"أصدرت الشهرية الأدبية الفرنسية "الماغازين ليتيرير" مُلحقاً عن الكُتّاب المغاربة في عددها الأخير لشهر نيسان ابريل، وقد استجبْتُ للطّلب وكتبتُ هذه الكلمة، وفق الموضوع المقترح". في طفولتي الصامتة، بفاس، وأنا ابن عشْر سنوات، تعرفتُ للمرة الأولى على كلام موزّع بطريقة غير اعتيادية. أبياتٌ من شطرين، متقابلين، وفي نهاية كل منهما حرفٌ متشابه، بَاءٌ، ربّما. وعندما أمرني المعلم بالقراءة أحسستُ بمتعة أن أقرأَ ما لا أعرفُه. ذبدباتٌ في الحُنجرة. صمتٌ. كان ذلك في سنَتي الأولى من التحاقي بالمدرسة الابتدائية، العصْريّة، بعد أن قضيتُ سنواتي السابقة في المَسِيد، أحفظ وأعبدُ حفظَ القرآن. كنت لا أفهمُ مما أحفظُه شيئاً كثيراً، ولكن رنيناً ما كان يسكن الدخيلةَ. وطيلة سنواتي العشر ظلّ القرآن مادةَ القراءة. نهاراً وليْلاً. لم يكن بيتُ العائلة يتوفر على مكتبة. كتابانَ هما الموجودان، وهُما موضوعان بعناية فوق صندوق الساعة الحائطية. القرآن ودَلِيلُ الخَيْرَات. كان عليّ أن أنتظرَ مدةً اضافية، لأتعرفَ على قصائد شعرية في دراستي الإعدادية. وفي تلك الفترة تعرفتُ على قصائد قديمة وحديثة، في الكتَاب المدرسي. لا أحدَ في العائلة دلّني على الشعر. وشيئاً فشيئاً أدخلتني المكتباتُ، المحاذيةُ لأبواب مسجد القرويين، الى فضاءِ القصيدة. المتنبي أو جبران خليل جبران أو أبو القاسم الشابي. ثم تواصل الاستكشافُ، صحبةَ رفاق الدراسة، والوسط الذي أخذ في النشوء حولي، وهو يتشكّل من مراهقين مُحِبِّين للشعر. هذا الاستكشاف جعل التعرف على الشعر العربي الرومانسي وبدايات الشعر المعاصر يتلازمُ والانتقال الى عهود الشعر العربي، مشرقاً وأندلُساً، على السواء. هذه الصورةُ ربما كانت تلخّص معْنَى الشعر في المغرب الذي تلقيتُ فيه تربيتي الثقافية الأولى. لم يكن الشعرُ المكتوبُ بالعربية الفصحى، المطبوعُ في كتب، يصل الى بيوت عامّة الناس، في مدينةٍ مثل فاس، مدينتي. كانت جدتي، التي رافقت صباي وشبابي، تردّد بين الحين والآخر رباعيات شاعر مكناس القديم سيدي عبْدَ الرّحْمَن المجْذُوب. تردّدُها بلذّةٍ، وبآثار نفسية بادية على الوجه، لأن لغته هي لغتَها. أما أمرؤ القيس أو المتنبي أو المعري أو أبو نواس، كبار شعراء العربية، فلم تكن تدْري عنهم هذه السيدةُ الطيبةُ شيْئاً. في أوساط العائلة لم يكن الشعر متداوَلاً. حِكَمٌ وأمْثُولاتٌ باللغة العربية المغربيّة هي أقْصَى ما كان ينْتقِلُ بين الألسن. طريقي الى الشعر العربي، أو لاحقاً الى الشعر الفرنسي، وغير الفرنسي، كانت ملتويةً. منعرجاتُ الصُّدْفة وظلالُ الصداقة. لم يكن يخطر لي على بال آنذاك أن هناك شعراً مغربيّاً. الكتبُ المدرسية المقرّرة في المدارس آنذاك كانت لبنانية، وحتى أقسام الإعدادي في ثانوية ابن كيران المعربة، التي اخترت متابعة دراستي فيها بحماس، كان أغلبُ أساتذتها من المصريين. والشاعرُ المغربي أو الشعر المغربي لم نكُنْ نسمعُ عنهُمَا إلا لِماماً، من بين كلمات وحيدةٍ لبعض الأساتذة المغاربة الذين كانوا يتابعون الصحف المغربيةَ القليلة أو كانت لهم صداقات مَع شعراء فاس النادرين. من هذا الصّمْتِ العصيِّ على التفسير شرعتُ في تعلم معْنَى اليُتْم