قفزت الصغيرة أريا من فوق سجادة صلاة جدها التي مدها على الرصيف ليصلي صلاة الظهيرة، مما دعا ان يرميها بفردة حذاء كانت بقربه، ثم تابع الصلاة رافعاً يديه الى السماء مستغفراً ربه. بعد ان انتهى مسح نظارته بخرقة شاحبة اخرجها من جيب شرواله، وضعها على عينيه، حدق في الساعة. لم يبق الكثير، كل ما بقي نصف ساعة وتغلق دائرة الهجرة والجوازات. صار له يومان ينام هنا كغيره للحصول على تذكرة سفر مجانية للذهاب الى بيت الله والحج فيه. على الرصيف المحيط هناك الكثير من العجائز والمعاقين والمرضى والخرسان، حتى الأثرياء استأجروا رجالاً لينتظروا بدلاً عنهم. فالجميع هنا يصطف في رتل طويل. منهم من يحرك الجريدة وهو واقف يسند على الحائط ماطاً رقبته الى الاعلى بنوع من الانتعاش الزائف، وآخرون جلسوا في حلقة يلعبون بالورق، واخريان تتهامسان في امور مجهولة. حتى الشيخ عبدالله هنا قريب منه على الرصيف وقد اسند كتفه على سترته المكومة، يعد حبات مسبحته الطويلة. وبين حين وآخر يمشط لحيته الشائبة بمشط اسود صغير، الله يرحم أيام زمان ويقبل توبته، فهو كان يسكر في الليل ويؤذن في الصباح الى ان ابلغ جاره مديرية الاوقاف بذلك، فتم عزله من الجامع. الى جانبه من الطرف الآخر سألته عجوز عمياء: - يا اخي كم شخصاً بقي امامي. - لم يبق سوى اثنين. التفتت الرؤوس والآذان الى آخر الرتل الطويل حيث سمعت اصوات بلبلة، وأيد ترتفع. هرع صاحب العصا اليهم صارخاً وقد احمرت اذناه وانتفخت اوداجه قائلا: التزموا الدور والا طردتكم جميعاً من هنا. كانت عصاه الخشبية تهوي على السيقان من تحت العباءات والبنطلونات وهو يصرخ بهم في هذا الوقت القائظ من الظهيرة حيث تفوح رائحة العرق الحامضة من المكان والاسفلت يزداد التهاباً والشفاه تزداد جفافاً وبياضاً، يحفر البؤس خنادق في الوجوه المسمرة مع تزايد اختناق الجو والضوضاء التي تسببها السيارات والشاحنات المارة المزركشة بالعبارات "عين الحسود فيها عود، غزالة، اميرة.." الى آخر العبارات والصور التي نقشت بألوان زاهية على الصهاريج وسيارات التاكسي الصفراء. عندما قدم اول مرة الى المدينة ليقضي آخر ايامه مع أحفاده، كان يصافح كل شرطي يمر به، لا بد ان يقف ويصافحه بحرارة. ابتسم لنفسه وقد شدته من افكاره سيارة فاخرة سوداء ذات نوافذ قاتمة، توقفت قريباً في ظل شجرة على الرصيف المقابل. ساد الصمت على الرتل والتهبت السماء بنظرات الاستفسار عن صاحب السيارة الذي يرتدي نظارات سوداء. اشار السائق لمنظم الرتل، هرع ذاك اليه، ومن نافذة السيارة دس السائق يده في جيب منظم الرتل، هز الآخر رأسه مظهراً ابتسامته من تحت شاربيه المفتولين للأعلى كأذني فأر نحيل. عاد المنظم الى مكانه. سار من اول الرتل الى آخره. مشى مرات عدة ورؤوس تلتفت معه، يتمعن في عيون الزوار واشكالهم الواحد تلو الآخر. وقف بالقرب من الباب، بدا الرتل طويلاً جداً حتى آخر الشارع. اقترب من حفيدته. اعطاها قطعة سكر ترددت في اخذها. ناوله العجوز طعاماً بدوره، فرفض غامزاً اياه بطرف عينه. حسبه يريد نقوداً، لكنه اعاد الكرة واقترب منه هامساً. ابتعد مرة اخرى الى تلك السيارة التي ما زالت واقفة تحت ظل الشجرة، عاد سريعاً فرحاً يقطع الشارع الى الرتل وعصاه تلوح مرتطمة بساقيه السمينتين يرافقه الرجل ذو النظارة السوداء، لملم العجوز اشياءه وعقد صرته التي تحتوي بضع حبات من البندورة والخيار مع ارغفة خبز ودواء لعينيه بالاضافة للنقود التي حصل عليها الآن. امسك بيد حفيدته الصغيرة، وسحبها مبتعداً عن الانظار بسرعة، منحرفاً الى شارع آخر. بيروت - بيرا إلهام يوسف