Robert Darnton & Olivier Duhamel ed.. Democratie. الديموقراطية. Editions du Rocher, Paris. 1999. 341 Pages. لا تدعي الديموقراطية أبداً أنها نظام مثالي. وحتى عندما تقارن نفسها مع الأنظمة السياسية الأخرى، فإنها لا تعرِّف نفسها بأنها أحسن الأنظمة، بل تكتفي بأن تقول إنها أقل الأنظمة سوءاً. فالديموقراطية واقعية النزعة. وبصفتها كذلك، فإنها حريصة على أن تعرف أمراضها وعلى أن تعترف بها. والفساد قد يكون مرض الديموقراطية الأول. وهذا ما كان لاحظه في وقت مبكر منظِّر رائد للديموقراطيين. فقد كان ألكسيس دي توكفيل، في كتابه الكلاسيكي "عن الديموقراطية في أميركا" الصادر عام 1837، قد ذهب الى أن "الأرستقراطيات أقل فساداً من الديموقراطيات"، لأن "الذين يمسكون بمقاليد الأمور في النظام الأرستقراطي رجال أغنياء ليس لهم من طمع آخر سوى السلطة نفسها، في حين أن "رجال الدولة في الديموقراطيات فقراء وثرواتهم هي برسم التكوين". ومن هنا قابلية هؤلاء الأخيرين للفساد. وربما من هنا أيضاً قول من يقول، من بين المتشائمين بطبيعة الإنسان، انه لا وجود لإنسان غير قابل للفساد. فمن لا يرتشي هو فقط ذلك الإنسان الذي لم يعرض عليه ما فيه الكفاية. وأياً ما يكن من أمر، فإن مفهوم الفساد أوسع بكثير من مفهوم الرشوة. فمنذ الأزمنة القديمة كان أرسطو - وهو مع أفلاطون مؤسس العلم السياسي - قد عارض الكون بالفساد معارضته ما يولد وينمو بما يموت ويتحلل. وتقيم اللغة العربية نفسها علاقة من هذا القبيل بين الفساد والموت، عندما لا تحصر الفساد بالفساد الخلقي، بل تتحدث عن فساد كل ما هو من أصل عضوي وهي بمعنى التحلل والتفسخ والإنتان. وكان ثمة فيلسوف آخر من فلاسفة العلم السياسي الحديث، وهو فوتسكيو مؤلف "روح القوانين"، قد أشار الى أن الجمهورية أكثر قابلية من غيرها من أشكال الحكم للموت بغياب الفضيلة، أي بالفساد. ولكن إذا كان الفساد، بهذا المعنى الفلسفي الواسع، حركة أو قطيعة في النمو من شأنها أن تقود الى الموت، فإن عالمنا المعاصر يميل الى التعاطي مع الكلمة بمفهومها القانوني الصرف، من حيث أن الفساد هو حصراً علاقة تعاقدية غير مشروعة بين فاعلين يقع فعلهما تحت طائلة القانون. فالفساد يقتضي وجود طرفين: الفساد والمفسود. والمفسود هو كل شخص يحوز سلطة ويستعملها استعمالاً احتيالياً والفاسد هو كل من يحوز وسيلة مالية مادية لشراء تلك السلطة، أو بالأحرى لشراء قرار بعينه يمكن أن يصدر عن تلك السلطة. وعندما يتعلق الأمر بالديموقراطية، فإن الفساد الذي يذهب اليه الذهن حالاً هو فساد موظف الدولة. فكل موظف في الدولة، ولا سيما إذا كان من الرؤساء لا من المرؤوسين، يحوز سلطة مزدوجة: سلطة اتخاذ قرار من جهة أولى، وسلطة القدرة على بيع هذا القرار من الجهة الثانية. ومن ثم فإن كل موظف في الدولة مرشح، من حيث المبدأ، لأن يلعب - إذا انعدمت لديه النزاهة - دور المفسود. وان كان المفسود هو على الدوام فاعلاً سياسياً، فإن الفاسد بالمقابل هو فاعل اقتصادي. وهو لا يريد أن يحل محل السياسي، بل فقط أن يشتري قراره. وهذه العلاقة بين البائع السياسي للقرار والشاري الاقتصادي للقرار هي على الدوام من طبيعة تواطئية. وموضوع التواطؤ هو المصلحة العامة التي يفترض بالموظف المرشو أنه يمثلها والتي يبيع بعضها للراشي مع علمه التام بأن هذا الأخير لن يشتري بعض هذه المصلحة العامة إلا خدمة لمصلحته الشخصية. ما روادع الفساد؟ انها في المقام الأول من طبيعة أخلاقية. فلو كان المرشح لأن يغدو مفسوداً على قدر كافٍ من النزاهة لامتنع فعل الفساد من أصله ولربما استتبع ذلك إحالة الفاسد نفسه الى القضاء. ولكن الروادع الأخلاقية، على أهميتها القصوى، ليست كافية. فلا بد أن تعضدها ضوابط قانونية. وهذه الضوابط ليست من طبيعة عقابية خالصة. فقوانين الإمبراطورية الرومانية كانت تعاقب المفسودين بالموت، ومع ذلك كانت هي نفسها بؤرا للفساد. والواقع أن الوقاية تتقدم في الأهمية على العقاب في مكافحة الفساد. ومن منظور الوقاية حصراً فإن الدول الديموقراطية تدلل على قدرة أكبر على تخفيض مستوى الفساد من الدول غير الديموقراطية. فاحتكار السلطة هو العامل الأول للفساد. والحال أن السلطات في الدولة الديموقراطية