كانت السماءُ تمطرُ بغزارة، عندما راح المعلم يعلنُ نتائج امتحان الفصل الدراسي الثاني. ثم ما لبث أن نطقَ بإسمي مصحوباً بنتيجة راسب! سقطتْ كلمة "راسب" عليَّ سقوط الصاعقة... وبرقَتْ السماء ورعدَتْ في تلك اللحظة، فشعرتُ أنَّ البرقَ والرَّعد لا سببَ لهما سوى حادثة رسوبي! غادرتُ غرفة الصفِّ وذهبتُ الى زاوية الملعب الذي غمرَهُ ضوءُ الشمسِ بعد انحباسِ المطر، فوجدتُ صديقي هاني هناك فسألته: - هل نجحت؟ - بل رسبت. وسألتُه عن نتيجة مروان، فأخبرني بأنه رسب هو الآخر. ولم يكد هاني يُنهي كلامه حتى شاهدْنا مروان قادماً نحونا وهو يبتسم. وعندما وصل الينا قال: - أنا آسف لرسوبكما. فأجابه هاني: - نحن أيضاً آسفان لرسوبك هتف مروان وهو يرفع دفتر علاماته بيده: - أنا لم أرسب! فصاح به هاني: كُفَّ عن المُزاح... لقد سمعتُ المعلِّم يعلنُ رسوبك بعد إعلان رسوبي. وفاجأَنا مروانُ عندما بسطَ دفتر علاماته أمامنا وقال: - ألا تصدِّقانِ أنني نجحت؟ أنظرا... نظرتُ أنا وهاني الى نتيجة مروان، فإذا هو ناجحٌ بالفعل! وفَحَصْنا مجموع علاماته، فإذا هو فوق مُعدَّل النجاح بتسع علامات!. ولاحظ مروان دهشتنا فانفجرَ ضاحكاً، فسألناهُ عن سبب ضحكه فقال: - الحقيقة هي أنني كنتُ راسباً، ونَجَّحْتُ نفسي بنفسي! - وكيف ذلك؟ سأله هاني وقد ازدادت دهشته. فأخبرنا مروان بأنه استخدم القلم والممحاة وزوَّر نتيجته وعلاماته! عندما نطق مروان بكلمة "تزوير"، لم أصدِّق ما أسمع! وفوجئتُ عندما استخرج هاني دفتر علاماته، ودفع به الى مروان وهو يقول: - نجِّحني! فهتفتُ بالإثنين غاضباً: - ما هذا الذي تفعلانه؟ وكيف تجرؤانِ على مثل هذا الغش؟ فقال مروان: - إننا لا نؤذي أحداً بعملنا هذا. بعدما يَطَّلعُ أهلُنا على علاماتنا سنعيد النتائج الى ما كانت عليه من قبل. وصمتَ مروانُ قليلاً ثم عاد يقول: - إنَّ ما نقوم به هو فقط من أجل عدم ازعاج أهلنا... انهم يفرحون لنجاحنا، ويحزنون لرسوبنا. فلماذا نجعلهم يحزنون ما دمنا قادرين على جعلهم فرِحين؟! بدا لي كلام مروان على شيء من الصَّواب، وشعرتُ أنَّ هذا الكلام يصحُّ عليَّ أكثر مما يصحُّ على أيّ تلميذٍ آخر. فقد عوَّدتُ أهلي على نجاحي المستمر في المدرسة. ولم يحدُث أن رسبتُ في أي امتحان من قبل. فلماذا لا أُخْفي عنهم نتيجة رسوبي، وأعمل من الآن فصاعداً على أن أنجح في امتحاناتي المُقْبلة؟ لماذا أجعل أهلي يحزنون ما دمتُ قادراً على إسعادهم؟ كان مروان قد انتهى من تزوير علامات هاني عندما دفعتُ اليه بدفتر علاماتي، فحوَّل ببراعة كلمة "راسب" الى كلمة "ناجح" ورفع مجموع علاماتي من 112 علامة الى 122 علامة! وكان هذا أقبحَ عملٍ أقوم به في حياتي. عندما وصلتُ الى البيت، بعد ذلك، وقفتُ متردِّداً بين أن أقرع الباب أو أعود من حيث أتيت، فقد كانت هذه المرّة الأولى التي أشعر فيها بالخوف من الدخول الى بيتنا. لكنَّ احساسي بأن التزوير الذي قمتُ به لن يدوم سوى لحظات جعلني أتشجع وأقرع جرس الباب، ففتحتْ أمي الباب وسألتني على الفور عن نتيجة الامتحان. أردتُ أن أجيب بأنني نجحت... لكنَّ هذه الكلمة علِقَتْ بِفَمي! ولم أقدرْ على التَّلَفُظِ بها، وأحسستُ بما يشبه الخَرَس! ثم وجدتُ أنني عاجز أيضاً عن التلفُظِ بكلمة "راسب" فماذا أفعل؟! تقدَّمتُ الى وسط الغرفة، ومكثتُ صامتاً للحظات، وأنا أشعرُ باضطراب قويّ، وبحَيْرة شديدة. وقبل أن تطرح أمي السؤال من جديد التفتُّ نحوها وقلتُ بصوتٍ يخالطُهُ البكاء: - لقد رسبَت! وبينا أنا متوقّعٌ أن تصيحَ أمي في وجهي، وجدتُها تقترب مني، وتضعُ يداً هادئة ولطيفة على كتفي وتقول: -أنت تنجحُ دائماً في امتحاناتك، ولا بأس لو جرَّبت الرسوب مرَّة واحدة. وقادتني باتجاه المطبخ وهي تقول: - هيَّا لتناول طعام الغداء. ثم قالت: ستبدِّل ثيابك بعد تناول الطعام لأننا ذاهبون لزيارة بيت عمّك. الهدوء الذي واجهت به أمي نبأ رسوبي، جعلني أحسُّ بفرحٍ شديد. لكنَّ أمي ما لبثتْ أن قالت لي: - أرِني دفتر علاماتك. وأسْعفني الكذبُ البريء هذه المرَّة فقلت: - دفتر علاماتي لا يزال في المدرسة... سأذهبُ وأجيء به في الحال. - تناولْ طعامك أولاً، وبعدها تذهب وتأتي بدفتر العلامات. - لا. لا. قد تقفل المدرسة أبوابها في أي لحظة. ثم ركضتُ نحو جهاز الهاتف واتصلتُ بهاني فلم أجدهُ في البيت، ثم اتصلتُ بمروان فلم أجدهُ هو الآخر، ففطنت الى أنهما ذهبا لحضور مباراة كرة القدم في ملعب البلدة. فأسرعت الى هناك. فشاهدتهما يغادران الملعب بعد انتهاء المباراة. استخرجتُ دفتر العلامات من محفظتي وطلبتُ من مروان أن يعيد نتيجتي الى ما كانت عليه قبل التزوير، فصاح بي: - هل أنت مجنون؟ أرأيتَ ناجحاً في العالم يطلب أن يتحوَّل الى راسب؟! فأخبرته بما حدث معي في البيت، وبعدم مقدرتي على الغشّ، وبالراحة التي أحسستُ بها عندما كنتُ صادقاً مع أهلي. فقال مروان: - أنت حُرّ... الآن تأكَّد لي بأنك لا تستحق النجاح. بل تستحقُ أن تظلَّ راسباً. ثم استخرج القلم والممحاة، وأعاد نتيجتي الى ما كانت عليه من قبل. وكأنَّ عَدْوى مشاعري انتقلت الى هاني، فطلب من مروان تصحيح علاماته، فصحَّحها من دون أي تعليق... وغادرنا المكان أنا وهاني، ومكثَ مروان قاعداً. ثم لم يلبثْ أن استوقفنا قائلاً: - انتظرا ريثما "أُنظِّف" دفتر علاماتي أنا أيضاً! ثم شرعَ يصحِّح دفتر علاماته وعندما انتهى من ذلك قال: - عجباً... إنني، ورغم رسوبي في هذه اللحظة، أشعرُ بسرورٍ غامض، لا أدري سَبَبَهُ! قال هاني: - وأنا أيضاً أشعرُ بمثل هذا السرور. وعلَّقتُ على كلامهما قائلاً: - لقد سبقتكما الى هذا السرور الذي تشعران به! وذهبنا، بعد ذلك، أنا وهاني ومروان كلٌّ الى بيته، ونحنُ نشعرُ بسعادة تشبهُ السعادة التي يشعرُ بها الإنسان بعد النجاح في امتحانٍ صعب.