في آخر خطاب الى الأمة المغربية بمناسبة عيد ميلاده السبعين، في التاسع من الشهر الجاري، بدا الملك الراحل الحسن الثاني متفائلاً بمستقبل الاقتصاد المغربي وهو يعلن تحويل جزء من عائدات تحرير قطاع الاتصالات لمعالجة مشاكل التنمية في الريف والحد من بطالة الشباب التي ظل الملك الراحل يعتبرها القضية الوطنية الثانية بعد ملف الصحراء. وفي ذلك الخطاب الذي لا بد من التوقف عنده لأنه وضع سيناريوهات النهوض الاقتصادي والتنموي للسنوات الثلاث المقبلة، قال الملك: "سنجعل من المغرب ورشة كبيرة. وسنرى في اقرب وقت ممكن الدنيا بألوان اخرى وستتسع الآفاق امامنا بما يليق بماضينا ويطابق طموحنا وسنطمئن على فلذات اكبادنا وعلى الاجيال الصاعدة". واعتبر الملك الحسن الثاني ان تخصيص قطاع الاتصالات فتح آفاقاً رحبة امام الاقتصاد المغربي، لأن المبلغ الذي تم تحصيله من منح امتياز انشاء شبكة ثانية للهاتف النقال بلغ 1.1 بليون دولار "وهو رقم لا يوجد الا في الدول الراقية التي لها اقتصاد قوي وقاعدة صلبة ورؤوس اموال مهمة جداً" مما شكل في اعتقاد الملك الراحل دليلاً على الثقة الدولية بالاقتصاد المحلي، واعترافاً عالمياً بطريقة اعداد المناقصات وما واكبها من شفافية ونزاهة وتقنية ودراية هي في مستوى الدول الراقية. ودعا الملك الراحل المؤسسات الاقتصادية الوطنية والمصارف التجارية الى الانضمام الى المشروع التنموي الضخم الذي قدر كلفته بين 2.2 الى ثلاثة بلايين دولار تصرف من خارج موازنة الدولة، مؤكداً ان حركة الأموال في المغرب تشهد ركوداً وان المصارف تكتظ بالأموال 22 بليون دولار حجم الودائع المصرفية، وهي ستجد في المشروع فرصة سانحة معقولة اقتصادياً ومالياً لأن تخرج بعض ذلك المال، كما ستجد الدولة في تلك الاستثمارات والمشاريع نصيبها من خلال الضرائب ومن خلال توسيع الخدمات والنشاطات. وحتى الساعات القليلة التي سبقت اعلان وفاة الملك الراحل عصر يوم الجمعة 23 تموز يوليو كانت الاستعدادات جارية للشروع في تنفيذ الخطة التي رُصد لها في البداية مبلغ أولي قيمته 700 مليون دولار تقتطع من موارد تخصيص الاتصالات للاسراع في فتح ورش التنمية داخل القرى النائية التي تعاني من انحباس المطر وتقلص فرص العمل نتيجة تراجع الانتاج الزراعي. بينما كانت الحكومة من جهتها تعلن عن اسناد مهمة ادارة تخصيص "شركة اتصالات المغرب" الى مجموعة من المصارف المغربية والاجنبية ايذاناً بانطلاق الجزء الثاني من البرنامج الذي سيدرّ نحو خمسة بلايين دولار على المغرب مع ما يرافقه من نقل التكنولوجيا والتوسع في خدمات الاتصال لتغطي مناطق المملكة كافة استعداداً لاستحقاقات العولمة والتوسع في استخدام المعارف الاتصالية عن بعد. ويمثل كسب التحدي التكنولوجي احد الرهانات الاستراتيجية التي يتعين كسبها قبل الدخول في تجربة الشراكة الأوروبية المقررة نهاية السنة الجارية، بعدما صادقت البرلمانات الأوروبية كافة على اتفاقية الشراكة مع المغرب الموقعة في بروكسيل في شباط فبراير عام 1996، والتي تقضي بإنشاء منطقة تجارية حرة قبل حلول عام 2010 على ان يطرح ملف الانضمام الى الاتحاد الأوروبي في وقت لاحق من القرن المقبل بعد الايفاء ببعض الشروط. كان الملك الحسن الثاني يعتبر الدخول الى السوق الأوروبية المشتركة حلماً قابلاً للتحقيق