الشعريِّ في المغرب. وبعدها اتضحَ لي أن لغةَ اليُتْم معممةٌ بين الأصدقاء. قليلون هم الذين التقيتُ بهم وكان السؤالُ عن الشعر المغربي حاضراً في اهتماماتهم. تلك السنواتُ، سنوات البحث عن الشعر المغربي، لم تترك على الجسد سوى آثارِ آلام لا تتوقفُ عن اخْتطافي الى سَراديب، لها الظلمةُ كما لها العراءُ والبَرْد. لم أستشر أحداً يوم تحركتْ على لساني كلماتٌ مبهمة. وفي غرفتي، الموجودة بالطابق الأخير من البيت، كنتُ أخذ الورقة وأكتب. ذلك النداء، النداء البعيد، للسيدة التي فارقتني منذ ما قبل الطفولة، وحْدَه الذي كان يصاحبني. طيوبُ فاس كانت تهبُّ عليَّ. بياضُ السطوح الأفقية، جبلُ زلاغ، أصواتُ المؤذنين الممتزجة بدم الغروب وعبارات نيتشه، أُصَصُ الغنباز التي تعْتني بها جدتي مرتين في اليوم، الأضواء المتسربة مع عتماتها الى أقصى الدروب، تركيباتُ ألوان الزليج من بيت الى بيت، رنينُ الآلة الأندلسيّة أو المَلْحُون، كلها كانت تحمل يدي إليّ حيث لا أدري. ولا أعثرُ في النهاية إلاّ علَى كلمات مصفُوفة في شكْلٍ سطرٍ غريب، وعندما أقرأها يزدادُ إحْسَاسي بالوحدة. بيد مضطربة كتبتُ قصائدي الأولى، وباليد نفسها ما زلتُ أكتبُ حتى الآن. أسميها يداً مضطربة لأنها لم تكن متأكدةً مما تفْعَلُ ولا بضرورة الإعْلاَن عما تفعل. قصائدي الأولى اطّلَع عليْها صديقي الشاعر محمد الخمار الكنوني، الوافد من القصر الكبير الى فاس لمتابعة الدراسة في كلية الآداب، الحديثة العهد. إنه الشاعر الذي تعلمتُ منه كيْفَ أن اليُتم مشتركٌ بين الشعراء المغاربة الحديثين. لا أحدَ يسأل عن الشاعر ولا أحدَ يُنصت اليه. ذلك هو الجُرْحُ المضاعف. أن نُقبل على الشعر في مجتمع يُنْكِرُ شعراءه. فالنخبةُ المتعلمةُ كانتْ تعْتَبرُ الشعرَ المشرقيَّ هو شعرها. ولم تكن تعتقدُ أن المغاربةَ يمكن أن يكتُبوا شعراً. فيما المشرق لم يكن ليعْبأ بصوتِ الشّاعر المغربي. بُعْد المسافة لا يمثل حُجّةً كافية. وللجرح، كما فهمتُ لاحقاً، تاريخٌ لا قِبَل لي بإلغائه. لكن هذه السنوات الأولى من الإقبال على القصيدة، في فاس التي لم تعد موسيقاها الصافية توحي بالصمت ولا بالسكينة إلا لقَبِيلَة الصامتين، كانت أيضاً سنوات طرح السؤال عن الشعر والشاعر في المغرب. ما كنتُ أقرأه لبدر شاكر السياب وأدونيس، لغوته ونيتشه، لبودلير ورامبو، لطرفة وامرىء القيس والمتنبي وأبي تمام وأبي نواس، يدفعُني على الدوام الى السؤال عن الشعر المغربي، وعن ما معنى الشاعر في المغرب. لا كتابَ ولا معلّمَ. سؤالُ الجُرح لا يتوقف عن أن يَثْبُتَ في مكانه. سؤال لما يتعدّى شكلَ القصيدة. وهذه السنوات الأولى لم تكن منفصلةً عن التحولات اللغوية والثقافية التي أصبح المغرب المستقل يعيشها، يوماً بعد يوم. سؤال الشعر التقى بسؤال اللغة. إن العربية التي كنتُ أعتقد أنها لغتي، كمغربي، كانت تنسحب، شيئاً فشيئاً، من حياتي، كلما غادرتُ البيت، وكلما تقدمتُ في السن، وكلما انتقلتُ من المدينة القديمة الى المدينة الحديثة، وكلما وقفتُ أمام موظف في الإدارة. الفرنسية هي اللغةُ التي أصبحتْ، مع مرور الزمن لغةَ الحياة الحديثة والثقافةُ علامتُها البارزة. هل ثمة من ضوء يفتتح الطريقَ لفهم هذا الحاضر المغربي الصعب، اللامفهوم، بالنسبة للذين لم يتعودوا على تاريخ ثقافي غير مندمج في النماذج الثقافية المتداولة، في أوروبا أو في الشرق العربي؟ ربما أهمس في القصيدة أحياناً. وهي تقودني الى مجهولها. وتظل كلماتي الأولى هناك. من حيث عليَّ أن أُدرك أن الكتابة وحدها لا تكفي. عليَّ وعلى غيري من الكُتَّاب المغاربة، بالعربية، أن يحْفِرُوا الليل. صامتين ووَحِيدين. أن نبحثَ عن مطبعة أو عن مجلّة أو قَارِىء. وبالموازاة مع ذلك عليَّ أن أبحثَ عن قصيدة لا تتشبّه بغَيْرها. تلك اليدُ المضطربةُ، يَدِي. وهي التي لا تتوقف عن إمدادي بالرعشة، في عالم لا يكترث بالإنسانيِّ فينَا، أصْفَى ما نُدافع به عَنِ الحقِّ في الإقامة على الأرض. القصيدة التي لا نقْدِرُ على وصْفها، قصيدتي وقصيدتك، كيف لي أن أراها مُهدَّدةً على الدوام؟ لغتي تُحتضَر، على أرضي، وبأمر من أهلي. أقصدُ هذه العربيةَ التي تُنْعَتُ بالمقدسة فيما هي مثل غيرها من اللغات، لها من المقدّس مثلما لها من البشري. وهي لي ولك، مهْما كنتَ أيها الأنتَ، الآخرُ، ما دامتِ اللغاتُ ملْكيّةً بشريّة. وما ذنْبي في أن أعشقَ لُغتي، عربيّتي، التي أعطاها أكبرُ شعرائها، عبر التاريخ، جمالاً به أدافع عنها؟ على أن هناك ما لا يخدع أيضاً. فالكتابة بالعربية هي وحدها التي تسمح لي بتجربة الإقامة على الأرض. ليست المسألةُ أن أختارَ أوْ لا أختار، ولكنها مسألة أن أكون أوْ لاَ أكون. صرخةُ همْلِتْ أو هُْلارْلين صرختي أنا أيضاً. لقد سطّر كل من جيرَارْ دُو نيرْفَال وأرتُور رامْبُو حدودَ الأنا وهي تمتدّ في الآخر. ولا يمكنني بعدها أن أتراجعَ عن هذه الصرخة التي نتعلم باستمرار كيف نُحافظ على نشيدِ اللغة، حُرّاً، في زمن يُرغم الإنساني فينَا، الجميلَ، والحرَّ، على إخلاء المكان لصالح ما يدمّر، بإسم ما يشاؤون. من النّفَس تأتي القصيدة وإلى النَّفَس تذهب. ولا توجد لغةٌ متمنّعة على نفَس كاتبها. إن كانت لُغتي، في أرضي، تُحتضَر، فذلك يعني أنّها وحْدَها الوديعةُ التي تسألني عما أفعلُ بها. ولا أكتب إلا بحْثاً عن قصيدة تستحقُّها جنازةُ العربية. وها هو العراءُ والبردُ. ذلك اليتمُ القاسيُّ، الذي عاشهُ الشعراء المغاربة الحديثون، بالعربية، هو نفسه اليتمُ الذي يتجدّد، مع نهايةِ قرن ونهايةِ أفكار. وأنا لا أعلم شيْئاً عن الطرف الخفيِّ للنشيد. ذلك الحماسُ الذي كان في السبعينيات يترك أقدامَنا تخْتار طُرقَها، من الغرب الى الشرق، ومن الشرق الى الغرب، لم يعُدّ له من القوّة كي يحْملنا الى ما هُو أبْعدَ منّا. وعمَايَ أعزُّ ما يضيءُ، في صمتٍ أعمقَ من البحار. أن أكون مغربيّاً، كاتباً بالعربية، لا يفصلُني في شيء عن غيري من الشعراء. ان الشعْرَ وحيدٌ، لأنه لا يخضعُ لمنطق التخلّي عن جمرة اللغات. ذلك ما تُنْبئُنَا به وضعيةُ الشعر في عالمنا الراهن. لكنّ هذا المشتركَ بين الشعر والشعراء لا يكفي لاسْتنْطَاقِ عمَاي الشخصي. في أرضي المغربية، التي لا تُبعِدُ الشعرَ عن مجاله الحيوي فقط، بل تجعَلُ من الشاعر بالعربية غريباً، أبديّاً غريبٌ لا علامةَ على طريقِ الضيافة ولا حقَّ في الكلام، لمجرَّد أنني أعشقُ عربيّتِي، وأنا بها أكتبُ للجنَازة نشيدَهَا.