لا يخلو خطاب للرئيس ياسر عرفات في المدة الأخيرة من الإشارة الى "الشرعية الدولية" والتشديد على ان ما يطلبه الفلسطينيون ليس إلا ما يستحقونه حسب "الشرعية الدولية". هذه الشرعية الدولية لا أجد تعريفاً أو تفصيلاً لها في أي شيء رسمي صدر عن السلطة الفلسطينية في المدة الأخيرة، ولا حتى منذ بداية كفاح الشعب الفلسطيني، اللهم إلا التسابق والمزايدة من جانب الزعماء العرب في القول بأن ليس لليهود حق في شبر واحد من أرض فلسطين وان اليهود الذين دخلوا فلسطين أثناء الانتداب البريطاني عليها يجب ان يعودوا الى حيث كانوا ويتركوا فلسطين برمتها لشعبها العربي الذي أقام فيها مئات السنين. قبل ان نبدأ في البحث عن معنى "الشرعية الدولية" تتوجب الإشارة الى ان جميع الاتفاقات التي كان الفلسطينيون طرفاً فيها - سواء مثلتهم "منظمة التحرير الفلسطينية" أو "السلطة الفلسطينية" أو هيئة فلسطينية بغض النظر عن تسميتها الرسمية وأي هيئة دولية أو حكومية أو رسمية - لا قيمة لها على الإطلاق من الناحية القانونية، سواء تم الاتفاق أو التوقيع في حفلات رسمية فخمة وفي حضور ممثلين عن أكبر دول العالم. أقول وأكرر بأن لا قيمة لهذه الاتفاقات على الإطلاق حسب القانون. والسبب في ذلك بسيط جداً: الاتفاقات الدولية والمعاهدات تتم وتعقد بين ما يصفه القانون بأشخاص دوليين لهم كيان يعتبره القانون كافياً لممارسة الحقوق والالتزام بالواجبات. والسلطة الفلسطينية مهما كانت التسمية أو اللقب الذي تتعاطاه لا تعتبر دولة ولا تملك حق عقد الاتفاقات أو المعاهدات أو الإفادة منها أو الالتزام بها. والاتفاقات التي تعقدها مع هيئات مثلها قد تكون لها قيمة أو فاعلية أدبية أو اخلاقية. اما من الناحية القانونية فالقيمة لاتفاقات مثل اوسلو أو "واي ريفر" هي صفر لا أكثر. ونضيف بين قوسين ان هذين الاتفاقين وغيرهما من الاتفاقات التي عقدتها السلطة الفلسطينية مع الجانب الاسرائيلي قد صاغها الجانب الاسرائيلي بلباقة حتى لا يمكّن الجانب الفلسطيني من ان يستفيد منها اذا دعت الحاجة - وعندي أمثلة على ذلك جمعتها عندما شاركت في مناقشات بين الحكومة الاسرائيلية والجانب الفلسطيني، وهذا موضوع آخر نعالجه في مناسبة أخرى. السؤال الآن: هل هناك "شرعية دولية" أخرى تتعلق بالقضية الفلسطينية؟ الجواب: نعم أولاً الشرعية الدولية التي تنادي بحقوق الانسان وبحق تقرير المصير والعيش بسلم وأمان. والشرعية الدولية الثانية تتعلق بامتلاك الأراضي والسيطرة عليها. ففي قديم الزمان كان القانون يسمح بالاستعمار ويعطي للدولة التي تسيطر على الأرض عن حق أو عن باطل في أي مكان في العالم - وبغض النظر عن هوية سكان هذه الأرض من الناحية العنصرية أو عن أي عداء ضد المستعمر أو كراهية له - حق السيادة من الناحية القانونية على الأرض التي تحتلها والحق الكامل بالتحكم بها وبسكانها. كان القانون في هذا الخصوص مبنياً على الواقع وعلى تبادل المصالح بين الدول الكبيرة المستعمرة وليس على أية اعتبارات انسانية من قريب أو بعيد. وبعد الحرب العالمية الأولى أعلن بعض الدول عن رغبته في التخلي عن بعض مستعمراته. فالأراضي التي احتلها الحلفاء من الامبراطورية العثمانية قالت بريطانيا وفرنسا انهما لا تريدان تملكها وانما تريدان تهيئة شعوب الامبراطورية للاستقلال في الوقت المناسب. من هذه البلدان كانت العراق وسورية ولبنان وفلسطين التي كانت تشمل شرقي الأردن. وأقامت عصبة الامم نظاماً جديداً سمي ب"الانتداب" وعينت بريطانيا وفرنسا وصياً على هذه البلدان نيابة عن عصبة الأمم، وفرضت بريطانيا وفرنسا واجب مساعدة سكان هذه البلدان في التقدم والتطور نحو الاستقلال التام والناجز، وتقديم تقارير مفصلة عن نشاطها في هذا الخصوص. ولكن السيادة الدولية من الناحية القانونية ظلت ملك عصبة الأمم والدول التي وضعت تحت الانتداب اعتبرت من