يُقال إن السيدة ميغاواتي سوكارنو بوتري وُلدت في نهار عاصف وسماء ملبدة بالغيوم السوداء واجواء تزلزلها أصوات البرق والرعد، ففضل والدها زعيم الاستقلال في اندونيسيا وأول رؤسائها أحمد سوكارنو أن يطلق عليها اسم ميغاواتي أو ما يمكن ترجمته ب"السحابة البيضاء". واليوم وبعد مرور 52 عاماً على الحدث تجد "السحابة البيضاء" نفسها مرة أخرى في وضع مشابه ليوم ميلادها، اذ صارت السحب الداكنة تحيط بها من كل حدب فيما تحاول هي جاهدة الافلات منها ومن احمالها الثقيلة. كتب عبدالله المدني: صحيح أن ميغاواتي برهنت ومن خلال الانتخابات النيابية الأخيرة في السابع من حزيران يونيو الجاري التي حصلت فيها على المركز الأول بنسبة 37 بالمئة من الأصوات قد تزيد مع ظهور النتائج النهائية في الاسبوع الأول من تموز يوليو القادم، انها وحزبها حزب النضال من أجل الديموقراطية الأقوى على الساحة السياسية في حقبة ما بعد سقوط نظام سوهارتو الديكتاتوري وعودة الديموقراطية التي دُفنت في الخمسينات على يد والدها، لكن الصحيح أيضاً ان هذا الانجاز لا يعني سوى أنها قطعت نصف المشوار فقط نحو حلمها بزعامة ما صار يسمى بثالث أكبر الديموقراطيات في العالم من بعد الهند والولايات المتحدة. أما النصف الآخر من الطريق فربما كان مزروعاً بألغام أشد إيذاء واحباطاً على ضوء بروز جملة من التحديات أمامها، مصدرها القوى السياسية الأخرى التي لم تكد تتوقع تراجع مراكزها وحصتها من المقاعد البرلمانية أمام سيدة طارئة نسبياً على المسرح السياسي لبلادها. وأول ما يمكن ملاحظته على هذا الصعيد أن القوى السياسية الاندونيسية بما فيها تلك التي عقدت مع ميغاواتي تحالفاً تكتيكياً غير مكتوب من أجل الاضرار قدر الامكان بحظوظ حزب "غولكار" المتسلط على مقادير الأمور منذ أكثر من ثلاثة عقود، واغلاق الطريق أمام عودته الى السلطة، راحت تدشن حملات محمومة بهدف اثبات أن ميغاواتي تفتقر الى المواهب القيادية والخبرات السياسية الضرورية للتعامل مع أوضاع بلد مفلس اقتصادياً وتطحنه البطالة وتهدد وجوده النزعات الانفصالية، وذلك في استباق واضح لاحتمالات نجاحها في تزعم اندونيسيا. وتركزت هذه الحملات على الجانب الأضعف في سيرة ميغاواتي وهو افتقارها الى ما لدى غيرها من أعلام الساحة السياسية المرشحين للزعامة من أمثال يوسف حبيبي وأمين ريس وعبدالرحمن وحيد لجهة الشهادات الأكاديمية العليا والخبرات العملية المتراكمة، وهو أمر لا تنفيه ميغاواتي وتعزوه الى الظروف السياسية التي مرت بها عائلتها والتي اجبرتها على ترك دراستها الجامعية في جامعة باداجاجاران الاندونيسية، لكن مع استدراكها لحقيقة أن رفقتها وملازمتها لوالدها سوكارنو أتاحت لها الاطلاع عن كثب على الكثير من الملفات ومقابلة العديد من الشخصيات الدولية التاريخية، وبالتالي تكوين خبرة سياسية متميزة. لكن كل هذا لم يمنع المتربصين بها من التحذير المبكر من تسليم أمور اندونيسيا الى سيدة هي بحسبهم مجرد ربة بيت لا تتعدى خبرتها السياسية حدود مطبخ أسرتها ولا تختلف في شيء عن شبيهتها الفيليبينية كورازون اكينو التي تزعمت الفيليبين في ظروف مشابهة فكان الفشل حليفها في كل ما تصدت له من معضلات. أما ما حصلت عليه ميغاواتي من تأييد جماهيري، فإنه في نظر هؤلاء ليس الا انعكاساً للحنين الى الماضي الجميل