على رغم الفجوة الاقتصادية والاجتماعية التي تفصل المغرب عن بقية الأعضاء الخمسة عشر. وخلال العقدين الماضيين كثّف المغرب من طلبات الانخراط عبر طرق ديبلوماسية واقتصادية متعددة وعبر مغازلات وامتيازات حصلت عليها شركات أوروبية عملاقة لدعم موقف المغرب الذي يعتبر نفسه أقرب جغرافياً الى اوروبا من دول عدة قدمت ترشيحها وليس لها من امتياز اضافي سوى كونها تنتمي قارياً الى أوروبا على رغم ضعفها الاقتصادي مثل حال بولندا والمجر. ولتجاوز المشكل الجغرافي انشأ الحسن الثاني مع الملك الاسباني خوان كارلوس قبل 15 سنة لجنة تقنية مغربية - اسبانية مشتركة ضمت علماء من دول عدة لبحث انشاء نفق قاري عند مضيق جبل طارق يربط أوروبا بافريقيا. وقدمت اللجنة قبل شهور دراستها الى العاهلين موصية بانشاء نفق تحت البحر على غرار نفق المانش بين فرنسا وبريطانيا متضمناً اقامة شبكة للسكة الحديد وطريق سيار لمرور الشاحنات والسيارات تحت البحر الأبيض المتوسط الذي لا يفصل البلدين سوى مسافة تسعة اميال. وقدرت اللجنة كلفة المشروع بنحو عشرة بلايين دولار اميركي تستغرق سبع سنوات من الاشغال التي ستنتهي عام 2010، وهو التاريخ الذي يصادف انشاء المنطقة التجارية الحرة. وعلى رغم حلم الانضمام الى أوروبا الذي يعود الى عام 1969، تاريخ أول اتفاق تجاري بين الطرفين، لم يكن المغرب يرغب في تمويل المشروع منفرداً لقلة الامكانات المالية وارتفاع الكلفة من جهة. ولكون الاطراف الأوروبية من جهتها تحتاج الى فترة علاقة شراكة مع المغرب تمتد بعض الوقت قبل الاقتناع بدخول المشروع الذي لا يعني المغرب وحده ولكن يهم منطقة شمال غرب افريقيا كافة. ويرتهن نضج الفكرة كذلك بوضع مغاربي مستقر ومتجانس يشكل ورقة ضغط اضافية على الأوروبيين، لأن بناء المغرب العربي القوي والمتماسك سيدفع الأوروبيين في نهاية المطاف الى تبني مشروع الربط القاري، تماماً كما تبنى الأوروبيون مشروع انبوب الغاز المغاربي الذي يربط بين منابعه في حاسي الرمل وحاسي مسعود في الجزائر بإسبانيا والبرتغال وفرنسا عبر المغرب وجبل طارق، اثناء فترة الانتعاش التي عاشتها العلاقات المغربية - الجزائرية في ظل حكم الشاذلي بن جديد نهاية الثمانينات كلفة المشروع بلغت ثلاثة بلايين دولار. لهذا الغرض كان الملك الراحل يعد المملكة المغربية وتحديات الألفية الثالثة من خلال استكمال بناء الذات وتوسيع وتيرة التنمية وفك العزلة عن العالم القروي ومعالجة قضايا التشغيل التي تمس الفئة الشابة داخل المجتمع حيث تبلغ البطالة معدلاً وطنياً يفوق 13 في المئة. وكان الملك الراحل اكد في افتتاح اعمال البرلمان الخريف الماضي ان المغرب ظل بمنأى عن العواصف المالية والاقتصادية العالمية "التي هبت على كثير من الدول والقارات التي لم يصمد امامها لا قوي ولا متوسط بل حتى العمالقة اصيبوا في أسس اقتصادهم بعطب كبير وعميق". وأكد ان المغرب يسير ويشق طريقه بثبات ويحقق نمواً مقبولاً على رغم امكاناته المحدودة التي وصفها بكونها لا تشمل "ثروات طبيعية من تلك التي تدر عليه الخيرات بل لديه مواطنون وجنود وأدمغة وإرادة". وكشف الملك الراحل في ذلك الخطاب امام ممثلي الأمة ان المغرب حقق نمواً متوسطاً بلغ نحو 3.2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي على امتداد 12 سنة