لم تثر تلك الخطوة التي لا سابق لها، المتمثلة بترشيح عزمي بشارة لرئاسة حكومة اسرائيل، الكثير من النقاش في الأوساط السياسية الفلسطينية او العربية. كما لم يكن للترشيح حضور يذكر في سيل التقارير والتعليقات في الصحافة العربية عن المعركة الانتخابية الاسرائيلية. ورغم اعتبار الكثيرين من المثقفين، خصوصاً الفلسطينيين، ان الخطوة تمثل "حركة ذكية" من جانب بشارة، فالواضح انها لم تنجح في طرح نفسها على الوعي العربي كتحدٍ مهم للمعادلة الاسرائيلية الفلسطينية. لا بد ان هذا يعود، في جزء منه، الى افتقار العالم العربي الى المعرفة الكافية بحركيات المجتمع والنظام السياسي الاسرائيليين. الأهم من ذلك انه يعكس الاعتقاد الجازم لدى العرب بأن نظام اسرائيل لا يمكن ان يسمح لفلسطيني بأن يكون مرشحاً جدياً للمنصب السياسي الأهم فيها. لكن انعدام الاهتمام الواسع بتحرك بشارة يطرح أيضاً اعتبارات تتجاوز المنظور الفلسطيني والعربي لاسرائيل. من بين هذه أن ترشيح بشارة يأتي في أسوأ مرحلة من التشرذم في التاريخ الفلسطيني. ويجد ذلك تعبيراته على كثير من المستويات والاتجاهات، وليس فقط ما نراه يومياً من التمزيق الجغرافي المستمر لأرض فلسطين. انه تفكك الرؤيا الفلسطينية نفسها. ان عزمي بشارة، بالطبع، ليس مسؤولا عن وضع الانقسام الذي يعيشه الفلسطينيون بعد أوسلو، كما انه كان ولا يزال من أصلب المقاومين لمحاولات تدمير الهوية الفلسطينية الواحدة. مع ذلك يمكننا اعتباره، على اقل تقدير، من بين المسؤولين عن منطق التجزئة الذي يهدد وحدة الوعي الفلسطيني. من المعروف ان بشارة من ا لداعين الى اقامة "دولة لشعبين". واذا أمكن القول ان هذه الفكرة، على الصعيد النظري، لا تحمل بالضرورة خطر تفتيت الموقف الفلسطيني، فإن تكتيكاته على الصعيد العملي، خصوصاً في الآونة الأخيرة، لم تكن دوماً مؤاتية، بل ان قسماً منها ألحق ضرراً فعلياً بالوعي الفلسطيني بمعناه الموحد الأشمل، وبفكرة الهوية الفلسطينية. لا أحاول هنا ان اعترض مبدئياً على ترشيح بشارة لرئاسة حكومة اسرائيل. ولا جدال في الحاجة الماسة الى خطوة عملية تتحدى الجوهر الصهيوني الانعزالي لتلك الدولة. ان شعار "دولة لكل مواطنيها" هو بالتأكيد النقيض الأوضح للدولة الكولونيالية الحالية، القائمة على سلب سكان فلسطين الأصليين ارضهم وهويتهم. لكن المشكلة تكمن في التحولات السياسية الأخيرة التي قادت الى الترشيح، وأيضاً في الفشل في تشكيل تحالف واسع لفلسطينيي 1948. ان نجاح التحدي الذي تمثله خطوة بشارة يكمن في اطلاق موجة من التساؤل العميق في اسرائيل عن هويتها. كما ان على الخطوة ان تكون في الوقت نفسه جزءاً من عملية اعادة صياغة الوعي الفلسطيني المشترك. أي ان الترشيح يمثل مهمة تاريخية لا يمكن لفرد، مهما كانت مؤهلاته، القيام بها وحده. لكن يبدو ان هذا بالضبط هو ما لا يأخذه بشارة في الاعتبار. انه بالتأكيد يمثل جيلاً جديداً من المفكرين والقادة السياسيين، لكن يبدو انه يسقط في الفخ نفسه، فخ الفردية، الذي سقط فيه، جيلاً بعد جيل، معظم القادة العرب. اندفع بشارة نحو الترشيح من دون ان يضمن موقفاً موحداً من قاعدته الانتخابية الرئيسية، أي من فلسطينيي 1948. واذا كان هناك خلاف على مدى شعبيته فإن تحالفه مع احمد الطيبي، الذي كان الى عهد قربب عدوه السياسي الرئيسي، لا يشير الى ثقة كبيرة بالنفس، بل يعطي مؤشراً الى ان عزمي بشارة فشل في اقامة تحالف أوسع مع القوى السياسية الأخرى في صفوف فلسطينيي 1948. ان الطيبي، كما هو معروف، واحد من مستشاري ياسر عرفات، وهو من أشد المتحمسين لخط أوسلو، ولعب دوراً في التنسيق بين عرفات وحزب العمل الاسرائيلي. وكان بشارة الى عهد قريب يقدم نفسه على انه البديل لتلك القوى السائرة نحو الخضوع للمشروع الصهيوني وللبنى السياسية الناتجة عن أوسلو. وقد يكون تبرير التعاون مع الطيبي ان التحالفات قد تقوم على القواسم المشتركة الأدنى بين الأطراف ولا تعني بالضرورة تطابقاً تاماً في المواقف. لكن اذا كان بشارة استطاع العثور على قاسم مشترك مع تلك الشخصية التي كانت دوماً موضع عدائه، فلماذا لم يستطع الاتفاق مع قوى سياسية اخرى لها حضورها في صفوف فلسطينيي اسرائيل؟ لماذا واصل، هو ومساندوه، هجومهم القاسي على "حدش" الحزب الشيوعي الاسرائيلي وحلفائه، واتهامهم بالافلاس السياسي وتحاشي تحدي الكولونيالية الصهيونية؟ لقد قام "حدش" بمهمة تمثيل فلسطينيي اسرائيل خلال السنوات التي تلت 1948، تلك الفترة الحاسمة والمؤلمة من تاريخهم، عندما عانوا في الوقت نفسه من التهميش في وطنهم والعزلة عن العالم العربي. واذا كان "حدش" قاسياً أيضاً في الرد على المنتقدين، ألم يكن ممكناً على رغم ذلك التحالف معه مثلما هي الحال مع خصم لدود مثل الطيبي؟ هذا الفشل في تعبئة أوسع للتحالف يثير اسئلة اخرى عن الوضع الذي يقود اليه الترشيح. أكد عزمي بشارة مراراً ان الترشيح ضروري لوضع حقوق الأقلية الفلسطينية الاسرائيلية على الخارطة السياسية. وتتلخص استراتيجيته في انه سيحصل على ما يكفي من الأصوات في الجولة الانتخابية الأولى لدفع مرشح حزب العمل لرئاسة الحكومة الى صفقة لدعم موقفه في الجولة الثانية التوقع هو عدم حصول اي من المرشحين على انتصار حاسم في الجولة الأولى، وليس هناك احتمال تفاهم بين المرشح الفلسطيني ومرشح ليكود. وهكذا فإن الهدف هو استعمال أصوات الفلسطينيين للحصول على سياسات تخفف من التمييز الذي تعاني منه الأقلية. لكن ماذا ستكون قوة بشارة التفاوضية من دون دعم من تحالف فلسطيني واسع؟ ان غياب هذا التحالف هو أيضاً ما خفف حتى الآن من التأثير الممكن في المجتمع الاسرائيلي لترشيح شخصية فلسطينية لرئاسة حكومة اسرائيل. وتشير التقارير والتعليقات في الاعلام الاسرائيلي، خصوصاً من صحيفة "هآرتس"، عن ترشيح عزمي بشارة ومطالبه وشخصيته القوية الى ما يثيره الترشيح من اسئلة عن طبيعة اسرائيل وهوية مجتمعها. لكن ذلك يقتصر حتى الآن على بعض الأوساط الثقافية ويبقى ضمن حدود قضية الحقوق المدنية كما يراها المنظور الليبرالي. واذا كان علينا عدم التقليل من اهمية النقاش، فعلينا في الوقت نفسه عدم المبالغة في تقديره، لأن لا بد للحكم على ترشيح بشارة ان يقوم في شكل رئيسي على نجاحه في اطلاق عملية تغيير حقيقية. السؤال المهم الآخر هو: كيف يمكن لفلسطيني من دون قاعدة شعبية متماسكة ان يساهم من خلال التفاوض مع رئيس وزراء اسرائيلي محتمل ان يساهم في الهدف الأوسع، أي الحصول على الحقوق الوطنية للفلسطينيين؟ كان ايهود باراك، زعيم حزب العمل ومرشحه لرئاسة الحكومة، اعلن بالفعل معارضته حق الفلسطينيين في تقرير المصير عندما هاجم التأكيدات الأميركية الخجولة اخيراً على حق الفلسطينيين في الحياة الحرة. هل يستطيع بشارة فعلاً التأثير في مواقف كهذه من خلال التفاوض، ام ان هل عليه في النهاية تأييد مرشح العمل مهما كان موقفه من حق الفلسطينيين في تقرير المصير؟ من المؤكد ان هذه الشكوك تقوي مخاوف كثير من الفلسطينيين من ان دعوة فلسطينيي اسرائيل ل "دولة لشعبين" تقتصر على مشاكل فلسطينيي 1948 ولا علاقة لها بالقضية الأوسع، قضية الحقوق الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربيةوغزة. يعكس هذا التفكك فشل القادة الفلسطينيين، ومن ضمنهم بشارة، في الامساك بعلاقة واضحة بين التطلع الفلسطيني المباشر، خصوصاً في الضفة الغربيةوغزة، الى انهاء الاحتلال الاسرائيلي، والتطلعات على المدى البعيد. النتيجة هي ما شهدناه في الشهور الاخيرة من تشرذم تطلعات الفلسطينيين وتفكك برنامجهم الوطني. ففي الوقت الذي يواصل بشارة حملته يتزايد تركيز الفلسطينيين في غزةوالضفة الغربية على مأزقهم الملح الحالي، وهو كيفية التعامل مع انتهاء الاتفاقات المرحلة الانتقالية. ولم يجد الكثيرون، في غمرة الأحداث في الضفة والقطاع، مجالاً لإعادة طرح فكرة "دولة واحدة لشعبين"، أو البحث عن صيغة لربط صراع الاقلية الفلسطينية في اسرائيل بالصراع الأشمل من أجل الحقوق الوطنية الفلسطينية. خلال ذلك يجد فلسطينيو الشتات أنفسهم أبعد ما يكونون عن وحدة المنظور. ولا شك ان منطق التجزئة الحالي سيفاقم من هذا الوضع ويعمق تباين المواقف. ليس لنا، بالطبع، ان ننلوم بشارة على كل هذا. لكنه كان يمثل أملاً بطراز جديد من القادة، ومن المقلق ان نراه، على ما يبدو، يسقط في الافخاخ المعهودة، افخاخ الفردية والانسياق وراء المنفعة السياسية المباشرة على حساب استراتيجية شاملة طويلة الأمد. * كاتبة سياسية فلسطينية.