الناحية القانونية "أمانة في عنق البشرية" وألزمت الدول صاحبة الانتداب بمراعاة مصالح الشعوب التي تحت وصايتها ومساعدتهم على التقدم والتطور نحو الاستقلال التام. وقبل مرور وقت طويل بعد نهاية الحرب العالمية الأولى أعطي العراق وسورية ولبنان الاستقلال. وبعد الحرب العالمية الثانية أعلنت بريطانيا عن رغبتها في التخلي عن الانتداب على شرق الأردن ومنحته الاستقلال. واحالت بريطانيا موضوع فلسطين برمته الى منظمة الاممالمتحدة التي اعتبرها الجميع الوريث الشرعي والوحيد لعصبة الامم والمسؤول عن الوصاية على فلسطين. والمشكلة في ما يتعلق بفلسطين كانت ذات طابع خاص، ذلك ان البلدان الأخرى في الشرق الأوسط كان من المفروض ان يُمنح شعوبها الاستقلال اذا ما تم نضوجهم وتقدمهم السياسي، بينما في ما يتعلق بفلسطين كانت بريطانيا قد أبرمت التزامات في شأن تشجيع الهجرة اليهودية الى البلاد الأمر الذي كثيراً ما كان يتعارض وبشكل واضح مع التزامات بريطانيا في ما يختص برفاه الشعب الفلسطيني العربي وحقوقه الانسانية بصورة عامة. وعندما تنازلت برىطانيا عن الانتداب على فلسطين وحوّلت الموضوع برمته الى منظمة الاممالمتحدة عقدت الاممالمتحدة عدة اجتماعات حول الموضوع واستمعت الى عشرات الخطابات من مختلف دول العالم وبخاصة من الساسة العرب. وفي النهاية أصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة القرار الرقم 181 الذي قسم البلاد الى ثلاثة أقسام واحد يهودي والثاني عربي والثالث قسم مستقل قائم بذاته Corpus Separatum لا يقع تحت سيطرة العرب أو اليهود، وهو مدينة القدس. كان قرار التقسيم والحق يقال قراراً موتوراً وظالماً اذ أعطى القسم الأكبر من أرض فلسطين الى الأقلية اليهودية وقطع وجزأ الأراضي التي يسكنها العرب. كان الاجحاف بحق الفلسطينيين والعرب واضحاً وشنيعاً، وكان الانحياز لمصلحة اليهود من دون حياء أو مراعاة لأبسط مبادئ الحق والعدل والإنصاف. وقد تكون هناك تفسيرات أو مبررات لذلك. اذ ان الغرب كان يشعر آنذاك بأن دولة أوروبية وهي المانيا قد ظلمت اليهود، أو ان هناك دولاً عربية واسعة يمكنها ان تستوعب العرب الذين اضطروا للخروج من فلسطين ظلماً وعدواناً. وبغض النظر عن وجه الحق والباطل من الناحية الاخلاقية في موضوع تقسيم فلسطين وتوزيع أراضيها بين العرب واليهود هناك نقطة مهمة جداً وهي ان منظمة الاممالمتحدة كانت تمارس صلاحيات لها عن طريق الجمعية العامة. هذه الصلاحيات لا يمكن الآن الطعن فيها، أللهم الا إذا تم اثبات ان ما فعلته الجمعية العامة في شأن فلسطين كان مناقضاً لميثاق الاممالمتحدة ذاتها، ولذلك يمكن اعتباره لاغياً وباطلاً. والطريقة الوحيدة للقيام بهذا العمل هي الحصول على طلب من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أو هيئة خاصة للامم المتحدة لاستشارة محكمة العدل الدولية في لاهاي. وهذه المحكمة، المؤلفة من خمسة عشر من القضاة الذين يمثلون النظم القانونية في مختلف أنحاء العالم، ستقول كلمتها في هذا الخصوص بعد ان تعلن استعدادها للاطلاع على رأي كل من تعتقد انه يهمه الأمر من حكومالات ومؤسسات علمية وأفراد خلال فترة محددة وبالطريقة وحسب الأصول المعترف بها. بعد ذلك تصدر المحكمة رأيها في موضوع التقسيم وفي أي اعتراض عليه أو تحفظ في شأنه ويكون هذا الرأي الكلمة النهائية في الموضوع برمته، ولا يمكن استئنافه أو تعديله من أية جهة أخرى ويجب الالتزام به بكل دقة من جميع الاطراف المعنية. المطلوب الآن اذاً هو ان تتقدم المجموعة العربية ومناصروها في الاممالمتحدة بطلب بمقتضى المادة 96 من ميثاق المنظمة الذي ينص على ان لأي من الجمعية العامة أو مجلس الأمن ان يطلب الى محكمة العدل الدولية افتاءه في أية مسألة قانونية، ان لسائر فروع المنظمة والوكالات المتخصصة المرتبطة بالجمعية العامة أو مجلس الأمن