عاد الوضع السياسي الداخلي في لبنان الى التأزم الشديد على جبهات عدة، بينها جبهة التضامن الحكومي، بعدما ساده توتر خلال الاسبوع الماضي، فبلغ ذروته اول من امس وامس اثر صدور بيان عن "مصادر وزارية" شنّ هجوماً عنيفاً على رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، متهماً اياه ب"السعي الى فصل المسارين اللبناني والسوري في مفاوضات السلام"، وبأن "مصالحه تقاطعت مع مصالح ضيقة تحقق غايات سعى اليها مرتكبو جريمة صيدا التي قُتل فيها اربعة قضاة الاسبوع الماضي" راجع ص4. واذ وجّه بيان "المصادر الوزارية" اتهامات خطيرة الى الحريري، وأكد ان "لا عودة له الى رئاسة الحكومة"، فإن رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص نفى علمه بصدوره. وفيما حرص على تأكيد ان لا علاقة للحكومة ككل به، فإن تصريحاً صدر عن وزير الاعلام أنور الخليل بعد ظهر امس قبيل سفره الى القاهرة، يخالف تصريح الحص قال فيه: "نقول ان هناك واقعاً رأيناه اليوم واطلعنا عليه وهو رد لما قرأناه ولمسناه من تحامل في غير مكانه على سدة الرئاسة الأولى من جهتهم، ومن جهة اخرى على رئيس مجلس الوزراء في شكل مباشر، واعتقد ان حق الردّ أمر واجب". الا ان اذاعة البيان ونشره في الصحف تسببا بردود فعل عدة، نيابية خصوصاً، أدت الى توقيع مجموعة من النواب أبرزهم اعضاء الكتلة النيابية التي يترأسها الحريري، سؤالاً الى الحكومة طلب الكشف عن الجهة التي تقف وراء البيان. وفي وقت طالب بعض النواب، مثل النائب نسيب لحود، بفتح تحقيق يحدد من قام بتوزيع البيان، فإن درجة التأزم التي بلغها الوضع السياسي طرحت السؤال هل بات يتطلب من دمشق، التي كانت آلت على نفسها الابتعاد عن الخلافات اللبنانية الداخلية، ان تتدخل لرأب الصدع ومحاولة ايجاد مخرج للتناقضات الكامنة التي بدأت تطفو على السطح وتصيب شظاياها الحد الادنى من التضامن السياسي الذي تنصح به سورية في هذه المرحلة نظراً الى توقعها ان يتسبب التهيؤ لاستئناف مفاوضات السلام بعد تشكيل زعيم حزب العمل في اسرائيل حكومته، ضغوطاً عليها وعلى لبنان. وكان سبق بيان "المصادر الوزارية" هذا سجال بين رئيس الحكومة السابق عمر كرامي والرئيس الحص، اذ اعتبر الاول ان لرئاسة الحكومة صلاحيات لا تمارسها وان هذه الصلاحيات خط أحمر وان ثمة معلومات تبلغ الى رئاسة الجمهورية لا تبلغ الى الحص، الذي اعتبر ان في ذلك "افتراء"، مؤكداً انه لن يقبل بايقاع الخلاف بينه وبين رئيس الجمهورية العماد أميل لحود. وسبقت ذلك مساع لمعالجة بعض أسباب التشنّج بين رئيس المجلس النيابي نبيه بري وكل من لحود والحص. وقالت مصادر مراقبة ان ما قصده الوزير الخليل بالتحامل على سدة الرئاسة هو كلام كرامي عن صلاحيات رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية". وبعد صدور بيان "المصادر الوزارية" اتصل الحريري بكرامي وقال له مازحاً: "انت تهجم ويأتي الردّ علينا". وعلمت "الحياة" ان مقرّبين من الحص اتصلوا بكرامي من اجل التوسط بينهما، فيما اتصل مقرّبون من لحود بكرامي للقائه ومحاولة توضيح الموقف امس. واستغرب كرامي الهجوم على الحريري في وقت يلوذ بالصمت". وفيما رفض الحريري الردّ امس وقبله على بيان المصادر الوزارية، معتبراً انه أمر مؤسف، فإن ردود الفعل الاخرى عليه طرحت السؤال عمن هي المصادر ما دام الحص نفى علمه به، خصوصاً ان "تلفزيون