موزعة ومتوازنة. وبدلاً من الأحادية هناك تعددية في مراكز القرار. ورشوة الكثرة أصعب بكثير من رشوة الواحد. ويكاد يكون من المستحيل، مع الكثرة، أن يبقى فعل التواطؤ مكتوماً. أضف الى ذلك ان القضاء في الدولة الديموقراطية سلطة مستقلة. وقد رأينا، من خلال النموذج الإيطالي المعاصر، الدور الذي يمكن أن يلعبه القضاة المستقلون في مكافحة الفساد، حتى ولو شكلاً مافياوياً منظماً ومعمماً. وعلاوة على استقلال السلطة القضائية فإن حرية الصحافة في الدولة الديموقرطية تمثل عاملاً إضافياً في فضح الفساد، ولا ننسَ، بعد هذا وذاك، ان تداول السلطة في الدولة الديموقراطية بين أحزاب متنافسة يجعل دفاتر المحاسبة مفتوحة أو قابلة للفتح ولإعادة الفتح باستمرار. كذلك فإن تداول السلطة لا يتيح الوقت الكافي لا للفساد كي يتأسس ويتجذر، ولا لضمائر أصحاب القرار كي تتخشب ويقسو جلدها مع طول ممارسة السلطة. إذاًَ فإن يكن الفساد هو المرض الأول للديموقراطية، فإن الدولة الديموقراطية هي الأقدر أيضاً على معالجته. وسابقاً كان توكفيل أيضاً قد قال: ان أمراض الديموقراطية لا تعالج إلا بمزيد من الديموقراطية. والدليل تقدمه، على كل حال، الأرقام. ففي عامي 1996 و1997 أجريت استبارات لمحاولة قياس الفساد على مستوى عالمي. وقد تناولت هذه الاستبارات 54 دولة في العالم. وأعطيت لكل دولة علامة تتراوح بين الصفر والعشرة تبعاً لمستوى الفساد فيها. فأكثر الدول فساداً هي تلك التي تقترب من درجة الصفر، وأقلها فساداً هي تلك التي تقترب من درجة العشرة. وقد ضربت الرقم القياسي في عدم الفساد الدول الاسكندنافية: الدانمارك 94،9، فنلندا 48،9، السويد 35،9. وتلتها نيوزيلندا 23،9، وكندا 10،9، وهولندا 3،9. وحول العلامة ثمانية حامت ثماني دول أخرى: النرويج 92،8، استراليا 86،8، سنغافورة 66،8، اللوكسمبورغ 61،8، سويسرا 61،8، أرلندا 28،8، المانيا 23،8، بريطانيا 22،8. وجميع هذه الدولة ديموقراطية باستثناء سنغافورة التي يمكن تفسير حضورها في هذه المرتبة بصغر حجمها 3 ملايين نسمة في رقعة من رقعة من الأرض لا تزيد على 618 كم2 وبارتفاع مستوى المعيشة فيها 23 ألف دولار، وهو يقارب مستوى المعيشة في السويد وهولندا. وتحوم حول العلامة سبعة أربع دول تأتي في مقدمتها اسرائيل 97،7، ثم الولاياتالمتحدة الأميركية 61،7 والنمسا 61،7 وهونغ كونغ 28،7. وهذه الأخيرة ينطبق عليها ما ينطبق على سنغافورة. وتحصل خمس دول على العلامة ستة: البرتغال 97،6، فرنسا 66،6، اليابان 57،6، كوستاريكا 45،6، والتشيلي 5.،6. ويلاحظ هنا لأول مرة حضور دولتين من أميركا اللاتينية، ولكنهما تتميزان كلتاهما بعراقة النموذج الديموقراطي فيهما خلا الفاصل الذي مثلته دكتاتورية بينوشيت في التشيلي بين 1973 - 1990. وتحوز تسع دول على العلامة خمسة: اسبانيا 90،5، اليونان 35،5، بليجكا 25،5، تشيليا 20،5، المجر 18،5، بولونيا 08،5، ايطاليا 03،5، تايوان 02،5، ماليزيا 01،5. ويلاحظ هنا، ولأول مرة أيضاً، حضور دول من الكتلة الاشتراكية الأوروبية الشرقية سابقاً، وهي تحديداً الدول صاحبة الخيار الديموقراطي بعد سقوط النموذج السوفياتي. وبالمقابل فإن ترتيب العديد من الدول التي تمزج بين أشكال من الديموقراطية والدكتاتورية يأتي حول العلامة أربعة أو حتى ثلاثة: أفريقيا الجنوبية 95،4، كوريا الجنوبية 29،4، البرازيل 56،3، رومانيا 44،3، تركيا 21،3. ويظهر في هذه المرتبة، لأول مرة، اسم دولة عربية: الأردن 89،4. وبالمقابل فإن كثرة من دول الاستبداد العريق تحتل مكانها في الدرجة ما قبل الأخيرة من انتشار الفساد، وفي مقدمتها الصين الشعبية 88،2، فيتنام 79،2، أندونيسيا 72،2، روسيا 27،2. وفي هذه القائمة تحتل موقعها دولة عربية مثل مصر 84،2، ودول أميركا اللاتينية مثل الأرجنتين 81،2، فينزويلا 77،2، المكسيك 66،2، كولومبيا 23،2، بوليفيا 05،2. أما آخر القائمة فتحتله نيجيريا 76،1. وتشاطرها فيه الباكستان التي شهد وضعها بعض التحسن، إذ ارتفعت علامتها في انتشار الفساد من 00،1 عام 1996 الى 53،2عام 1997. يبقى أن نقول إن المعهد الذي أجرى هذه الدراسة الكمية المقارنة لمعدلات الفساد في العالم هو "معهد الشفافية الدولي" التابع لجامعة غوتنغن الألمانية.