امتناع مصر الدولة عن المشاركة في ندوة كوبنهاغن دليل على عودة الحيوية للتفاعل بين الحكم والجماهير. هذه الاستجابة ساهمت في احكام طوق العزلة على فئة هامشية اعتبرت التطبيع مع اسرائيل من خلالها في الواقع السياسي وإذ بها تكتشف ان دعوتها تشكل افرازاً مرضياً في الجسم الوطني المصري. فالدعوة للتطبيع قبل استكمال الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة تشكل سابقة خطيرة من شأنها تهميش الالتزامات الوطنية والقومية البديهية ولمزيد من التسهيلات كي تستمر اسرائيل في املاء شروطها وترسيخ احتلالاتها ومستعمراتها في الأراضي المحتلة. الا ان دعاة كوبنهاغن قرأوا الاحداث الجارية خطأ، إذ اعتبروا ان تبوؤ ايهود باراك يشكل فرصة ثانية لاعادة مشروعهم "السلامي" الى خريطة العمل السياسي. فمن الطبيعي ان يجهل او يتجاهل مثقفو كوبنهاغن طبيعة المشاعر العميقة لدى الجماهير وإحساسها الرافض لما لا يتلاءم مع اصالة انتماءاتها، لأن دعاة كوبنهاغن في مصر وغير مصر نصبوا انفسهم وكلاء نخبويين عن ما سمي زوراً ب"النظام العالمي الجديد". لقد فاتهم ان المناعة التي يتمتع بها الجسم الشعبي تردع ثم تعزل الطفيليين الذين يشوشون على تعبير الوجدان الوطني والقومي. من هذا المنظور كان تجاوب الحكم في مصر مع الحالة الوطنية في محله مما فوّت على أهل كوبنهاغن انحياز الحكومة الى موقع ومنبر مناف لآراء وقناعات الرأي العام في مصر وفي كل ارجاء الاوطان العربية. ثم جاءت التعبئة لمقاومة التطبيع لتؤكد للملأ ان الفرز ادى الى نبذ الدعوة للسلام المزور. هل يعني ذلك ان من يقاوم التطبيع في الظروف الراهنة هو "عدو للسلام" كما يحلو لدعاة كوبنهاغن ان يوحوا به؟! الجواب بالطبع لا. هذا يعني ان نسارع الى القول ان هذا المؤشر الايجابي يجب ان لا يحرف الانظار عن بعض المطبات الخطيرة التي تحيط بمستقبل المفاوضات العربية - الاسرائيلية كون مجيء حكومة باراك الموسعة اوجدت توقعات وآمالاً ليست في محلها، وإذا لم تتجاوب حكومة باراك فقد يؤدي ذلك الى مزيد من الاحباط والاحتقان. لذا يتعين علينا ان نتدارس بدقة الظروف المحيطة بما سمي ب"العملية السلمية" او بمسيرة السلام. عندما دعت منظمة التحرير الفلسطينية الى عقد مؤتمر لاعادة تطبيق اتفاقات جنيف الرابعة وتزامنت هذه الدعوة مع تأليف الحكومة الاسرائيلية اصرت الولاياتالمتحدة على معارضة هذا الاقتراح مما ادى الى ان تجاوبت الاطراف العربية المعنية مع اقتراح تأجيل البحث في هذا الموضوع. كان موقف الادارة الاميركية ان مؤتمراً يهدف الى بحث القاعدة القانونية لواقع الأراضي الفلسطينية من شأنه احراج رئيس الوزراء الاسرائيلي الجديد من جهة وتعطيل المسيرة التي وعد باراك باستئنافها. لكن، ونظراً الى اهمية انعقاد هذا الاجتماع في اطار الأممالمتحدة اعتقد ان عملية التأجيل كانت خطأ بالغ الخطورة لأن اعادة تأكيد كون الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس هي "اراض محتلة" كان سيؤدي الى وضوح المستندات القانونية وإزالة الالتباس الذي اوجدته اتفاقات اوسلو و"واي" الذي لازم توصيف هذه الأراضي. ان تأكيد كون الأراضي المحتلة هي اراض محتلة تنطبق عليها اتفاقات جنيف الرابعة كان سيؤدي الى تصحيح الخلل وسط الثغرات التي تحاول "اسرائيل" عبرها التنصل من التزاماتها في هذه الاتفاقات. الا ان التأجيل، اضافة الى معارضة الرأي الاميركي