الذي ارتبط باسم والدها سوكارنو، أو نكاية بعهد سوهارتو الذي كانت هي فيه من أبرز رموز الاضطهاد والقمع، ناهيك عما فعله هذا العهد من تشويه متعمد لصورة والدها وفترة زعامته، بمعنى أن ذلك التأييد لم يكن نابعاً من الإيمان بشخصها أو الاحترام لكفاءتها أو الاعجاب ببرامجها السياسية والاقتصادية التي هي على كل حال غامضة ان لم تكن أصلاً عديمة الوجود. الى ذلك، فضل البعض أن يغمز من قناة عدم مشاركتها مشاركة فعلية في الانتفاضة الجماهيرية والطلابية التي أرغمت سوهارتو على الاستقالة وبالتالي عدم أحقيتها في جني ثمار هذه الانتفاضة، وذلك بالقول إنه في الوقت الذي كانت فيه شوارع جاكارتا تصطبغ بدماء المتظاهرين على أيدي حماة الديكتاتورية السوهارتية، كانت ميغاواتي تجلس في مطبخها تعد طبق ال"نازي غورينغ" التقليدي لأبنائها الثلاثة. ولئن كان كل هذا يحمل قدراً من الحقيقة، يعترف به حتى أولئك المقربين من ميغاواتي من أمثال نائبها في زعامة الحزب مختار بوخوري الذي صرح ذات مرة بأنه لو كانت زعيمته تملك عشرة بالمئة فقط من مواهب والدها الراحل لكان كل شيء على ما يرام، فإن خروج تيارات سياسية متباينة الأهداف للحديث بصوت واحد ضد ميغاواتي في هذه المرحلة لا يمكن تفسيره الا بالغيرة مما حصلت عليه الأخيرة من نتائج طيبة في الانتخابات. وهي غيرة خلقت ما يشبه الارتداد عن المسلك الديموقراطي الذي آمن به الجميع ودعوا اليه قبل وأثناء العملية الانتخابية، ونشوء ظاهرة رفض الرضوخ لإرادة الأمة. وربما لو أن تياراً سياسياً غير حزب ميغاواتي حقق في الانتخابات ما حققه الأخير لكان المشهد مماثلاً لجهة الحسد والتبرم ووضع العراقيل في طريق المنتصر، مع فارق انه في حالة "السحابة البيضاء" تبدو العملية أسهل بكثير للخروج وسلّ سيوف التجريح دونما خوف من ردّ فعل "ماطر" يشتت شمل المتجمعين ويلزمهم حدودهم. والجديد في الأيام الأخيرة أن التيارات السياسية الاسلامية في أندونيسيا، والتي آلمها تقهقر نتائجها في الانتخابات وتضاءل آمالها في قيادة هذا البلد الذي يعد الأكبر اسلامياً من حيث عدد السكان، تحاول الآن استخدام ورقة الاسلام للحيلولة دون وصول ميغاواتي الى زعامة البلاد حينما يجتمع مجلس الشعب الاستشاري في تشرين الثاني نوفمبر القادم لاختيار رئيس البلاد المقبل، وهي التي كانت طوال الفترة الماضية حذرة حول التلويح بهذه الورقة مخافة أن تثير القوى الخارجية أو أن ينصرف عنها الناخب الاندونيسي المسلم المعروف بصفة عامة بوَسَطيّته واعتداله واختلاف مفهومه لدور الدين في الحياة العامة عن شقيقه في جنوب آسيا وغربها، بل الذي نشأ في ظل نظرية أن الأمة الاوندونيسية ومصالحها تأتي أولاً يليها الاسلام وليس العكس. فقد لاحظت هذه التيارات أثناء الحملات الانتخابية في أيار مايو، كم كانت الجماهير متحمسة ومنخرطة بأعداد كبيرة في مهرجانات ميغاواتي وحزبها القومي العلماني، فلم تجد وسيلة للحد من هذه الشعبية سوى التلويح بشبه فتوى حول ضرورة ألا يقترع الاندونيسي المسلم الا لحزب له توجُّهات اسلامية، متحاشية بطبيعة الحال اصدار الفتوى المعروفة في دول أخرى حول ضرورة التصويت لمن في برنامجه شعار اقامة نظام اسلامي لعدم وجود من يقول بذلك صراحة. وحينما ثبت فشل هذه الوسيلة بتزايد الأعداد الملتفة حول ميغاواتي، ما كان أمام التيار