في التوجه نحو سباق الانتخابات المقبلة سنة ألفين في الولاياتالمتحدة الاميركية، بدأت الكتب تظهر لتزكية المرشحين. بوب زلنك، وهو المراسل الاقدم السابق لشبكة "ال.اي.بي.سي" الاميركية، ألّف كتاباً عن آل غور المرشح الديموقراطي المحتمل، يصفه بأنه صاحب صرخة: "قلنا شرّعوا قالوا حققوا"، ابان احتدام الخلاف بين الكونغرس الاميركي والرئيس بيل كلينتون اثناء قضية مونيكا. وفي الكويت، انتهت الانتخابات الصيفية للفصل التشريعي التاسع التي كانت حملاتها سريعة وحادة في بعض الاحيان، بوصول خمسين نائباً للبرلمان الذي سيدخل الكويت الى القرن الواحد والعشرين، والنغمة واحدة وهي: "قلنا شرّعوا قالوا استجوبوا". فبدلاً من صيحة التحقيق التي نادى بها الكونغرس تجاه الرئيس الاميركي، تأتي "صيحة الاستجواب" للوزراء الكويتيين التي ادت الى حل المجلس النيابي السابق في الكويت لتظهر من جديد بمجرد ظهور نتائج الانتخابات، فقد هدد بعض المرشحين - الفائزين إبان الحملة الانتخابية بأنهم سيواصلون الاستجواب الذي قرروه اثناء فترة المجلس السابق. احدى اهم القضايا المصاحبة للديموقراطيات، سواء كانت ناشئة ام قديمة، هي الاختلاف على المفاهيم العامة للديموقراطية، والدور الذي يجب ان يقوم به البرلمان في المشاركة في العملية السياسية. فكثيراً ما تختلط في ذهن البعض الادوار بين "تشريع ورقابة" من جهة، وهو الدور المنوط بالمؤسسات الديموقراطية، وبين التدخل في "الشؤون التنفيذية" المناطة بالحكومة من جهة اخرى. وسيظل هذا الخلط قائماً في تجارب العالم الثالث، ومنها التجربة الكويتية. قال لي احد الاصدقاء انه، وهو يهم بالتصويت امام صندوق الاقتراع، قد تصبب منه العرق، لأنه شعر بعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه في الاختيار والتفويض. وربما يشعر كثير من الكويتيين مثله بالرهبة والتوجس وهم يقومون بواجبهم الوطني، وذلك ناتج من التناقض بين حرصهم على الديموقراطية وبين ما يلمسونه من التعثر المستمر في آليتها منذ ثلاثة عقود، بين الحل والتعليق او المشاكسة، والاخيرة لا تؤدي الى تحقيق المصلحة العامة. من الملاحظ ان البرلمان في الكويت لم يحل بالتوالي مطلقاً، اذ لم يكن فصل تشريعي يمر كاملاً وبنجاح، حتى يتعثر العمل في الفصل التشريعي الذي يليه، فيتم الحل. وان كانت ثمة نتيجة تستخلص من ذلك، فانها حرص القائمين على التجربة ان تأخذ مداها. الانتخابات الكويتية الاخيرة جرت على خلفية وظواهر تحدث للمرة الاولى، منها حل المجلس "حلاً دستورياً". ففي كل المرات السابقة التي حُل فيها المجلس، علق العمل بالدستور لفترات مختلفة. حدث ذلك عامي 76 و85. اما هذه المرة فكان الحل حسب نصوص الدستور، فأعطي المرشحون شهرين للتسابق على مقاعد البرلمان الخمسين. ومن الظواهر الجديدة ان قُدم بعض المرشحين للنيابة العامة اما نتيجة تجاوزهم في حملاتهم الانتخابية الاعراف المرعية، او لاختراقهم القانون الذي سنّه المجلس المنحل باجراء الانتخابات الفرعية. كما انه من المظاهر الجدية ان عدداً كبيراً من المرشحين استمر في ترشيحه الى