في زيارتي الأخيرة الى السفارة السودانية في 24 حزيران يونيو الماضي، التقيت القائم بالاعمال عبدالمحمود الكرنكي وضيفه المهم الدكتور حسن عابدين الوكيل الاول لوزارة الخارجية السودانية. كانت الزيارة فرصة للتأمل مرة اخرى في موقع السفارة الممتاز والمنظر الجميل لقصر سانت جيمس من النافذة في غرفة السفير. وعندما كانت بريطانيا تتولى ادارة السودان قبل الاستقلال في 1955، كان المبنى ذاته، الكائن في 3 كليفلاند رو - سانت جيمس، مقراً ل"مندوب السودان" والموظفين الذين يعملون معه في القسم السياسي الخاص بالسودان. وهو على مقربة من الوايتهول ووستمنستر، ويمكن الوصول منه الى قصر بكنغهام سيراً على الاقدام. من المؤكد ان الغرض من زيارة الدكتور عابدين الى لندن كان سيحظى بتأييد كل "مندوبي السودان"، إذ كان يأمل بتحقيق إعادة التمثيل الديبلوماسي بشكل كامل في الخرطومولندن على السواء. كان كل كبار الديبلوماسيين السودانيين الذين التقيتهم حتى الآن، ومن ضمنهم آخر سفير سوداني السيد عمر بيريدو، يتقنون اللغة الانكليزية ويمتازون بالدماثة. تلقى الدكتور عابدين تعليمه في الخرطوموالولاياتالمتحدة. وأجرى خلال زيارته الى لندن، التي لقيت أدنى تغطية اعلامية، محادثات مع نظيره السير جون كير، وكذلك مع جيفري هون وزير الدولة الجديد لشؤون الشرق الاوسط في وزارة الخارجية البريطانية. لم تأت حصيلة اللقاء مع الوزير مطابقة للتوقعات. وكان جرى الإعداد لعقد مؤتمر صحافي مشترك، الاّ ان مشاكل جديدة برزت. لكن بعد تبادل الاتصالات بين السفارة ووزارة الخارجية، صدر بيان مشترك في 25 الشهر الماضي. وجاء في البيان: "يسرنا ان نعلن اننا اتفقنا على إعادة الموظفين البريطانيين والسودانيين الى الخرطومولندن، كي ينجزوا العمل الضروري لتحقيق تطبيع كامل للعلاقات، بما في ذلك، في الوقت المناسب، ترتيب اجتماع بين وزيري الخارجية في لندن او الخرطوم او في مكان اخر، وإعادة التمثيل الديبلوماسي في كلا العاصمتين. ويفتح استئناف علاقات طبيعية صفحة جديدة لتفاهم افضل على صعيد قضايا عالمية وثنائية، يُبنى على المصالح المتبادلة والتعاون والاحترام". ولسبب ما، سترسل لندن قائماً بالأعمال جديداً إلى الخرطوم، ويتداول اسم السفير البريطاني الجديد لكنه لم يعلن رسمياً. ويبدو انه اختيار ممتاز، إذ كان يشغل أخيراً منصب نائب رئىس البعثة البريطانية في احدى العواصم العربية، وسيحل مكان ألن غولتي الذي سيمنح اجازة لسنة واحدة لغرض الدراسة. ولن يعود السيد بيريدو الى لندن لانه يقترب من سن التقاعد. وسيعود الموظفون البريطانيون الى سفارتنا في الخرطوم على مراحل. وكانت السفارة بقيت مفتوحة، برعاية موظفين محليين، لكنها توقفت عن مزاولة مهامها العادية او اصدار تأشيرات دخول. وكانت الخلفية لزيارة الدكتور عابدين، التي جاءت في اعقاب مفاوضات مضنية استمرت اسابيع كثيرة، تتعلق، بالطبع، بالتأييد الكامل الذي منحه رئىس الوزراء طوني بلير لصديقه الرئىس بيل كلينتون ولتدمير مصنع "الشفاء" للادوية قرب الخرطوم. وتعرض المصنع، الذي كانت الاممالمتحدة تشتري بعض ما ينتجه من الادوية، الى ضربات صاروخية اميركية في 20 آب اغسطس العام الماضي. وأدى الهجوم الى مقتل شخص واحد واصابة آخرين بجروح. كان الهجوم على مصنع "الشفاء" عملاً مخزياً على صعيد عالمي لم يصدر عن الولاياتالمتحدة أي اعتذار عنه حتى الآن. وعلى رغم ان واشنطن كانت تفتش منذ سنوات عن اهداف ارهابية محتملة لضربها في السودان، وقيل لنا ان وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي آي أي" كانت تراقب مصنع "الشفاء" على امتداد 18 شهراً، فإن أدارة كلينتون لم تقدم أي ادلة ملموسة تربط السيد بن لادن بشكل مباشر بالمصنع. وكان الرأي غير المعلن لوزارة الخارجية البريطانية آنذاك هو ان الولاياتالمتحدة اخطأت بضرب المصنع وان ذلك نجم مرة اخرى عن معلومات غير دقيقة من اجهزة الاستخبارات الاميركية. وكانت "سي آي أي" سحبت اكثر من 100 من تقاريرها عن السودان في 1996 بعدما توصلت الى استنتاج بأن مصدرها كان شخصاً يلفق المعلومات. وقال مسؤول كبير في الحكومة البريطانية لم تُكشف هويته لصحيفة "فايننشال تايمز" ان "الاحساس بالعار انتاب كثيرين منا عندما هرع رئيس الوزراء لتأييد كلينتون". ووصف ديبلوماسي كبير تصريح بلير بأنه كان أشبه ب"رد فعل تلقائي واتسم بشيء من البلاهة". لا يزال يتعيّن على البيت الابيض ان يقدم اعتذاراً كاملاً لحكومة السودان وشعبها. وينبغي ان يُدفع فوراً تعويض كامل لمالك المصنع السعودي، وهو بالمناسبة صديق جيد لبريطانيا، وقد استثمر ملايين الجنيهات الاسترلينية في حي المال والاعمال في لندن. تمثل عودة الديبلوماسيين البريطانيين الى السودان بعد عشرة اشهر على سحبهم خبراً ممتازاً، وكان لوزير الخارجية البريطاني روبن كوك دور كبير في هذه الخطوة. وهي تبعدنا عن الاميركيين الذين يستمرون في فرض عقوبات على السودان. وسيجد كلا السفيرين ان هناك الكثير مما ينبغي القيام به لمصلحة كلا البلدين. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني".