يلعب المهندس المصري ابراهيم صلاح دوراً حيوياً في تطوير اوضاع الجاليات الاسلامية في سويسرا انطلاقاً من كونه رجل اعمال ناجحاً وصاحب علاقات وثيقة مع القيادات المحلية من جهة والقيادات العربية والاسلامية في الخارج من جهة اخرى. وقد التقته "الحياة" أخيراً لاستطلاع رأيه في آخر مستجدات الساحة الاسلامية وظروف المسلمين المقيمين في سويسرا. سطع نجمك فجأة في ميدان العمل الاسلامي في سويسرا، فما هي قصة ظهورك على هذه الساحة؟ - انا موجود في الغرب منذ سنة 1955، وفي سويسرا منذ 1966 وحتى الآن. ومنذ اقامتي في الغرب لم ينقطع ابداً عملي من اجل الاسلام والدفاع عن حقوق المسلمين. ولكن هذا العمل كان يأخذ صوراً مختلفة تبعاً لأهمية القضايا المطروحة والظروف المحيطة. فقد تعاونت مثلاً مع جبهة التحرير الجزائرية وكان لي علاقة قوية ببعض رموزها في الخارج، ولا زلتُ احتفظ بعلاقة وطيدة مع بعض رموز الاحزاب الجزائرية. وفي سويسرا بدأ نشاطي السياسي بتكوين جمعية الصداقة العربية - السويسرية. وكنّا ندافع من خلالها عن حقوق الفلسطينيين. وفي السبعينات بدأ التوجه نحو النشاط الاسلامي، فكوّنا مع بعض الاخوة اول مركز اسلامي في زوريخ، وكنت مع الاخوة الأفاضل اسماعيل امين ومحمد منصور. ثم تركت زوريخ وركزت نشاطي في كانتون برن. وفي تلك الفترة تعرفت على رموز المعارضة الايرانية في اميركا، وكانوا من اعوان الخميني. وتوثقت صلاتي بهم، وساهمت في تأييد الحركة بقوة. وزرت الخميني في باريس وطهران مرات عدة. وكانت نصائحي السياسية محل تقدير من المسؤولين. ولما قامت الحرب العراقية - الايرانية، وقفت الى جوار ايران، ودعوت بشدة الى ايقاف الحرب وكان لي مساهمة فعّالة في هذا المجال. ثم لما قامت حرب البوسنة، ايدت مسلميها بكل قوة. وهكذا كان معظم عملي ذا طابع سياسي دولي، وليس نشاطاً محلياً. فطبيعتي لم تقبل بأن ينحصر نشاطي في عمل بعض المراكز الاسلامية المحلية، على ما بينها من خلافات ومشاكل. أما عن ظهوري غير التقليدي على الساحة الاسلامية في سويسرا اخيراً فيرجع الى معطيات جديدة، اهمها كثرة المراكز الاسلامية مع صعوبة التعاون في ما بينها، ثم الحاجة الى مخاطبة السلطات السويسرية من منطلق جديد مع استثمار الاتصالات الجيدة مع القنوات المفتوحة والتعامل معها بأسلوب يراعي المنافع والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل. ولما تزايدت حاجة المسلمين الى التجمع، ألح علي الكثيرون ان اتقدم الى تجميع المراكز الاسلامية، وان افتح الحوار مع السلطات السويسرية لتمكين المسلمين من الحصول على حقوقهم المشروعة التي يكفلها لهم الدستور. هناك اخوة كثيرون افاضل لهم جهادهم الصامت والمعلن المشكور في العمل الاسلامي، وأسأل الله ان يجزيهم عليه خير الجزاء. وهم يتبعون الطرق التقليدية، وينشطون حسب امكاناتهم. والفرق بيني وبينهم هو في طريقة التفكير والتحليل والاتصالات والامكانات والتنفيذ. والقرآن الكريم يقول: "لينفق ذو سعة من سعته" الطلاق:7 فكلّ يعمل حسب طاقته. ولا يكلف الله نفساً الا وسعها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. الجالية العربية الاسلامية في سويسرا ما زالت ضعيفة، مشتتة، لا صوت لها ولا تأثير. فهل لديك برنامج محدد لتجميع جهود افراد هذه الجالية؟ - ثمة نشاط اسلامي واسع بين افراد الجالية الاسلامية في سويسرا. ولكنه نشاط تقليدي منحصر في مجال العبادة، يسعى الى فتح المراكز الاسلامية للصلاة وتعليم اللغة، ومن حين لآخر يقوم بدعوة محاضر لإلقاء محاضرة. هذا النشاط ضروري ومحمود من دون شك لأنه يحافظ على القاعدة من الضياع. وقد تكونت تجمعات طيبة عدة، منها المؤسسة الاسلامية في جنيف، ومركز زوريخ، واتحاد مسلمي زوريخ، ورابطة مسلمي سويسرا، ثم جمعية مسلمي سويسرا التي تكونت اخيرا. وهناك اتجاه لتجميع كل هذه المؤسسات في اتحاد واحد. والواقع ان العمل الاسلامي سيظل محدودا طالما انه لا يتفاعل مع المجتمع، ولا يتعامل مع الدولة. لا بد ان يخرج المسلمون من تقوقعهم، ولا بد ان ينفتحوا على المجتمع السويسري، ولا بد ان يتعاونوا مع وسائل الاعلام السويسرية التي ما زالت تنظر بصورة سلبية جداً الى الاسلام. خذ مثلاً ذلك الالباني الذي قتل مدرّس ابنته قبل مدة، فقد تكلموا عنه باعتباره مسلماً، مع انه كاثوليكي!! ومن ناحية اخرى فان ضلوع اعداد كبيرة ممن يُسمون باللاجئين العرب في تجارة المخدرات والجريمة، وإرهاق موارد الدولة في مساعدتهم، يُسيء الى سمعة المسلمين ككل. ولعلك تعلم ان كل سجين يُكلف الدولة مئتي فرنك سويسري يومياً، وهناك للأسف آلاف من دول الشرق الاوسط في السجون السويسرية. كما انه توجد شكوك كثيرة لدى الاوساط الأمنية بخصوص قضايا الارهاب والاغتيالات، وما زال بعضهم ينظر الى المسلمين من منظار الطابور الخامس أي المواطنين المزدوجي الولاء. ولهذا يجب ان نمدّ أيدينا الى الدولة ووسائل الاعلام والكنيسة والأحزاب السياسية، وان نخلق جواً متعاطفاً معنا، وان نقدم الاسلام كدين تسامح وتقدم، وان نبدد مخاوفهم من ناحية الجريمة والارهاب. فاذا اتفق المسلمون وتوحّدوا واختاروا من يمثلهم، فأنا في خدمتهم. فالمهم هو البرنامج والاتصالات والكفاءات وليس الأشخاص. البعض يرى ان الوجود الاسلامي في اوروبا هو وجود مؤقت لبعض العمال يزول مع زوال الحاجة اليهم، فما رأيك في وجهة النظر هذه؟ - أولاً: أود أن أقول إن الاسلام قديم في اوروبا عموما، وفي سويسرا بالذات. فلقد كان للاسلام حضارة عظيمة في اسبانيا استفاد منها العالم الغربي وتمثلت في عصر النهضة. ووجود المسلمين لم يكن محصورا في اسبانيا فحسب، بل امتد الى الريفييرا الفرنسية. ووصل المسلمون الى سانت تروبيز وأسسوا قاعدة للأسطول الاسلامي هناك. وكانوا موجودين في وادي الرون، وعن طريقه وصلوا الى سويسرا. وكانوا في ناربون وتولوز ومرسيليا وفي وسط فرنسا. وفي سويسرا كانوا يسيطرون على ممرات جبال الألب، وكانوا ولا زالوا يسمونهم "ساراسينرز" Sarazener. وهم الذين جلبوا كثيرا من المحاصيل الزراعية الى كانتون فاليس في جنوبسويسرا، وطوّروا وسائل الري الحديثة بمد الأنابيب الضخمة فوق الجبال لاستخدام مياه الثلوج في الري. وكانوا يسيطرون على مدن سويسرية مثل كور وسانت جالن ورومانس هورن. كما تواجدوا في جنيف وبازل ووادي اوسطا ايطاليا. وكانت لهم بعثات تجارية في جنوبالمانيا. هذا ما تذكره المصادر السويسرية. وبعد سقوط الأندلس ومحاكم التفتيش، اختفت هذه الأقليات في ظروف غامضة ومريبة. - ثانيا: لا تنسَ ان توحيد اوروبا تم على اثر حروب داخلية كثيرة، آخرها واخطرها الحربان العالميتان الاولى والثانية. وقد فقد ملايين من المسلمين المجندين في المستعمرات الفرنسية والانكليزية والروسية أرواحهم في جبال ووديان اوروبا، وساهموا بهذا - وبطريقة غير مباشرة - في توحيد اوروبا. - ثالثاً: بعد الحرب العالمية الثانية استحضرت اوروبا - التي كانت تعاني نقصاً بشرياً كبيراً - ملايين من العمال المسلمين ليعملوا في المناجم ومصانع السيارات والصناعات الثقيلة والمصانع الكيماوية الملوثة. وقد عمّروا اوروبا بعد الخراب. وازدهر الاقتصاد الاوروبي وارتفع مستوى المعيشة بفضل عرقهم وكدهم. وقد توالدوا وتكاثروا حتى صار عددهم يقدر بحوالى عشرين مليون مسلم في اوروبا الغربية بما في ذلك مسلمو البلقان، وحوالى أربعين مليوناً إذا اخذنا مسلمي روسيا في الاعتبار. فالوجود الاسلامي قديم في اوروبا، واصبح حقيقة واقعة. والمسلمون اصحاب حق في هذه البلاد لا يقل عن حق الآخرين فيها. وهذا ما حدا ببعض الدول مثل هولندا وبلجيكا الى الاعتراف بالاسلام. وتسير ألمانيا والنمسا وفرنسا في الاتجاه نفسه. والبقية تأتي إن شاء الله. ما سر تخوّف الكثير من القادة الاوروبيين من التواجد الاسلامي؟ - في الحقيقة هناك مجموعة من السياسيين الذين يريدون ارجاع عقارب الساعة الى الوراء، والاحتفاظ بأوروبا بيضاء نقية، مسيحية بروتستانتية ان أمكن. ويتناسى هؤلاء ان اكثر الشعوب الاوروبية الحالية هم حصيلة هجرات قبائل كثيرة مثل الكلت والقوط والوندال. ومن المثير للعجب ان احدى القنوات التلفزيونية الألمانية اذاعت برنامجاً ورد فيه ان ولاية بايرن الالمانية - وهي معقل الأصولية المسيحية في المانيا - هي اكثر جمهوريات المانيا تأثراً بالشرق الاوسط!! وان اصول سكانها تعود الى هجرات سورية وعراقية وأرمنية، بل ان رئيسها نفسه يرجع اسمه الى عائلة سورية. ويتناسى هؤلاء العنصريون ان التاريخ هو اساسا حركة دائمة للشعوب والأفكار عبر الحدود، وان الديانة المسيحية هي اصلا ديانة شرقية. هذا بالاضافة الى ان المسلمين يتناسلون بمعدل كبير، حوالى 5.2 في المئة، في حين ان غالبية الدول الاوروبية تتناقص، لأن نسبة المواليد لا تغطي الوفيات. واذا اخذنا في الاعتبار ان معدل الاعمار في روسيا انخفض من 75 سنة للنساء و73 سنة للرجال الى 60 سنة للنساء و58 سنة للرجال، وان سكان روسيا يتناقصون بمعدل مليون شخص سنويا، فبعملية حسابية بسيطة تجد انه بعد أربعين عاماً سيكون نصف سكان روسيا من المسلمين. وكذلك كل ثاني فرنسي سيكون مسلماً. باختصار: التحول الديموغرافي في صالح الأقلية الاسلامية، بل ومن المتوقع ان تزداد اعداد المسلمين بسرعة بسبب دخول كثير من الاوروبيين في الاسلام، نظراً إلى الخواء الروحي والقوى السلبية المسيطرة على المجتمع الاوروبي، خصوصاً ان الاسلام قادر على تقديم بديل حضاري لأوروبا. وهذا ما قاله مراد هوفمان في كتابه "الاسلام كبديل". ما هو مستقبل الاسلام في سويسرا وأوروبا؟ - مستقبل الاسلام في اوروبا مستقبل عظيم، إن شاء الله، اذا احسن المسلمون الاستفادة من وجودهم، والمحافظة على دينهم ونسلهم من الضياع، بالاضافة الى نموهم الطبيعي والتطور الديموغرافي الذي يميل الى مصلحتهم. لقد كان اكثر المسلمين في اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من العمال. وكانوا يعانون من مركبات النقص بسبب الفقر والجهل، وأيضاً بسبب عدم اتقانهم للغة الوطن الجديد. لكن الجيلين الثاني والثالث هما من مواليد اوروبا: يجيدون اللغة، وتجنّس كثيرون منهم بالجنسيات الاوروبية، وتعلموا وأصبح منهم المحامون والمهندسون والأطباء ورجال الاعمال وأصحاب البنوك. وصار الوضع مختلفاً للغاية. ولهذا يجب على الجاليات الاسلامية ان تطالب بحقها في الحياة، خصوصاً أنها ساهمت في خلق اوروبا الموحدة ورخائها. يجب الاعتراف بالجاليات الاسلامية، والاعتراف بالاسلام، ويجب بناء المدارس الاسلامية لتخريج الدعاة باللغات الاوروبية المختلفة. ثم يجب على المسلمين ان يلتحقوا بالأحزاب السياسية، وان يؤثروا ويساهموا في الحضارة الحديثة بطريقة ايجابية فعالة. ان توطين الاسلام في الغرب هو هدف اساسي يجب ان يتحول الى حقيقة واقعة ملموسة، وتطور لا يمكن الرجوع فيه. وفي الوقت نفسه يجب ان نحرص على تبديد مخاوف الغرب من ازدواجية الولاء. وهذه نقطة حسمها الاسلام: "وان استنصروكم في الدين فعليكم النصرُ الا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير" الانفال:72. يجب علينا ان نطور الاسلام الاوروبي - وهو اسلام لا يحرم حلالاً ولا يحلل حراماً - انما فقط اسلام يأخذ في الاعتبار فقه الأقليات، وفقه الأولويات. فاذا حافظنا على وجودنا فإن مستقبل الاسلام عظيم في هذه البلاد. وهو منهج الخلاص للحضارة الاوروبية التي عجزت عن حل مشاكل الانسان النفسية، وفشلت في تلبية حاجاته الروحية، مما حدا به الى ترك الدين جملة، او اللجوء الى البوذية وغيرها من المذاهب والنحل. ان اوروبا بحاجة الى الاسلام، والاسلام بحاجة الى اوروبا. وفي تزاوجهما خلاص الانسانية جمعاء، والله متم نوره ولو كره الكافرون.