موعد الانتخابات، فاق عدد المرشحين في الانتخابات التي اعقبت الاحتلال العراقي الكويت. الحل الدستوري جاءت اسبابه عامة، لذلك فان بعضهم بدأ يراهن على ان هذه الاداة الدستورية لا يمكن ان تستخدم من جديد، لأن النص الدستوري يقول: لا يُحل المجلس لنفس الاسباب مرتين. واذا اقتنع البعض بهذا التفسير، فان المراهنة على هكذا توجه قد تسبب الخلاف والاختلاف في المجلس المقبل. قامت الحكومة الكويتية باصدار ما مجموعه ستين مرسوماً بقانون، بعدد ايام الحملة الانتخابية منذ ان حل المجلس الى يوم الانتخاب. ومعظم هذه القوانين تنظيمية لا خلاف حاداً عليها. ومع ذلك، فان اوساط بعض الاعضاء الجدد تعارض هذه المراسيم لسببين، الاول: ان الدستور ينظم اصدار المراسيم في حال الضرورة في غياب مجلس الامة، وانها يجب ان تعرض على المجلس في جلسته الاولى. وفي نظرهم، هذه المراسيم ليست ذات ضرورة. اما السبب الثاني فهو عدم تشجيع الحكومة على اصدار مراسيم بقوانين في المستقبل، سواء في حال الحل الدستوري، او العطل النيابية. بعض هذه المراسيم بقوانين سيكون محل خلاف حاد، وعلى رأس هذه القوانين السماح للنساء الكويتيات في المشاركة السياسية في الانتخابات القادمة متى تمت. قد تكون معارضة هذا القانون، سواء لأسباب دستورية او اجتماعية او شرعية، هي الفاصل بين التعاون او عدمه مع الحكومة المقبلة. ولكن القراءة العامة للنتائج تقود الى احتمال كبير في ان يمر هذا القانون التاريخي. احدى النقاط الشائكة التي يترقبها المتابعون للتجربة الكويتية هي انتخابات رئاسة المجلس. فقد سيطر السيد احمد السعدون لثلاثة فصول تشريعية على مطرقة الرئيس، وهو برلماني حاذق ومجرّب، ونافسه على الرئاسة في الفصل التشريعي السابق جاسم الخرافي، الذي يتمتع بتجربة طويلة في وزارة المال، وكذلك في مقاعد البرلمان. وفاز السعدون في المرة الاخيرة بفارق صوت واحد، فتعطل عمل المجلس بعدها جزئياً عندما احيل الامر الى المحكمة الدستورية لمعرفة موقع الصوت الواحد من اللائحة الداخلية، فحسمت المحكمة رئاسة السعدون وقتها. الى جانب معركة الرئاسة، هناك معركة انتخاب اللجان التي يطبخ فيها الكثير من قرارات المجلس، وبعض هذه الطبخات تتعطل الى ان تفسد. فعلى شكل هذه اللجان يعتمد عمل المجلس الجديد. قراءة النتائج تقول ان الوضع في مجلس 99 هو تقسيم لكتل سياسية صغيرة، ويعتمد على اية صحيفة كويتية تكون قد قرأتها مباشرة بعد ظهور النتائج صباح الاحد الماضي كي تقرر اي كتل سياسية قد وصلت الى المجلس. ولكن الواضح الآن ان هناك كتلاً صغيرة، منها اسلاميون "اخوان"، واسلاميون "سلف" وشيعة. ولكن عدداً كبيراً من الخمسين عضواً الذين وصلوا الى المجلس، من المستقلين والليبيراليين ايضاً. بمعنى ان لا كتلة بعينها تستطيع ان تفرض توجهاتها عليهم. وهذه الكتلة الكبيرة غير منظمة في برنامج محدد. من الظواهر التي خلفتها النتائج في مطلع هذا الاسبوع ان الفارق في الاصوات بين الفائز الاول والفائز الثاني كبير في معظم الدوائر الانتخابية، وهو دليل على ان الناخبين صوتوا للأشخاص وليس