أثار الإعلان عن اكتشاف أقدم أبجدية في التاريخ المصري القديم من قبل جون كولمان دارنل، عالم المصريات الاميركي، الكثير من التساؤلات من جانب المؤرخين والأثريين على حد سواء. وكان دارنل عمل في بعثة أثرية أميركية في الطريق الذي يربط "أبيدوس" التي كانت تقع الى الجنوب من مدينة الجيزة إلى الأقصر، حيث تم الكشف عن نقوش مصرية قديمة تؤكد استخدام هذا الطريق في العصور الفرعونية، سواء في التجارة أو في الحروب. وفي "وادي الحول"، قرب الأقصر، عثر دارنل على أبجدية صوتية تتكون من 30 رمزاً أو أقل تمثل الأصوات، نسبها الى جماعات سامية. ويستوقفنا هنا أمران في غاية الخطورة: الأمر الأول هو الإعلان عن اكتشاف هذه الأبجدية في الولاياتالمتحدة الأميركية وليس مصر، وفي هذا تجاوز للأعراف الأثرية المتعارف عليها دولياً، والتي عُمل بها في مصر منذ القرن الماضي. إذ من المعتاد ان يعقد مؤتمر صحافي في موقع الكشف من قِبَل المكتشفين الأجانب والمسؤولين المصريين للإعلان عن الكشف بعد مراجعته مراجعة علمية من قِبَل مفتشي الآثار المصريين المرافقين للبعثة الأجنبية. وما حدث من دارنل يعكس تجاهلاً للمجلس الأعلى للآثار.ومن ثم وجد مسؤولو ذلك المجلس أنفسهم في وضع حرج، فلم يجدوا ما يقولونه تعليقاً على الحدث. وفي ظل هذا الوضع تثار شكوك حول الكشف نفسه والهدف من الإعلان عنه، ومن نسبته الى جماعات سامية. فهل هو حلقة جديدة في سلسلة الادعاءات التي ترتدي ثوباً علمياً، لنسبة الحضارة المصرية الى العبرانيين؟ وإذا كان الوضع كذلك بعد مئة وخمسين عاماً من الدراسات الآثارية المصرية، فمن الأجدى أن توفر الحكومة المصرية الملايين المهدرة على قطاع الآثار المصرية في المجلس الأعلى المصري للآثار، وعلى أقسام الآثار في الجامعات المصرية، وعلى رأسها كلية الآثار في جامعة القاهرة. فما زالت الدراسات الآثارية غريبة عن مصر، ولا يزال الباحثون الأجانب هم الرواد في هذا المجال، بل ذهبت جهود علماء المصريات المصريين من الجيلين الأول والثاني مثل سليم حسن ومحرم كمال وأحمد فخري وعبدالمنعم ابو بكر، هباءً. والأمر الثاني هو القول إن هذه الأبجدية سامية، وهو قول يحمل بين طياته رموزاً ذات أبعاد سياسية، إذ أن المصادر الأثرية لا تنفي وجود ساميين في مصر منذ فترة مبكرة، ولكن مصر كانت طوال حقب التاريخ تتقبل الهجرات التي تجدد دماءها، ولكن بشرط ان يندمج المهاجرون في الكيان المصري، لا أن يتميزوا عنه. وتنبغي ملاحظة أن هناك نظريات أثرية في الوطن العربي تدحض السامية كجماعة ذات أصل مشترك، كما تدحض ما يُعرف باللغات السامية، إذ أن هذه اللغات خرجت من الجزيرة العربية مع هجرة قبائلها الى العراق والشام، ولذلك أجمع العديد من الأثريين على تسميتها بالجزرية. وهذه اللغات، وهي الآكدية والبابلية والآشورية والآرامية، تنتمي مع المصرية القديمة التي تعرف بالهيروغليفية، إلى أصل واحد، للتقارب بينها في جوانب أساسية، هي: - اعتمادها بصورة أساسية على الحروف الصحيحة، وليس على حروف العلة، كما هي