ممن يجوز ان تأذن لها الجمعية العامة بذلك في أي وقت ان تطلب ايضاً من المحكمة افتاءها، في ما يعرض عليها من المسائل القانونية الداخلة في نطاق اعمالها. ومثل هذه الأمور كثيرة ومن الضروري جداً ان تكون هذه المؤسسات الدولية على علم بالضبط بحدود الدولة الاسرائىلية التي قامت عام 1948 وكذلك بحدود الدولة الفلسطينية العربية. هناك نقطة مهمة الى حد ما وهي ان العرب جميعهم على أعلى المستويات وفي مختلف المناسبات وفي اشد اللهجات قد صرحوا بأن قرار التقسيم الذي صدر عن الجمعية العامة للامم المتحدة باطل من أساسه وان الدول العربية لا تقبل بهذا القرار اساساً للحقوق والواجبات في ما يختص بالقضية الفلسطينية. ولكن انكار العرب أو رفضهم لشرعية قرار التقسيم لا يقدم ولا يؤخر من الناحية القانونية في تقييم شرعية هذا القرار. مثل هذا المبدأ ينطبق على قرارات المحاكم. فإذا أصدرت محكمة قراراً في نزاع حول ملكية قطعة أرض واعطت الطرف الأول سبعين في المئة من الأرض والطرف الثاني ثلاثين في المئة يظل هذا القرار ذات مفعول وشرعية سواء قبل به الطرف الثاني أو لم يقبل. ورفض الطرف الثاني القرار لا يكون من الناحية القانونية اساساً للطرف الأول للحصول على الأرض بأكملها. بعبارة أخرى القانون في القضية الفلسطينية هو اساس الشرعية وتصرفات الدول العربية أو الهيئات الفلسطينية المختلفة في هذا المو ضوع لا يزيد في شرعية القرار ولا ينقص منها. وهناك نقاط قانونية عديدة يمكن الاعتماد عليها في دعم هذا الرأي. فقد اصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي في السنوات الأخيرة عدة قرارات وأجوبة على استفسارات حول شرعية نظام الانتداب وصلاحيات الدولة التي تتولى ادارة الانتداب وحقوق الشعب الذي خضع للانتداب. كان ذلك في قضية ناميبيا التي أكد قرار محكمة العدل الدولية ان الانتداب عليها ظل قائماً وشرعياً ولم ينتهِ الا باستقلال البلاد وحصول شعبها على حقوقه ومثل هذا الرأي لا يضر الفلسطينيين. إن حدود الدولة الاسرائيلية التي قامت في 15 ايار مايو 1948 هي حدود التقسيم فقط لا غير من الناحية القانونية. وهناك أدلة عديدة على ذلك نذكرها بالتفصيل في مناسبة أخرى إذ ورد ذكر هذه الحدود في الاجتماعات التي عقدها اليهود قبل الاعلان رسمياً عن قيام الدولة الاسرائيلية، كما ذكرت في خطابات عديدة للمسؤولين الاسرائيليين في منظمة الاممالمتحدة وفي بيانات الى عدد من الدول واهمها الولاياتالمتحدة الاميركية. وتكررت هذه العملية في شأن تعيين الحدود عام 1949 عندما جرى النقاش في الاممالمتحدة حول طلب اسرائيل العضوية في المنظمة. وكان المفهوم طيلة الوقت ان قبول اسرائيل في عضوية منظمة الاممالمتحدة الذي تقرر في 11 آيار مايو 1949 كان على اساس قبول اسرائيل بالحدود التي اعطيت لها في قرار التقسيم فقط لا غير. بقي ان نقول كلمة عن قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 242 الذي طالما ردده الساسة العرب واعتمدوا عليه. هذا القرار ليس اساساً للشرعية في ما يتعلق بموضوع حدود الدولة الاسرائيلية. القرار يطلب من اسرائيل ان تنسحب من بعض الأراضي. ولكن القرار لا ذكر فيه على الاطلاق لملكية الأرض ولا لمن هو صاحب السيادة عليها سواء من جانب اسرائيل أو من جانب العرب. ونحن لا ننكر طبعاً ان انسحاب اسرائيل من أي شبر من الأرض التي يملكها العرب شيء ايجابي وبداية حسنة. ولكن هذا لا يحل المشكلة. والمشكلة الآن هي تحديد معالم الدولة الفلسطينية على الأرض. ويتبع ذلك تحديد هوية الأشخاص الذين لهم الحق في ان يعتبروا مواطنين في هذه الدولة. * محام مرخص بالمرافعة في محاكم بريطانيا. استاذ القانون الدولي وعميد سابق لكلية الحقوق في معهد العلوم البوليتكنيك في لندن جامعة وستمنستر، مؤلف كتاب Palestine and The Law, Published by Ithaca Press, Reading, 1997.