لم تكن هناك، عبر المساحة الأوروبية الواسعة، امتان متعاديتان، في النصف الأول من قرننا العشرين هذا، عداء بريطانيا للاتحاد السوفياتي والعكس بالعكس. اذ طوال ربع قرن من الزمن، بعد قيام الثورة البولشفية، تجابهت لندنوموسكو في حرب ايديولوجية، وصراع اقتصادي، وتبادلتا التجسس على بعضهما البعض، ووصل التوتر، في احيان كثيرة، حدوداً تنذر بالحرب بالبلدين، لولا ان البعد الجغرافي حال دون ذلك. ولكن في الثاني عشر من تموز 1941، كان لا بد من وضع حد لذلك كله. ففي زمن كانت الحرب العالمية فيه تتحول من عدوان نازي صارخ على دول اوروبا الغربية، واحتلال الماني للدول المجاورة في أوروبا الوسطى والجنوبية، الى صراع عالمي دموي تدعى للمشاركة فيه الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي سواء بسواء، كان لا بد للجليد في العلاقات بين موسكوولندن ان يذوب، وكان لا بد لستالين وتشرشل ان ينسيا حال الحذر المتبادلة بينهما. وهكذا، قضي الأمر في ذلك اليوم وتم التوقيع على ميثاق بين البلدين اختصره صحافي من أبناء تلك المرحلة، متحدثاً عن نوازع ستالين وقال ان هذا الاخير "يفضل، بالطبع، ان يكون صديقاً لتشرشل، على ان يهزمه هتلر". وكان هذا الكلام لا يخلو من الصحة، لأن هتلر كان في ذلك الحين بدأ يوسع هجومه ليشمل الأراضي السوفياتية، وقد عزم على ازالة البولشفية من الوجود. صحيح ان تشرشل كان يداعبه الحلم نفسه، لكنه لم يكن ليريد له ان يتحقق على يدي هتلر. وعلى هذا النحو حدث في ذلك اليوم ان وقّع كل من السير ستافورد كريبس، السفير البريطاني في موسكو، وفياتشسلاف مولوتوف، وزير الخارجية السوفياتية، على وثيقة تقيم بين "الامتين رباطاً وثيقاً". كانت الوثيقة تتحدث عن قيام نوع معمق من الدعم الشامل المتبادل والتعاون الكلي بين موسكوولندن في المجالات كافة، ل"التخلص من هتلر". نذكر ان التوقيع جرى خلال احتفال شوهد خلاله ستالين، الذي اصرّ على الحضور، وهو يدخن غليونه بكل هدوء، بل ان ابتسامته اتسعت حين راح ينظر بتأمل عميق في الشريط الأزرق الذي لفت به نسختا الوثيقة وقد ختم بالشمع الأحمر. لا شك ان ستالين، على رغم المخاطر المحدقة ببلده من جراء الهجوم الألماني العنيف، كان في تلك اللحظة يشعر بكثير من الاطمئنان والانتصار ايضاً، ولا شك انه في تلك اللحظة نفسها تذكر كيف ان تلك القاعة - في الكرملين - التي تشهد اليوم تقاربه مع عدوه الايديولوجي الأكبر ونستون تشرشل، كانت هي التي شهدت قبل عامين فقط، حفلة مشابهة، لكنها كانت - في ذلك الحين - حفلة بطلاها مولوتوف نفسه، في الجانب السوفياتي و... نون رينبتروب، وزير الخارجية الالمانية الذي كان يمثل هتلر في التوقيع على معاهدة مشابهة بين المانيا والاتحاد السوفياتي. وكان العدو المشترك يومها.. بريطانيا العظمى، حليفة اليوم. بيد ان ستالين وتشرشل الصورة لم يكونا ليأبها في لحظة توقيع المعاهدة بين بلديهما الآن بمثل تلك التفاصيل. فالماضي صار ماضياً و... بسرعة. وهكذا فضلا معاً ان ينسيا ان المعاهدة التي وقّعت قبل عامين كانت هي التي سمحت لألمانيا بأن تحتل بولندا وتضمها الى اراضيها، ما ادى الى وقوع الحرب بين المانياوبريطانيا. وعلى رغم هذا النسيان المشترك، لم يفت ونستون تشرشل في تلك المناسبة ان يصرّ على ضرورة ان يكون ثمة ما يجبر الشريكين الجديدين على ان يقوم كل منهما باستشارة شريكه قبل اي تعهد او تفاوض للوصول الى هدنة او صلح او سلام مع العدو. وفي المناسبة ذكّر السفير البريطاني محدثيه كيف ان بريطانيا اعتادت، دائماً، ان تحافظ على كلامها وتعهداتها، وان ونستون تشرشل قال انه اذا ما حدث لبلد ما، ومهما كان شأن هذا البلد وتوجهاته، ان اعلن الحرب على هتلر، ستكون بريطانيا العظمى حليفته الموثوقة. ولتعزيز هذا الكلام، وتطوير العلاقة بين البلدين، تقرر خلال تلك الجلسة ان تستعد، منذ اليوم التالي، مجموعة من العسكريين السوفيات، للسفر الى لندن البحث في تطورات الوضع العسكري، وفي احتياجات موسكو العسكرية في ضوء تطور صراعها العسكري مع برلين، وأيضاً في كيفية "الضغط المشترك" المطلوب ممارسته، الآن، على واشنطن لتوريطها في ذلك كله.