الحال في اللغات الآرية. ثم أن فيها حروفاً صحيحة إضافية غير موجودة في اللغات الآرية كالحرف اللهوي ط والحنكي ق والسني الصافر ص والحلقي خ. - أن الغالبية العظمى من كلماتها مشتقة من أفعال ذات جذور ثلاثية. - وجود جنسين فقط هما المذكر والمؤنث، وعدم وجود ما يعرف بلا مؤنت ولا مذكر. - وجود مجموعة كبيرة من المفردات في هذه اللغات تتطابق لفظاً ومعنى. وكان اليهودي النمسوي شلوتر أطلق على هذه اللغات اسم "السامية"، متجاهلاً أنها خرجت من الجزيرة العربية، وأنه ينبغي أن تنسب الى تلك المنطقة كاللغة البابلية نسبة الى بابل، والسومرية نسبة الى ارض سومر. فضلاً عن أن هؤلاء القوم لا يوجد تطابق بينهم في الخصائص والملامح، على عكس ما يرى شلوتر، إذ يذهب الى نقاء عنصرهم بطريقة غير مباشرة. والحقيقة الغائبة عن الاذهان حين تم الإعلان عن تأريخ أبجدية "وادي الحول" على أنها أقدم أبجدية في التاريخ المصري، هي أنه لا يوجد تأريخ حقيقي لمدى أقدمية الأبجدية الهيروغيلفية الى الآن. فلا يوجد من يجزم من علماء الآثار بتاريخ ظهور هذه الأبجدية بالضبط، بل ان العديد من الاكتشافات الأثرية لكتابات هيروغليفية مبكرة جداً، كشف عنها في الوديان المحصورة بين البحر الأحمر ووادي نهر النيل، حيث نشأ العديد من المراكز الحضارية في عصور ما قبل التاريخ، قد يؤدي نشرها الى إعادة النظر في كثير من المقولات الشائعة في علم المصريات. وهذه النقوش يقع بعضها قرب محافظات بني سويف وسوهاج وقنا، في صعيد مصر، وقاد الكشف عنها استخدام أجهزة الاستشعار من بُعد. ولكن ما جعل هذا غائباً عن دائرة الإعلام هو إهمال الباحثين والبحث العلمي داخل المجلس الأعلى المصري للآثار، وتوقف إصدار الدوريات والحوليات العلمية الخاصة به، وتوقف إصدار سلسلة المئة كتاب الأثري. بل إن هناك شكوكاً مثارة حول وجود أبجديات ظهرت في عصر ما قبل الأسرات، سواء في "بوطو" عاصمة المملكة الشمالية أو في صعيد مصر. وهذه الشكوك بدأت مع كشوف البعثة الألمانية لآثار تعود الى عصور ما قبل التاريخ في "بوطو"، بعضها أعاد من خلاله شتادلمان، عالم المصريات الألماني، تأريخ المجموعة الهرمية وظهورها في سقارة في الجيزة. مع الأخذ في الاعتبار أن محاولة إنشاء أبجدية يسجل من خلالها الإنسان ما يراه بدأت مبكراً في تاريخ الانسان. فالكتابة بالنسبة الى الإنسان هي نسق للتواصل بين البشر عن طريق علامات مرئية تقليدية. ولذا بات اكتشاف أي نسق غير متكامل من العلامات لا يعد أبجدية، إذ أن الأبجدية يكون تأثيرها فاعلاً حين تكتمل ويستطيع الانسان التواصل من خلالها مع الآخرين. ويرى الكثير من مفتشي الآثار المصرية في صعيد مصر أنه لا يمكن الجزم بأن أبجدية "وادي الحول" هي أبجدية متكاملة، بل من الممكن أن تكون بداية لأبجدية لم تكتمل تحمل علامات تشبه تلك التي تطورت في ما بعد في بلاد الرافدين والشام. ولكن شاعت الأبجدية الهيروغليفية عنها لأنها اكتملت واستطاع من خلالها الانسان المصري القديم التواصل مع غيره. * باحث مصري متخصص في الآثار.