انكفأت المسيرة السلمية الارلندية الى حظيرة تنظيم "الاورانج" الذي يجمع البروتستانت على اختلاف احزابهم، بعد ان اخرجتها الحكومتان البريطانية والارلندية الى رحاب السلم الذي بدا حتى مساء الرابع من تموز يوليو الجاري ممكن التحقيق في ارلندا الشمالية ألستر بشكل نهائي. ولكن رفض الهيئة التنفيذية المكونة من مئة عضو في حزب ألستر الاتحادي بزعامة ديفيد ترمبل بعد عشرين دقيقة فقط من بدء اجتماعهم، جمّد العملية السلمية ووضع قانون الضمانات المقدمة للاتحاديين، الذي اقره مجلس العموم البرلمان البريطاني، على الرف قبل انجاز المراحل النهائية لاصداره. وجاءت الخطوة على رغم جهود رئيس الوزراء توني بلير التي جعلت المشرّع البريطاني يجري ثلاثة تعديلات على مشروع القانون بناء على اصرار الاتحاديين، ومع ذلك تجاوزوا تلك التنازلات ليعودوا الى نقطة تصلبهم الاولى: "لا حكومة مع وجود البندقية"، واعادوا المسألة الارلندية الى عقدة البيضة والدجاجة، ايهما اولاً: نزع سلاح الجيش الجمهوري قبل اشراكه في الحكومة المحلية، ام مشاركة الجمهوريين في السلطة والحكومة قبل نزع اسلحتهم. في هذا المفصل يحشر حزب الشين فين، الجناح السياسي للجيش الجمهوري الارلندي في الزاوية التي تعاني منها القيادات السياسية للاحزاب ذوات الاذرع المسلحة التي تقيَّد ايديها بمطالب المتطرفين في الفصائل المسلحة، ويرفضون تسليم السلاح اذا لم تتوافر ضمانات عملية تحول دون اضطهادهم بعد القاء السلاح. وفي هذه العقدة يصح التساؤل: لماذا مضى الاتحاديون في العملية السلمية منذ اتفاق "الجمعة العظيمة" في العاشر من نيسان ابريل السنة الماضية، ثم شاركوا في الاستفتاء على ذلك، ثم خاضوا اقتراع أيار مايو الماضي لانتخاب المجلس التنفيذي الذي تشكل منه الحكومة المحلية برئاسة الوزير الاول ديفيد ترمبل؟ يبدو الجواب واضحاً اكثر من اي وقت مضى، ان المماطلة ترمي الى الضغط على الحكومة البريطانية للرضوخ لمطالب الاتحاديين بنزع سلاح الجمهوريين قبل الجلوس معهم في اي هيئة حكومية. ويذكر ان الاتحاديين غير مستعدين لاقتسام السلطة مع احد، ولا يغريهم اصدار تشريع نقل صلاحيات الحكم المحلي من برلمان لندن الى مجلس بلفاست المحلي في اليوم التالي لقبول قانون الضمانات، لأنهم يريدون اصلاً استمرار الأمر الواقع حيث يشاركون في مجلس العموم الذي حُرم الجمهوريون منه. كيف يستطيع الاتحاديون والموالون للحكومة المركزية في لندن رفض مقترحاتها بتقديم حكومة محلية لهم على طبق من ذهب، وهم اصلاً مجموعة في مقاطعة ألستر التي لا يتجاوز عدد سكانها المليون ونصف نسمة؟ يستند تصلب الاتحاديين الى انهم ينتمون الى تنظيم "الاورانج" وزعيمهم ديفيد ترمبل عضو فيه، وهو تنظيم لا ينحصر في ارلندا الشمالية. فهو موجود في الجمهورية الارلندية وكندا واميركا واستراليا وغانا وتوغو، وهو قوي ايضاً في سكوتلندا. وله فروع في انكلترا نفسها، فهناك حوالي ستة آلاف عضو يشاركون في مسيرة 12 تموز كل سنة تخليداً لذكرى انتصار وليم الثالث ملك انكلترا على جيمس الثاني دوق مقاطعة يورك الذي تزعم الكاثوليك سنة 1690. وتعتبر ليفربول مركز الاورانج الحالي في انكلترا وبدأ نشاطه سنة 1807 بعد انتقاله من قاعدته الاساسية في مانشستر في منتصف العهد الفكتوري اثر تزايد هجرة الارلنديين الكاثوليك اليها واعادة الكنيسة الكاثوليكية فيها الى الحياة. ومع كل ما في تلك الخلفية المتصلبة من تأثير في افشال خطة رئيس الوزراء البريطاني لتحقيق السلم في ارلندا الشمالية فان بلير لم يفقد الامل في استعادة اندفاعتها في الخريف المقبل بعد انجاز الخطوات الآتية: 1- سينشر الجنرال جون دي كاستليان برنامج تسليم الاسلحة. 2- سيؤدي الاخلال بالبرنامج آلياً الى حل مجلس المدراء الوزارة المحلية وبقية المؤسسات، وينطبق الامر نفسه على كل الاحزاب التي لا تفي بتعهداتها في نطاق الحكم المحلي. 