لبنان" الرسمي، أذاع النص الكامل للبيان في نشرته الثانية والنصف بعد ظهر امس، مع تحقيق مصور تناول كلاً من فقراته بعد نفي الحص علمه به وتأكيده ان لا علاقة للحكومة به. ثم عاد الحص وأعطى تعليمات بعدم تكرار بث البيان مساءً. وأحجم الرئيس الحص عن التعليق ل"الحياة" على تناقض موقف وزير الاعلام مع موقفه ونقل عنه زواره قوله بين الغصة والمزاح: "تحصل في أحسن العائلات". وعلمت "الحياة" ان الحص كان اتصل صباحاً بالوزير الخليل وسأله هل هو على علم بالبيان. فنفى ذلك، كما اتصل الحص بمدير الوكالة الوطنية للانباء خليل الخوري الذي أبلغ اليه "اننا سمعنا نصه في الاذاعات قبل ان يصلنا بالفاكس وان نشره تمّ لأننا عادة ننشر لمصادر وزارية". وبدا الحص متحفظاً، مؤكداً رفضه ما تضمنه البيان وقال ل"الحياة" رداً على سؤال عمن يتحمل مسؤولية صدوره في هذا الشكل بالقول: "أنا أتحمّل المسؤولية السياسية كرئيس للحكومة... وأنا لن أبرر البيان وصدوره وما تضمنه لاني سبق ان رفضته". وأشارت أوساط رسمية وسياسية الى ان مقربين من العهد كانوا وراء البيان وان اتصالات أجريت من اجل تفادي ان ينتقل التأزّم الى داخل السلطة التنفيذية بسبب ذلك. ورفض الحص الإجابة عن سؤال هل حصلت اتصالات بينه وبين لحود في شأن صدور البيان واذاعته، وقال لزواره: "لن أتحدث عما جرى من اتصالات داخلية أو أتناولها"، لكن مصادره كررت القول "ان كل ما يحصل يصب في خانة محاولات البعض تغيير الحكومة التي لم تتوقف منذ مجيئها، والتسبب بخلاف بين الحص ورئيس الجمهورية". واعتبرت ان المشكلة الناجمة عن صدور البيان وتناقض المواقف داخل الحكم في شأنه، يسعى العاملون الى التغيير الحكومي من اجل توظيفها لهذا الغرض، لكن الحكم ليس مع هذا التغيير. ووصفت موقف الرئيس كرامي بانه ظالم. وسُئل الحص كيف ستعالج التأزّم السياسي الكبير الناتج عن السجالات القائمة؟ أجاب "لننتظر ونرَ". وفسّر مراقبون ذلك بالقول ان الحص يتهيأ لموقف ما لكن اوساطه نفت اشاعات بقيت محدودة عن إمكان تقديمه استقالته. الا ان الحص كرر أمام زواره ما سبق ان قاله في احد خطبه ان "السياسي المحترف هو الذي يسعى الى الوصول الى كرسي الحكم ويسعى الى البقاء فيه ويسعى الى العودة اليه اذا تركه، وبهذا المعنى أنا لست سياسياً محترفاً". الا ان جهات رسمية دافعت عن كل ما جاء في بيان المصادر الوزارية انه "بات على الرئيس الحريري ان يعرف ان عودته الى رئاسة الحكومة، وان كانت غير واردة في الوقت الحاضر، لا تتم من خلال فرض أمر واقع سياسي يبرر العودة". واضافت "ان الحريري لا يتعامل مع الحكم والحكومة بايجابية". ولم تحدد ما تقصده بذلك سوى "تحميله مسؤولية حملات الانتقادات التي تعرّضت لها الحكومة في اليومين الاخيرين من جانب عدد من الصحف اللبنانية". واتهمت الحريري بانه "وراء تزايد حملات الحديث عن إمكان حصول تغيير حكومي لفرض حال انتقالية اخذت تعيشها البلاد وهذا ما انعكس جموداً على مجمل الاوضاع الاقتصادية والمعيشية. لذلك لا بد من شنّ هجوم لوضعه في موقع الدفاع عن النفس"، رافضة ما قيل عن ان "هناك تحاملاً في الحملة التي شنّت عليه". وتابعت "ان الحريري يحاول على رغم قرار الصمت الذي اتخذه، ان يوحي بأنه كل شيء في البلد، وكاد يطغى على رئيس الحكومة وهذا أمر مرفوض ولم يعد في وسعه سوى التزام التهدئة ووقف الحرب غير المباشرة التي يشنها عبر وسائل الاعلام".