في الخمسينات، وبالتحديد عام 1952، عندما حازت لوحة فاتح المدرس مولود في مدينة حلب العام 1922، جائزة المعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق. أحس الجميع أن عهداً جديداً في الرسم السوري قد بدأ في ذلك الوقت... وفي رابطة الكتّاب السوريين طُرح اسم فاتح المدرس لقبوله كعضو في الرابطة الأدبية. ولم يكن قد كتب... وأتى الرد الجماعي بحماسة... لكنها تعادل ثلاثة كتب... بعد ذلك... مثّل فاتح المدرس مع زميله لؤي كيالي في عام 1960 سورية في بنيالي البندقية... وفي عام 1961 أصبح معيداً في كلية الفنون الجميلة في دمشق. وفي عام 1977 نال وسام شرف في سان باولو... وفي عام 1978 أقام معرضاً في بون حيث استقبله الدكتور ولتر شير رئيس جمهورية المانيا الاتحادية حينذاك. ومن معارضه الأخيرة ذاك الذي أقامه عام 1993 في واشنطن وكان معرضاً شخصياً لأعماله... في مرسمه المتواضع كان هذا الحوار الذي لم يقدر للرسام ان يقرأه في حياته... بعد هذه المسيرة الطويلة... الى أين وصل فاتح المدرس؟ - للأسف الشديد وصلت الى الصفر، والصفر له قيمة، لأن البداية كانت صفراً، ومن ثم المسيرة الطويلة تصل الى الصفر، وهذا عبارة عن تكتيك بارع من أجل الموازنة بين الموت والحياة، وعندما تكون النهاية موتاً تعني صفراً والولادة أيضاً تبدأ من الصفر وما بينهما عبارة عن عبث في محيط عابث وحضارة عابثة. فهذا يعني أن لا جدوى. أنت فنان وأديب، فما علاقة الفن التشكيلي بالأدب؟ - لا علاقة للفن التشكيلي بالأدب إطلاقاً أنا أعمل بطريقتين متناقضتين. هل من تأثيرات دخلت على لوحتك... كالأدب مثلاً؟ - الأدب هو تفاعل ذهني غير مصوّر، أما الرسم فهو عبارة عن ألوان وخطوط يمكن أن تخلق إثارات سيكولوجية عند المتفرج. ان دخول الأدب في الرسم يقتل اللوحة ولكن لا بد من وجود ذلك الحس اللطيف الذي يربط الصورة بالتحليلات حيال مشاعر الإنسان الدقيقة والصعبة. هل أنت محترف للرسم أم فنان؟ إذا كنت فناناً... ما الذي يفصلك عن الحرفة على الرغم من ضرورتها لك كفنان تشكيلي؟ - أنا فنان محترف ولكنني أكره التجارة، أكره بيع اللوحة وإذا فُرض عليّ أن أبيع لوحة أشعر بغبن وأشعر باندحار. العمل الفني يجب أن يكون ملك الإنسان إذا كان ذا قيمة. لكن الأعمال الفنية غالباً هي عبارة عن تسلية ومشحونة بالكذب وبما يسمى الكوزماتيك. كيف تجمّل المرأة نفسها بالألوان هذا نوع من الكوزماتيك. لكن تثبيت لحظة وجدانية حسيّة ذات علاقة بتطورات الفن التشكيلي ومعطيات جديدة للصورة سواء أكانت نحتاً أو كانت تجريدية. من أين تبدأ لوحتك من الزمان أم من المكان؟ - أولاً نهيء المكان أقصد الحالة النفسية في مكان معين هو المرسم، أما الزمان فهو خادم تافه للمكان... الزمان يأتي عبارة عن تمرجي كما يقول المصريون، الزمان عبارة عن عامل يعني أنه يحدد كتابياً وليس رسماً لمكان صنع العمل... المكان هو السيد أما الزمان فهو خط لا ينتهي يبدأ منذ بدأ الكون وينتهي حيث ينتهي. إذاً المكان هو الذي يحدد الزمان. ما هي الحالات التي تنتاب فاتح المدرس أثناء رسم لوحاته وبصراحة؟ هل يبقى ضمن الواقع أم يسرح في عالم خاص به يجسده في لوحاته؟ - أولاً عندما أبدأ اللوحة أبصق على هذا الواقع ثم أمسح هذه البصقة وأحاول العودة الى التراب أو الى الصفر، مشاعر جديدة، ألوان جديدة، فنون جديدة، وجه جديد للعودة الى عالم أشد قبحاً مما رُسم. هل هذه النظرة دائمة؟ - نعم إنها دائمة. خبرة الماضي كيف تصنع موقفك اليوم في خضم الحركة الفنية المتصاعدة والكم الهائل من العاملين فيها؟ - الماضي دائماً تافه ولا يبقى منه إلا الألم والموت والدم... ماضي البشرية حتى هذه اللحظة شيء لا يشرّف أي حيوان يعني الجرذ لا يشرفه ماضي الإنسان... فالبلاد العربية في محاولة الصحوة ومحاولة جد بدائية لمقاومة الشر واسترداد الكرامة العربية. هناك مجموعة من المشاعر تنتاب الفنان وهو يتابع خلق اللوحة... هل تحدثنا عن هذه المشاعر كلاماً؟ - في البدء يكون الفنان في درجة الصفر ومن الصفر ينطلق إلا أن تراكم الأحداث اليومية حول الرسام يفرض عليه معطيات عن الخير والشر والحياة والموت والجمال والقبح والظلم... كل هذه المشاعر اليومية التي تنتاب الإنسان ان كان رساماً أو بائع فلافل يحاول أن يجد لها مخرجاً. وبالنسبة الى الفنان والرسام تحديداً، فاللوحة هي مخرج أدبي عن طريق لغة غير أدبية. فلغة الأدب لغة غير لغة الرسم، عبارة عن عملية تحوير ما بين الفكر والصورة ولغته صعبة وتنتسب الى العصر، مثلاً لغة الفن التشكيلي في القرن السابع عشر مختلفة عنها في القرن الثامن عشر وهكذا دواليك. نحن الآن نعيش في متاهة تشكيلية مغايرة تماماً للأزمان القديمة دخل فيها الحدث السياسي... دخل فيها الظلم بشكل واضح جداً. دخل فيها التطلع نحو المستقبل من دون الحفاظ على القيم. فالفنان في مواجهة المستقبل يقوم بتصوير الحالة التي يعيشها ويصوّر أحاسيسه الداخلية، يستطيع تصوير الأحاسيس الداخلية باللون... والخط عملية مخالفة للكلام المكتوب. إذاً الرسم عالم مختلف عن الأدب، مختلف عن الكلمة. إنه يضعك مباشرة أمام بعض الحقائق أو بعض الألغاز أو بعض الرموز وعليك أن تحلّها. ولكن مع الأسف ليس كل الفنانين يتجهون هذا الاتجاه... ان يكون المتجه فعّالاً في بنية المجتمع أفضل بقليل من هذا النحس الهائل الذي يسيطر على العالم. عفواً... فاتح المدرس ينظر نظرة جد سوداوية للمجتمع... الواقع؟ - إنها في الحقيقة أشد سوداوية... هذا السواد هو قليل. برأيك... ما الأسباب التي حالت دون وصول الفنان العربي الى المكانة التي تليق به؟ - انها أسباب أخلاقية قذرة... وأسباب اقتصادية أشد قذارة. ما الأهداف الأساسية التي يسعى اليها فاتح المدرس... وما الوسائل التي يستخدمها لمعالجة هذه الأهداف؟ - هو أن أعطي شيئاً عزيزاً الى وجودي... وجودي الذهني كالآخرين من دون النظر الى تجاوب الآخرين. لا يهمني التجاوب إطلاقاً. عفواً... لكن هذا الكلام فيه الكثير من الأنانية واحتقار الآخر؟ - أنا أناني جداً... "وابن كلب" ولا يهمني الآخر أبداً... ما هي علاقتك بالصفر... لقد تكرر هذا الرقم كثيراً أمامي منذ دخولي مرسمك وأنت تقول الصفر... فما هي الحميمية بينك وبين الصفر؟ - هو البدايات الحتمية لكل عمل فني نظيف. وهو النهاية على ما يبدو؟ - ضاحكاً... النهاية تأتي وحدها. ما الذي لا يراه المشاهد في لوحات المدرس؟ - انه لا يرى غباءه... بمعنى آخر... إذا رآني ماتت اللوحة. المستقبل من خلال الحاضر... كيف تراه؟ - ليس لدينا مستقبل ولم يعد هناك نفوس آمنة... العالم يتجه نحو الظلم... نحو انعدام انسانية الإنسان. وكيف نعالج هذا الشيء ليس لدينا سوى أن نحتقر هذا العالم... أنا أحتقر هذا العصر وأنا آسف لأني وُجدت فيه. علماً أن العصور السابقة كانت أشد ضراوة من هذا العصر، كانت "ألعن" من هذا العصر أو تساويه في القذارة. نحن نعيش في عالم جد قذر والذين يتخلصون من هذه القذارة هم قلّة قليلة جداً، وأنا أشعر بغربة. الذين تخلصون هم قلّة قليلة جداً، وأنا أشعر بغربة في هذا العالم. تعطي الحب وتنال القتل... لننتظر ما يحدث في البوسنة... في فلسطين... في أفغانستان في الجزائر... عالم قذر رهيب... ليست فيه أي ذرة من الجمال، نحن نعيش بمحيط جميل ولكن لا أحد يفكر فيه. إذاً برأيك ألا نستطيع دخول المستقبل؟ - بصراحة أنت متفائلة، وأنا أحب أن أضم مشاعري الى مشاعر التفاؤل لديك. هل يركز فاتح المدرس على عنصر دون آخر؟ - إني أركز على وجه الإنسان... لكن الإنسان لم يعد وجهاً. في لوحاتي يوجد انسان ولكن من دون وجه. ثمة خطوط بسيطة جداً تشير الى اتهام الإنسانية بالتخلي عن إنسانيتها هذا هو في الأشخاص الموجودة في لوحاتي، والاحتقار حيالهم هو ما أسعى للتعبير عنه. كيف كانت البداية التي انطلق منها فاتح المدرس... والتي ألهمته التعبير عما يريد؟ يجيب بشرود فيه الكثير من الحزن الممتزج بالحنين. - صدفة غريبة... بدايتي كانت في الشول في البرية، أنا من عائلة اقطاعية كانت تعيش في المدينة... إلا أن أمي كانت من بنات الجبال، وهي التي أخذتني الى الجبال الجرداء وهامت بي من المدينة الى الجبال، عشت مع الأرض والحيوان والحشرات والأغاني البدائية والإنسان النظيف وكلّها شحنتني بحس يبدو كأنه إنسان... إذا بدايتي كانت صدفة... والجبل هو الذي علمني أن أكون انسان. هل تشعر بالحنين الى تلك الأيام؟ - لا... لقد كانت صعبة... كانت جميلة جداً لكنها في منتهى الصعوبة. أخيراً... هل يفكر فاتح المدرّس بالموت؟ - كي أسرّك أفكر... كي تحزني قليلاً... لا أفكر.