الحاسد سوى اللجوء الى وسيلة أخرى هي التشكيك في اسلام الأخيرة والتركيز على موضوع كثرة المترشحين على لائحتها من غير المسلمين، على أمل ان ينصرف الناخبون المسلمون عنها. ومرة أخرى فشلت الوسيلة الجديدة بظهور النتائج الأولية للانتخابات وتقدم ميغاواتي على كل منافسيها وبفارق واضح يصل الى الضعف عن أقربهم اليها. واليوم وبعدما انتهت الانتخابات وحسمت نتائجها، لم يجد المتقهقرون الى الخلف سوى الوقوف في وجه احتمالات تولي ميغاواتي زعامة اندونيسيا عبر التلويح برأي الاسلام في مسألة تولي النساء للسلطة والاصرار على عدم جواز ذلك شرعاً. الأمر الذي يذكرنا بالأساليب والتكتيكات التي مُورِسَت في الهند للحيلولة دون تولي السيدة سونيا غاندي الزعامة مع فارق المنطلقات والحجج وعقائد أصحابها بطبيعة الحال. ورغم عدم وجود ما يؤيد هذا الطرح في الدستور الاندونيسي المعمول به منذ 1945 والذي لا تفرق نصوصه بين الرجل والمرأة في تولي المناصب العامة العليا، ورغم انتقاد ثلاثة من أصل خمسة من هيئة كبار علماء اندونيسيا الشرعيين لهذا المنحى وعدم موافقتهم على مضمونه، اضافة الى اعتراض زعيمي أكبر تيارين اسلاميين جماعة نهضة العلماء وتنظيم المحمدية في البلاد عليه - وان بصفة ملتوية تنم عن الأمل في نجاح الطرح كي تسهل عليهما عملية ترشيح أنفسهما للرئاسة - فإن الحملة مستمرة بقيادة حزب قديم ومتشددين من حزب جديد. أما القديم فهو حزب التنمية المتحد الذي حل رابعاً في الانتخابات الأخيرة، وكان في العقود الماضية ربيباً لنظام سوهارتو وشريكاً دائماً له في انتخاباته الصورية ولم يجرؤ رئيسه حمزة حاج أو ممثلوه من ذوي التوجهات الاسلامية على القول ان واجبهم الاسلامي يحتم عليهم الاحتجاج على فساد النظام وظلمه، بينما هم اليوم يرددون ان معارضتهم لتولي ميغاواتي الزعامة تنطلق من واجبهم الاسلامي تجاه الأمة الاندونيسية. وأما المتشددون، فلئن كانوا في مختلف التيارات السياسية الاسلامية الراهنة، فانهم ينحدرون على وجه الخصوص من حزب العدالة الاسلامي بقيادة عالم الأغذية الشاب نور محمود اسماعيل، والذي كان ضمن أكثر من 134 حزباً سياسياً توالد كالقطط في الفترة الزمنية القصيرة التي أعقبت سقوط سوهارتو واطلاق الحريات السياسية، لكنه لم يحقق الا نتائج متواضعة في الانتخابات احتل معها المركز السابع. والغريب هنا أن هذا الحزب الذي تتشكل غالبية كوادره من الشباب الجامعي الملتزم، يضم في صفوفه نسبة كبيرة من الفتيات المحجبات اللواتي يؤمنّ بحق المرأة في العمل في مختلف المجالات الا ان غالبيتهن يطرحن عند الحديث عن تولي ميغاواتي للسلطة المبررات الاعتراضية المعروفة مثل رقة المرأة وسهولة رضوخها لعواطفها وحاجتها الدائمة الى اجازات الحمل والولادة والنفاس و... و...! والمفارقة التي يجب أن تسجل هنا وتحاط بعلامات استفهام هي أن المؤسسة العسكرية التي اضطهدت ميغاواتي سابقاً ودبرت لها المؤامرات لاطاحتها من قيادة حزبها في السنة الأخيرة لحكم سوهارتو، تقف اليوم الى جانب حقها في تولي السلطة اذا ما اختيرت لذلك. والسؤال هنا: هل ينطلق الجيش في موقفه هذا من منطلق مبدئي هو حماية الوجه الديموقراطي الجديد للبلاد، أم انه يريد فقط بذلك ان يسجل افضالاً على ميغاواتي تتيح له مواصلة دوره النافذ اذا ما حلت الأخيرة في السلطة.