لهذا الاجتماع، يعني ان الفريق الفلسطيني فوّت على نفسه فرصة ترتيب الأولويات التي من شأنها ان تؤول وان بالتدرج الى اهدافه المعلنة حق تقرير المصير وقيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس. وإذا كان لا بد من استرجاع المبادرة في اتجاه عقد اجتماع جنيف فلا بد من تحديد الموعد وربط موضوع تطبيق اتفاقات جنيف الرابعة كعنصر مؤسس للمسيرة السلمية. فمثلما اوضح باراك سقف حكومته الجديدة في المباحثات المقبلة، لذلك كان على الفريق الفلسطيني ان يضمن استئناف العملية السلمية وقبول باراك التعامل مع مصير الأراضي الفلسطينيةالمحتلة كونها أراضي محتلة. ان ازالة الالتباس في هذا الشأن هي المدخل الأسلم، وتكمن في ايجاد تصور مشترك للنتائج المتوخاة والتفاوض على الخطوات التي تؤدي اليها. عندئذ بامكان الفريق الفلسطيني ان يفاوض على مراحل الانتقال من كون فلسطينالمحتلة الى فلسطين الدولة المستقلة. اما ان تصبح الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني موضوعاً قابلاً للبحث والتفاوض عندئذ تستطيع اسرائيل ان تتلاعب بالتفسير كما فعلت منذ عام 1967 اذ لم تعترف منذ ذلك الحين بأن اتفاقات جنيف الرابعة تنطبق على احتلالها. لذا يتراءى لنا ان تحديد الموعد لعقد اجتماع جنيف بحضور جميع الاطراف العربية ضرورة لجعل معادلة المسيرة السلمية هادفة بما يتلاءم مع الحقوق العربية بما لا يرقى اليه شك. نقول هذا ونحن ندرك ان بعض من يدعون الواقعية سيعتبرون ان اعادة صياغة المستندات القانونية خارج تعريف اتفاقات اوسلو و"واي" من شأنه ان يعطل الدور الوسيط للولايات المتحدة، اضافة الى استباق النيات والتوجهات "الواعدة" التي اطلقها باراك. وسوف يدعي "الواقعيون" انه اذا تعطلت الوساطة الاميركية - وإن موقتاً - عندئذ تدخل الولاياتالمتحدة بدوامة الانتخابات الرئاسية ويكون العرب - والفلسطينيون على الأخص - فوتوا على انفسهم فرص التقدم والانفراج التي وعدوا بها. لكن اذا كانت توجهات باراك هي كما يحاول الاعلام الاميركي اظهارها، وكما تحاول الادارة الاميركية اقناعنا بها، عندئذ فإن التعامل التفاوضي مع المسيرة السلمية يجب ان ينطلق من التوافق على كون الأراضي الفلسطينية محتلة وليست أراضي "متنازعاً عليها"، او ان لاسرائيل أية حقوق تحت عنوان "المقتضيات الأمنية" او العقائدية. وإذا كان من ضرورة لاختبار نيات باراك، فالتسليم بانطباق اتفاقات جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينيةالمحتلة من شأنه ان يمهد للمفاوضات من أجل الوصول الى حل شامل وعادل ودائم. * * * في ما يتعلق بالتصريح الذي ادلى به الرئيس الاميركي بيل كلينتون "اود لو ان الشعب الفلسطيني يشعر بأنه حر وحر اكثر للعيش حينما يرغب وحيثما يريد"، تعمد باراك ان يصف هذا القول بأنه "غير مقبول"، كما بادرت اجهزة الدعاية الموالية لاسرائيل الى ادانة هذه المقولة التي اقتطعت قصداً من تعليق اعاد فيه الرئيس الاميركي المواقف الثابتة للادارة الاميركية في هذا الشأن. وما كاد هذا التصريح يعلن عنه حتى بادر المسؤولون الاميركيون الى القول بأن ثوابت الموقف الاميركي لم تتغير وان تصريح الرئيس كلينتون يجب ان يؤخذ في سياق مجمل حديثه اثناء زيارة الرئيس حسني مبارك الاخيرة لواشنطن. فبعد اعلان باراك ان هذه الفقرة من تصريح الرئيس الاميركي "غير مقبولة" وتطمين اسرائيل وأنصارها بأن لا تعديل او تغيير في الموقف الاميركي الذي يجدد ان بند "اللاجئين" هو من اختصاص "المرحلة النهائية" جاء تطمين الوزير في السلطة الفلسطينية زياد ابو زياد ل"اسرائيل" بأن الفلسطينيين لا يريدون لاسرائيل ان "تنتحر". كثيرون لا يفهمون لماذا هذا "التطمين" من قبل مسؤول في السلطة؟ ولماذا يشكل الاقرار بحق العودة، هذا الحق المعترف به دولياً، على انه بمثابة "انتحار لاسرائيل"؟ ولماذا هذا التنطح بالتطوع للتنصل حتى من رأي الرئيس كلينتون المجتزأ وكأنه يريد ان يشارك كورس التطمين لاسرائيل ولباراك؟ وكأن حتى هذه الايجابية القصيرة المدى اعتبرها المسؤول الفلسطيني عرقلة للمسار الموعود استئنافه قريباً. وماذا يا ترى عن مستقبل اللاجئين الفلسطينيين؟ لقد كان الاحرى بالفريق الفلسطيني - وبهذا المسؤول بالذات - ان ينتهز تصريح الرئيس كلينتون فرصة لتوضيح السياسة العنصرية الاسرائيلية التي تعمل على إغلاق موضوع حق العودة او التعويض لمن يرغب كون اسرائيل تعمل جاهدة على تثبيت يهوديتها واستبعاد اي حق للاجئين في العودة الى بيوتهم وأراضيهم المغتصبة والتي أزيلت منها اكثر من اربعمئة بلدة وقرية. ان الذهنية التي دفعت بالمسؤول الفلسطيني زياد ابو زياد الى ان يطمئن "اسرائيل" هي نفسها التي اوقعت "المسيرة السلمية" بالمصيدة التي اجازت لاسرائيل تحديد بنود الاجندة مما يفسر الكثير من السلوك الذي لازم الاطراف العربية المعنية منذ انتخاب ايهود باراك لرئاسة الحكومة في اسرائيل. ولكن ما دام باراك قد لمح الى انه يريد تسريع "المسيرة السلمية" وعلى مختلف الجبهات، لذا يصبح لزاماً على الفرقاء العرب ان يسارعوا الى التنسيق الملزم في ما بينهم. هذا التنسيق الملزم يصبح حاجة ملحة لا لكون الوسيط الاميركي ملتزماً بضمان "تفوق استراتيجي لاسرائيل" على الاطراف العربية فحسب، بل لأن التنسيق الملزم يحول دون تفاقم سياسات الاستفراد التي تعمل اسرائيل على اتباعها مع الاطراف العربية المعنية، وتوجد نوعاً من التوازن المطلوب الذي يوفره الالتزام بالتنسيق. بمعنى آخر علينا ان نعي ان التفاوض مع دولة قائمة جزء من اراضيها محتل - سورية ولبنان - ليس مثل التفاوض مع مشروع دولة كما هو الأمر في الحالة الفلسطينية. لذلك وبدلاً من ان تبقى اسرائيل قادرة على فصل المسارات فإن التنسيق المقترح يجعل سورية ولبنان يستقويان بمحورية القضية الفلسطينية وان يستقوي الفلسطينيون بوحدة الموقف ووحدة الصف الناشئ بين كافة الاطراف العربية. هذا الاستقواء المتبادل يعيد القضية الفلسطينية الى حاضنتها العربية، كما يعيد للوطن العربي صدقية التزامه بالقضية الفلسطينية. وعندما نقول الوطن العربي فهذا يعني ان نعمل على ان لا تكون "الاطراف المعنية" محصورة بمن احتلت اجزاء من اراضيهم او حرم مواطنوهم من استحقاقات السيادة، بل ان تشمل كل اوطان الأمة العربية بحيث تطبق قوانين المقاطعة العربية ويتجمد التطبيع لريثما رضخت اسرائيل لما تمليه الشرعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة ذات الصلة. ليس المطلوب ان ننتظر ما تنطوي عليه مبادرات باراك، بل علينا ان نوضح كون مطالبتنا بالحقوق المعترف بها دولياً يجب ان تتم تلبيتها وانجازها وهذا لا يتم الا من خلال التنسيق الملزم كحد ادنى... وكخطوة اولى كون المسارات مترابطة بشكل عضوي. * مدير مركز دراسات الجنوب في الجامعة الاميركية في واشنطن.