الماضية. واستطاع تأمين نحو مليون ونصف المليون وظيفة جديدة على امتداد السنوات الثماني الاخيرة من 1990 الى 1998 بمعدل 128 الف وظيفة كل سنة. وقال: "ان حاجتنا في التشغيل هي 220 الف بمعنى ان هناك فارقاً قدره 40 الف منصب فقط سنوياً. وليس هناك بلد في العالم استطاع القضاء نهائياً على معضلة البطالة". وكانت تلك أول أرقام رسمية يتم الاعلان عنها في شأن فرص العمل في المغرب. كسب رهانات الاصلاح الاقتصادي لم يخجل المغرب ابداً من مشاكله التي يعتبرها جزءاً من تطور المجتمع وتوسع الحاجات وارتقاء طموحات الأسر. وعمل الحسن الثاني مبكراً على اعداد بلده لمواجهة الاستحقاقات المختلفة. وكان على المغرب في البداية ان يبني السدود ويطور الزراعة والانتاج الغذائي، وهي الفترة الأولى التي امتدت من عام 1967 الى عام 1978، والتي تحول البلد خلالها من مستورد الى مصدّر للمواد الغذائية محققاً اكتفاء ذاتياً في حاجاته الأمر الذي ساعده لاحقاً على ان يصبح شريكاً أوروبياً كاملاً. وجاءت فترة الاصلاح الاقتصادي الكلي عام 1983 بعد ازمة المديونية، واستطاع خلالها المغرب ان يعزز قدراته المالية والاقتصادية وينوع قاعدته الانتاجية ليتراجع عجز الموازنة من 14 في المئة الى دون ثلاثة في المئة من الناتج القومي وانخفضت نسبة المديونية من 100 في المئة الى 50 في المئة، وتضاعف الدخل الفردي ليبلغ 1300 دولار في حين تحسنت وضعية المالية العمومية وزادت مشاركة القطاع الخاص الى 77 في المئة من اجمالي تكوين رأس المال الثابت. واتسع حجم الاستثمارات الاجنبية ليتجاوز بليون دولار سنوياً. وزادت حصة البورصة المغربية لتبلغ 18 بليون دولار العام الماضي. وتحسن وضع عجز الحساب الجاري من 12 في المئة الى 1.1 في المئة وزاد احتياط العملات الصعبة بما يكفي لتغطية اكثر من نصف سنة من واردات السلع والخدمات. وانتقل النمو من 2 في المئة كما كان الحال في الثمانينات الى ما بين 11.8 و6.7 في المئة في عقد التسعينات على رغم بعض فترات الجفاف الموسمية التي ظلت تؤثر في الانتاج الزراعي. وفي المرحلة نفسها تعززت صورة المغرب الخارجية بعد احتضان انشاء المنظمة العالمية للتجارة في مراكش عام 1994 وبدأ المغرب يلعب ادواراً دولية في مجالات التجارة والمبادلات والبيئة والملكية الفكرية والصناعية. كذلك ارتبطت الفترة بانشاء المؤسسات وإقامة القوانين التجارية المختلفة التي عززت ضمانات المستثمرين وزادت صدقية المغرب الخارجية. وحصل المغرب على المرتبة الأولى "بي 1" في ترتيب مؤسسات "ستندارد أند بوورز" الاميركية التي تعني في لغة الخبراء تدني المخاطر السياسية والاجتماعية على المدى القصير والمتوسط. وقالت "ستندارد أند بوورز" ان المغرب حقق نتائج جيدة في معالجة خلل عجز الموازنة ووضعية الحسابات الاقتصادية الكلية ما مكنه من تعزيز فرصه في مجال الاستثمار الاجنبي، كما ان الاستقرار السياسي وبرامج التخصيص وضعف معدلات التضخم مكنت من تحقيق سياسة صرف قوية منذ تطبيق نظام تحويل الدرهم الى عملة قابلة للتداول الدولي في عام 1993 طبقاً للفصل الثامن من ميثاق صندوق النقد الدولي. وبالنسبة الى مصرف "ميريل لينش" فإن المغرب يتفوق على دول ناشئة عدة في آسيا وأميركا اللاتينية في مجال المخاطر، وانه يشكل افضل فرص الاستثمار