينة، دور السكنى، بناية بيت الأقبية، الملعب اليوناني. الزقورة "الصرح المدرج" تقع هذه الزقورة ضمن حارة ضخمة مقدسة عند البابليين، وقاعدتها مربعة الشكل طول ضلعها 91.55 متر شيّدت بالطابوق الآجر، أما باطنها فقد بُني باللبن، ويتم الصعود الى الزقورة بواسطة سُلم وسطي وسُلمين جانبيين. يرجع تاريخ بناء الزقورة الى أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، وأعاد البناء نبوبلاصر، وأكمله ابنه نبوخذنصر الثاني. بوابة عشتار وهي مدخل مدينة بابل من ناحيتها الشمالية، وتعد البوابة الرئيسية في السور الداخلي للمدينة، ويمر بها شارع الموكب. وقد شيّدت في بداية الأمر على شكل هيكل ضخم من الآجر تزينه صفوف من الحيوانات كالثور والتنين. وأعاد نبوخذنصر بناءها، وزينت بالآجر الملون وغطيت أبوابها بالنحاس. المعابد تنتشر في مدينة بابل الأثرية معابد كثيرة، وقد ذكرت النصوص المسمارية القديمة وجود حوالى 1179 معبداً في بابل متفاوتة الأحجام. ويعد معبد "ايساكلا" المعبد الرئيسي فيها، وهو مخصص لعبادة "مردوخ" كبير الآلهة البابلية. وهو معبد فخم يقع ضمن المنطقة المقدسة، على شكل مربع جداره الخارجي ذو أبراج وأربعة مداخل تقع في وسط جوانبه الأربعة. أما معبد "إي - ماخ" فيقع الى الشمال الشرقي من القصر الجنوبي وعلى بعد 33 متراً من بوابة عشتار الجنوبية، في فسحة منبسطة من الأرض، وتقابل واجهته الرئيسية الجناح الشرقي للبوابة. وقد خصص هذا المعبد لعبادة الآلهة "نن - ماخ" السيدة العظيمة وهو المعبد الوحيد الواقع على مقربة من شارع الموكب، أما بقية المعابد فكانت داخل المدينة. وبقي هذا المعبد قائماً حتى العهود المتأخرة، ثم تحول الى أنقاض عندما هجرت المدينة. وهناك معبد "ننورتا" ومعبد آخر مخصص للآلهة "كولا" ومعبد "نابو شخاوي"، وكذلك معبد مخصص لعبادة الآلهة "عشتار". قصور المدينة 1- القصر الجنوبي يقع في قلب مدينة بابل الى الجنوب من بوابة عشتار، على يسار شارع الموكب. وهو من أكبر القصور وأفخمها، ويعرف أيضاً بقصر نبوخذنصر، لأنه قام بتوسيعه وإعادة بنائه. مخطط القصر مستطيل الشكل، مساحته نحو 51000 م2. ويتألف من خمس ساحات كبيرة، يحيط بكل منها غرف وممرات ومرافق عدة. وتمثل الساحة الوسطية ساحة استقبال، وهي مبلطة بالآجر المسطح الكبير. وتوجد عند ضلعها الجنوبي قاعة العرض. ويحيط بهذا القصر سور يبلغ سمكه بين 7 و11 متراً. والقصر مشيّد بالآجر البابلي المعروف بقياساته 32سم × 32سم وسماكة 10سم. ويتميز هذا القصر بفخامته وخصائصه المعمارية، وقد مر بأدوار بنائية متعددة، ولكن معظم معالمه الشاخصة المتبقية تعود الى فترة إعادة بنائه في عهد نبوخذنصر، ويبدو أن قصراً كان قائماً في هذا الموضع. 2- القصر الشمالي ويسمى أيضاً بالقصر الرئيسي، ويرجح أن نبوخذنصر شيّده في السنين الأخيرة من حكمه، وربما اتخذه مسكناً، وخصص بلاطاً ملكياً. وبعض أجزاء مخططه يشبه الى حد بعيد مخطط القصر الجنوبي، ويوجد فيه ما سُمي بمتحف نبوخذنصر، إذ وجدت في احدى غرفه مجموعة من الآثار الفنية التي يعود بعضها الى عهود سبقت عهد نبوخذنصر، ومن أشهرها أسد بابل، اضافة الى بعض الغنائم الحربية التي استقدمها من الأقطار التي غزاها. 3- القصر الصيفي: شيّد هذا القصر من قبل نبوخذنصر وعُرف باسم "قصر حياة نبوخذنصر" كما تنص الكتابة الموجودة عليه. وقد أطلق عليه المنقبون الألمان اسم "القصر الصيفي" لعثورهم على كوى تنفذ الى الأعلى. وتتمثل بقاياه بالمرتفع الترابي الضخم الذي يعرف اليوم باسم "تل بابل"، الواقع على طريق مدينتي بغداد - الحلة. والقصر مشيّد على مرتفع اصطناعي قوامه أبنية تحت بناء القصر على شكل مصطبة كبيرة ارتفاعها 18 متراً تحت مستوى جدران القصر، ومخططه يشبه الى حد كبير مخطط جدران القصر الشمالي، وهو على شكل مربع طول ضلعه 250 متراً مربعاً. دور السكنى تقع هذه الدور الى الشرق والشمال الشرقي من منطقة زقورة بابل، والى الغرب من معبد عشتار. وتمتد الحارة السكنية نحو كيلومتر من الشمال الى الجنوب، وبعرض 400 متر. ويعود القسم الأكبر من مجموعة دور السكنى الى العصر البابلي الحديث. وتوجد في الحارة التي تضم هذه الدور شوارع منتظمة ومستقيمة، وأظهرت التنقيبات الأثرية ان قسم المدينة المخصص لدور السكنى لم يتغير تغيراً أساسياً منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد وحتى العهد الفرثي، ويمثل طراز هذا الدور الطراز المعماري الشرقي في العراق والذي يتمثل في الساحة الوسطية التي تحيطها الغرف والمرافق الأخرى. بناية الأقبية وهي تعرف خطأ عند الناس بالجنائن المعلقة، وتقع عند الزاوية الشمالية الشرقية للقصر الجنوبي، وفي الجانب الأيسر من شارع الموكب، وعلى مقربة مباشرة من بوابة عشتار. ويتألف البناء من قسمين متداخلين، ويضم أربع عشرة غرفة متقاربة من حيث الشكل والحجم، كل سبع منها تقع على جانبي رواق، وقد غطيت هذه الغرف بأقبية على شكل عقود طويلة. الملعب اليوناني في بابل يذكر البروفيسور هاينرش لنزن رئيس بعثة التنقيب الألمانية في مدينة الوركاء الأثرية في العراق، على إثر التنقيبات التي أجريت في هذا الموضع، ان هذا الملعب أمر بتشييده الاسكندر المقدوني الكبير عند احتلاله لبابل، وشيد من أنقاض البرج المدرج لبابل. وكان الملعب يتألف من مدرجين، احدهما أعلى من الثاني، وهو على هيئة نصف دائرة وأمامه ساحة الاستوديو. ولقد أعيد بناء هذا الملعب مرة في العهد السلوقي ومرتين في أزمنة الملوك الفرثيين. * باحث عراقي في العمارة.