3- سينشر الجنرال دي كاستليان الكندي الجنسية رئيس هيئة مراقبي نزع التسلح الدولية، اسم المسؤول عن خرق اتفاق الحكم الذاتي. واذا لم يقم الجيش الجمهوري الارلندي بنزع سلاحه، سيعلن الجنرال كاستليان ذلك على الملأ فوراً، وستوضح الحكومة البريطانية ان اللوم يقع على عاتق حزب الشين فين. واضح ان الشروط في البندين الثاني والثالث هي التعديلات التي طلبها الاتحاديون، ومع ذلك رفضوا مشروع قانون الضمانات تلك، ما أدى الى تأجيل العملية السلمية الى الخريق المقبل، إذ ستجرى اثناء ذلك اعادة النظر في الاجراءات كلها، خصوصاً في ضوء تقرير المفوض كريس باتن عن مهمات الشرطة ورجال الامن بعد تطبيق الحكم الذاتي. ويتخوف الجمهوريون من ان تصبح قوات الشرطة ذراع الاتحاديين المسلح، بذريعة انهم لا يودون اقتسام السلطة مع احد. ووسط مخاوف اندلاع العنف، يؤكد رئيس الوزراء البريطاني ان العملية السلمية ما تزال على قيد الحياة وان المسألة هي قضية وقت يقتنع فيه المتطرفون لدى الجانبين بمخاطر اضاعة الفرصة السلمية الاولى من نوعها في تاريخ المسألة الارلندية. ينص اتفاق "الجمعة العظيمة" الموقع في العاشر من نيسان السنة الماضية على اقامة مجلس تمثيلي هو دون المجلس النيابي في سلطة التشريع، مشكل من 108 اعضاء، ويتمتع بسلطة تنحصر في ادارة المؤسسات الرسمية في مجالات مثل الزراعة والتعليم. وابرز مسؤولياته تعيين مجلس وزاري ينظم التعاون بين جنوب الجزيرة الارلندية وشمالها في عدد من القضايا المحددة، مؤلف من 12 عضواً برئاسة الوزير الأول وهو بمثابة رئيس الوزراء، وفاز به رئيس الحزب الأكبر ديفيد ترمبل وهو حزب اتحاديي الستر، واصبح جون هيوم رئيس الحزب الديموقراطي الاشتراكي نائبه. وينص الاتفاق على ان يلتقي وزراء المجلس التمثيلي مع وزراء جمهورية ارلندا، مع ست هيئات تقوم بتنفيذ قرارات الوزراء والمجلس التنفيذي واذا لم ينجح في ذلك يحلّّ. ويختار المجلس التمثيلي من اعضائه مجموعة تشارك في المجلس البريطاني - الارلندي، المختار من الحكومتين البريطانية والارلندية وهيئات من ويلز وسكوتلتدا. ويجب ان تقوم الحكومة الارلندية بموجب الاتفاق بالغاء المادتين الثانية والثالثة في دستور الجمهورية الارلندية تنصان على تبعية ارلندا الشمالية للجمهورية، وستلغي بريطانيا قانون ارلندا الشمالية الصادر سنة 1920. وستخفض الحكومة البريطانية عدد قوات الشرطة والقوات المسلحة في ارلندا الشمالية وتزيل كل المعدات والمواقع الأمنية. ويجب على كل الاطراف الموقعة للاتفاق تسليم الاسلحة والتعاون مع مفوض دولي مستقل ينظم عملية نزع السلاح الجنرال دي كاستليان. وستشكل مفوضية مستقلة لشرطة ارلندا الشمالية في المستقبل. عبرت المسألة الارلندية مفاصل حاسمة في القرن الجاري من ابرزها حركة عيد الفصح سنة 1916 في دبلن. 1919 حرب للاستقلال عن بريطانيا. وفي 1920 صدر قانون تقسيم ارلندا. وفي 1921 وقع الاتفاق البريطاني - الارلندي وشكلت بموجبه الجمهورية الارلندية وعاصمتها دبلن. وفي 1921 افتتح الملك جورج الخامس برلمان ارلندا الشمالية. وفي 1922 نشب عنف في ارلندا الشمالية قتل فيه 232 شخصاً. واستمر العنف بين المجموعات المؤيدة للاتفاق والمجموعات المعارضة. واعلن ان حزب "الآي آر ايه" غير شرعي في ارلندا الشمالية. وأعلن في 1936 عن شرعية حزب الشين فين في جنوب ارلندا. وفي 1949 بدأ فصل جديد في تاريخ بريطانيا وارلندا بانسحاب الأخيرة من الكومنولث واعلانها جمهورية. وبدأت في 1968 المتاعب في ارلندا الشمالية بقمع الشرطة اول مسيرة من اجل الحقوق المدنية. وفي 1969 انزل رئيس الوزراء البريطاني هارولد ولسون الجيش الى شوارع ارلندا الشمالية. وتم الغاء برلمان ستورمونت في 1972. وفي 1973 انشيء مجلس تنفيدي مشترك. واضرب عمال ألستر وألغوا المجلس المشترك في 1974. وفي 1985 منحت اتفاقية بريطانية - ارلندية الجمهورية سلطة المشاركة في شؤون ارلندا الشمالية. 1994 اول لقاء رسمي بين الحكومة البريطانية وحزب الشين فين. 1995 زار الرئيس الاميركي بيل كلينتون شمال ارلندا. 1997 زار رئيس الوزراء توني بلير ارلندا الشمالية وبدأت المباحثات الحكومية مع الشين فين. واعلنت "الآي آر ايه" وقف اطلاق النار من جديد. وفي 1998 يوم الجمعة العظيمة 10/4 تم التوصل الى الاتفاق الذي قبلته الحكومتان البريطانية والارلندية وكل الاطراف المشاركة في العملية السلمية باستثناء الحزب الديموقراطي الاتحادي. * كاتب سوري مقيم في بريطانيا.