ودعت الأمة المغربية ومعها العرب وبقية العالم أمس الملك الراحل الحسن الثاني الى مثواه الأخير في موكب مهيب خيم عليه الحزن والأسى والأسف على غياب واحد من أكبر زعماء السلام في العصر الحديث. وعكس حضور رؤساء الدول والحكومات نحو 60 شخصية التوازن في العلاقات الدولية الذي بناه الملك الراحل على مدى أربعة عقود والذي سيواصل مسيرته الملك الجديد محمد السادس بن الحسن الذي كان في مقدم المودعين. وأظهرت مشاركة رؤساء الدول والحكومات طبيعة التوزيع الجغرافي لعلاقات المغرب السياسية والاقتصادية للتعبير عن امتداد المغرب في بعده العربي المغاربي - الاسلامي، والبعد الأوروبي - المتوسطي، والأميركي - الأطلسي، والافريقي - العالمثالثي. وحرص الملك الراحل الحسن الثاني على تطوير تلك العلاقات من دون أن تكون على حساب أي طرف من الأطراف، اذ ان اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الموقعة عام 1996 لم تمنع الرباط من الاستجابة لدعوة واشنطن قبل عام لاقامة نوع من المنطقة التجارية الحرة في أفق القرن المقبل تضم كذلك الجزائر وتونس. كما ان حرص المغرب على استعادة بناء هياكل اتحاد المغرب العربي يوازيه طموح مماثل في اقامة سوق عربية مشتركة قبل سنة 2010، وهو ما تم التمهيد له باقامة خطوات مناطق تجارية حرة مع كل من مصر وتونس وليبيا والأردن كان الملك الراحل يحرص شخصياً على بحث تفاصيلها. وحتى في العلاقات بين الفلسطينيين واسرائيل فإن معيار تقدم خطوات السلام في الشرق الأوسط كان يحدد نوع وحجم العلاقات الاقتصادية مع اسرائيل، فهي نشطت بشكل تدريجي غداة اتفاقات اوسلو والقمة الاقتصادية الأولى التي عقدت في الدار البيضاء في خريف عام 1994 تلاها تحرك بعض الشركات من البلدين لاقامة بعض أنواع التبادل المحدود، لكنها توقفت نهائياً بعد الانتكاسة التي تسبب بها رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو بعد ذلك. وفي مجال التجارة الخارجية حرص المغرب على أن تكون المبادلات مدخلاً لتعميق الروابط أكثر من كونها مجرد مقايضة سلعية. وحتى في مجال توزيع المديونية الخارجية فإن المغرب من الدول القليلة التي ظلت تفضل الديون الثنائية على مثيلتها التجارية وهو ما يفسر ان نصف تلك الديون البالغة نحو 19 بليون دور تتقسم في معظمها بين الاتحاد الأوروبي 50 في المئة والبنك الدولي 30 في المئة والولايات المتحدة 6 في المئة بينما لا تمثل ديون نادي لندن سوى 17 في المئة. وينطبق الشيء نفسه على مجال الاستثمارات الخارجية فهي بترتيبها أوروبية ثم عربية وأميركية. ويبدو الملك الجديد سيدي محمد السادس الذي حصل على دكتوراه في العلاقات الاقتصادية بين المغرب والاتحاد الأوروبي مطلع التسعينات، حريصاً على استكمال هذا النوع من التوازن التجاري والاقتصادي. فمن جهة هناك حاجة الى تنمية المبادلات مع الاتحاد الأوروبي التي تشكل نسبة 60 في المئة من مبادلات المغرب الخارجية وهو أهم أسواق المغرب في مجالات الصادرات الزراعية والصيد البحري والفوسفات نحو خمسة بلايين دولار وعائدات السياحة بليوني دولار وتحويلات المهاجرين بليوني دولار ومن جهة يحتاج المغرب الى توسيع شراكته الأميركية التي تقدر حالياً بنحو عشرة في المئة من المبادلات وهي تقريباً النسبة نفسها المسجلة بالنسبة لتجارة المغرب العربية التي يطغى عليها جانب النفط والطاقة والمواد الأولية. في حين ان الاتحاد المغاربي المعطل لأسباب سياسية لا يمثل سوى ثلاثة في المئة من مجموع المبادلات. ومكنت سياسة التوازن الاقتصادي - التجاري الدولي من تجنيب المغرب هزات عنيفة كما حدث لبعض دول جنوب شرقي آسيا، اذ ان المملكة بحكم موقعها الجغرافي على مداخل ثلاث قارات سعت دوماً الى اضفاء نوع من الاستقلالية في القرارات الحاسمة، ومن مثال ذلك ان المغرب شرع في برنامج التخصيص في وقت لم يكن الموضوع يحظى بتأييد عربي وافريقي، واندمج في مسلسل الجدولة في منتصف الثمانينات الى جانب دول أميركا اللاتينية اقتناعاً منه ان من الأفضل ان يطلب منه ذلك عوض ان يتقدم منفرداً. كما دشن فكرة اسناد الامتياز في قطاعات الأشغال قبل دول أوروبية عدة. والواقع ان سياسة الاعتدال التي نهجها المغرب في العقود الأربعة الماضية عوضته عن فقدان النفط وقلة الموارد، وحتى في علاقاته الأوروبية فقد حرص على إبعاد ملف الصيد البحري كي لا يؤدي ذلك الى تعميق الخلاف بين دول الاتحاد، والشيء نفسه حصل في العلاقات مع اسبانيا التي تمثل ثاني زبون للمغرب فهو أبعد موضوع سبتة ومليلية والمهاجرين للحفاظ على مصالحه التفاوضية. بل وحتى في مجال التخصيص ومشاريع اسناد خدمات الامتياز مثل الاتصالات والماء والكهرباء والبنى التحتية شكل التوازن عنصراً أساسياً استفاد منه المغرب لمصلحة اقتصاده وعزز به في المقابل شراكاته التقليدية خصوصاً بين فرنساواسبانيا والولايات المتحدة. وعوض ان يكون المغرب مجرد سوق استهلاكية لتلك الشركات الدولية تحول الى قاعدة انطلاقة جديدة لمشاريعها في مجموع منطقة شمال غرب افريقيا والمتوسط. ويبدو المغرب حالياً متفائلاً بمستقبله الاقتصادي على رغم الصعوبات الاجتماعية وارتفاع معدلات البطالة لدى الشباب الخريجين التي تقدر بنحو 22 في المئة.