للبرامج، فانفرطت التحالفات في العديد من الدوائر. اما الملاحظة الثانية، فان الفارق بين المرشح الذي فاز بالمركز الثاني، وانضم الى المجلس مع رفيقه الاول، وبين الثالث الذي خسر، في معظم المناطق الانتخابية كان ضئيلاً، بل ان ثلاث دوائر كان الفارق في الاصوات بين الثاني والثالث لا يزيد عن اربعة اصوات فقط. من الملاحظ ايضاً ان المجتمع الكويتي بدأ يكوّن ما يمكن ان يطلق عليه "المجتمع السياسي"، فقد عدت الى قبة البرلمان مجموعة من البرلمانيين السابقين، الذين خسروا الانتخابات اما في المرة السابقة او التي سبقتها. وهذا يعني في ما يعنيه ان المشتغلين بالعمل السياسي لم يعودوا "هواة" كما بدأوا. العائلية ايضاً كان لها مكان. فقد تسلم جيل جديد من الابناء او الاخوة دفة الوصول الى المقعد النيابي، وهذا يضيف الى تكوّن المجتمع السياسي الذي أشرنا اليه. عادة، في كل انتخابات برلمانية في الكويت في الدورات الثماني السابقة، كانت تختفي على الاقل نصف الوجوه من مقاعد البرلمان السابق. ولم تكن هذه الدورة استثناء. فقد غابت مجموعة من الوجوه، لعل من اهمها بعض المتسببين في الاستجوابات الماضية في البرلمان السابق، وقد خسر بعضها السباق بجدارة. ترتيباً على ما تقدم، فان المجلس التاسع للبرلمان الكويتي له صبغة وشخصية ومعالم محددة. بعضهم يصفه بأنه برلمان قوي، على عكس سابقه الذي لم تكن له شخصية مميزة لغلبة تيار واحد وتذبذب القضايا غير الواضحة في الطرح تحت قبته، مما سبب تسابقاً لنيل رضى الشارع بضجيج من دون محتوى، الى درجة ان بعض البرلمانيين في الحملة الانتخابية وصفه بأنه "اسوأ مجلس نيابي مر على الكويت". احدى مشكلات العمل السياسي الكويتي هي البحث عن الشعبية، لذلك نجد ان النائب في الغالب يريد ان يرضي الناخب عبر تقديم خدمات قد لا تكون مهمة او ضرورية، وبالتالي يضغط على الوزير لتقديم هذه الخدمات، ويتسبب ذلك في تراكم الازمة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. في وجود برلمان قوي ومتجانس، يكون تقديم الخدمات عن طريق التشريع العام الذي يستفيد منه المواطنون بشكل عام، فيقل البحث عن الشعبية، وبالتالي تستقيم الامور نسبياً. في بلد يبلغ متوسط دخل الفرد فيه حوالي اثنين وعشرين الف دولار سنة 1997، وبعد انخفاض اسعار النفط الحادة في 1998 وبداية هذا العام، طالبت المؤسسات المختصة بعصر النفقات الحكومية. وبالفعل بدأ ذلك الاجراء الذي أثر في القطاع الخاص التابع اساساً لما تضخه الحكومة من موازنة عامة سنوية. لذلك فان احد المقاييس القادمة لرصد التعاون بين الحكومة المقبلة والمجلس هو الاجراءات التي يمكن ان تتخذ في الاطار الاقتصادي. فالرسالة عادت واضحة، وهي ان اسواق النفط لم تعد مستقرة، وكذلك الدخل المتولد من تصدير هذه المادة. وحتى تتبين الصورة بشكل اوضح في الاسبوع المقبل، عندما تقلع اشرعة بلد النهار لتلاقي هبوب الرياح السياسية، ستتضح اكثر اتجاهات التعاون او التنافر، ملائمة كانت او معاكسة. * كاتب كويتي، الامين العام للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.