في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا على رغم ان المديونية لا تزال تستنزف جزءاً هاماً من الموارد الجبائية ومصادر الايرادات الخارجية. وكانت مؤسسة "كوفاس" الفرنسية لضمان الصادرات اعتبرت ان المغرب يقدم مخاطر شبه منعدمة بالنسبة الى الاستثمار الاجنبي. وقالت ان مظاهر الديموقراطية وصعود فئة جديدة الى السلطة عززت صورة المغرب الخارجية التي قالت انها تحتاج الى معالجة في المجال الاجتماعي على رغم توافر تجهيزات تحتية جيدة في مجالات الموانئ والمطارات والطرق والاتصالات اضافة الى كفاءة اليد العاملة وديناميكة المصارف المحلية. غير ان كافة الاصلاحات التي قام بها المغرب في المجالين المالي والاقتصادي لم تمنع استمرار وجود صعوبات اجتماعية وحالة من الفرق المعيشي بين الأرياف والمدن. ويعتقد البنك الدولي ان 13 في المئة من مجموع السكان ما زالوا على عتبة الفقر، 80 في المئة منهم يعيشون في القرى والأرياف. ويعتبر البنك الدولي كذلك ان نسبة الأمية ما زالت مرتفعة لا سيما في اوساط القرويات. وقدر تلك النسبة بنحو 72 في المئة من مجموع النساء في الريف. كذلك على المغرب معالجة مشكلة بطالة الشباب التي تمثل نحو 20 في المئة من مجموع القوى النشيطة. وتحتاج هذه العملية الى توسيع النشاط الاقتصادي المغربي لا سيما ضمن نشاطات القطاع الخاص الذي يؤمن نحو 200 الف منصب سنوياً في بلد تدخل الى سوق العمل فيه قرابة 300 الف شخص كل عام، حسب احصاءات البنك الدولي. اما في مجال التعليم الذي يمتص نحو خمسة في المئة من الناتج الوطني الاجمالي، فإن نتائجه تبدو ضعيفة قياساً الى الاستحقاقات التي ينتظرها المغرب في الألفية الثالثة. وكان الملك الراحل انشأ لجنة بجانبه عهد اليها بمعاودة النظر في اساليب التعليم وربط مناهجه بسوق العمل والتكنولوجيا. وباستثناء هذه الملفات الثلاث، التي يمكن اضافة ثقل المديونية البالغة 19 بليون دولار اليها، فان المغرب في رأي المؤسسات الدولية كسب الرهانات كافة التي تصدى لها في العقدين الاخيرين بما في ذلك تقليص الاعتماد على الزراعة 17 في المئة وزيادة حصة الصناعة في الصادرات 33 في المئة. ويتوقع البنك الدولي ان يحقق المغرب ابتداء من 2001 نمواً متواصلاً ومرتفعاً يقدر بنحو ستة في المئة من الناتج الاجمالي، كون البلد يزخر بخيرات عدة اهمها الصيد البحري والسياحة والفوسفات والمعادن والمنتوجات الغذائية والصناعات التحويلية اضافة الى خدمات التكنولوجيا التي بات المغرب يحقق نمواً مضطرداً فيها. كما يعتبر النمو الديموغرافي عاملاً مساعداً على تحسين وضعية التعليم وربطه بسوق العمل. كما يتوقع ان تتراجع المديونية الخارجية بنحو 40 في المئة خلال السنوات المقبلة وان تتقلص من 52 الى 31 في المئة فقط في الناتج المحلي الاجمالي عام 2003. ويُنظر الى فئة الشباب التي تتشكل منها غالبية السكان، والى القرب الجغرافي من أوروبا والاستقرار السياسي ونظام المؤسسات، على كونها من المعايير المساعدة لتقدم المغرب وازدهاره على المدى المتوسط، واعتبره البنك الدولي تجربة ناجحة بكل المقاييس. وتستحق ان تكون مثالاً لبقية دول العالم النامي. فقد استطاع المغرب ان يضاعف ناتجه القومي أربعين مرة في حين لم يتضاعف عدد السكان سوى مرتين ونصف المرة من دون ان يتخلى عن خياراته الاساسية.