ظاهرة الهجرات البشرية ظاهرة طبيعية في تطور المجتمعات منذ فجر التاريخ، وقد ساعدت في انخراط الشعوب وانصهارها وتفاعلها، وأدت إلى حروب ومآسي في بعض الأحيان، لكنها أدت أيضاً إلى انشاء بلدان وحضارات. ويعتبر بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع ان الإنسان مترحل بطبعه وان هذا الترحال يصبغ الإنسان بطابع الشمولية. موجات الهجرة 1- الموجة الأولى كانت تتألف من البعثات والمفكرين والطلاب المتفوقين في مدارس الارساليات، جاؤوا إلى أوروبا بهدف العودة إلى بلادهم وحملوا من الفكر الأوروبي ما يساعدهم على طموحاتهم الفكرية والسياسية. ولم يكن همهم النظر إلى أوروبا بصفتها مجتمعات لها مصالحها الخاصة ولها أيضاً منطقها الفكري والسياسي، فعادوا إلى بلدانهم مشبعين بروح الاصلاح وحركة التطور، وساهموا بحركة النهضة العربية ومن ثم بتأسيس الأحزاب العربية واصطدموا بالذين لم يروا من الفكر الأوروبي غير أثره على العالم العربي والإسلامي. ومن هذا التصادم نشأت مقولة الحداثة التي لم تنته بعد. 2- الموجة الثانية من الهجرات كانت موجة اقتصادية إثر الحرب العالمية الثانية بسبب حاجة الآلة الاقتصادية في أوروبا ليد عاملة رخيصة. وبعكس الهجرة الاقتصادية في بداية القرن التي ذهبت إلى أميركا وأميركا اللاتينية للاستقرار، فإن الهجرة الاقتصادية إلى أوروبا كانت أغلبها من بلدان المغرب العربي، قضت عمرها في بناء المصانع والقطارات والسيارات وشاركت في النقابات وظل همها العودة إلى بلدانها للراحة وقضاء الشيخوخة وترفض الانخراط في المجتمعات الأوروبية والتأثير فيها على الرغم من مساهمتها في حروب الاستقلال. وقامت بدور ملحوظ في إنعاش اقتصاد بلدانها، ما زالت تعتبره تلك البلدان المهمة الرئيسية للمهاجرين، إن لم تكن المهمة الوحيدة. وإلى جانب هذه الهجرة الاقتصادية العمالية حدثت هجرة اقتصادية نخبوية قوامها المتمولون والتجار والكادرات المصرفية، وقامت بدور الوسيط بين بلدانها والدول الأوروبية. غير أن طموحاتها السياسية كانت معدومة، فلم تكن محتاجة للتقرب من الكثافة العمالية المهاجرة وحرصت أن تنأى بنفسها عن المشاكل. 3- الموجة الثالثة هي التي بدأت منذ نهاية السبعينات وتتميز بأنها مستقرة في المجتمعات الأوروبية أي أنها على خلاف المراحل الماضية، أصبحت جزء أساسياً من المشكلات الكبيرة في المجتمعات الأوروبية وتستدعي حلولاً اقتصادية واجتماعية وثقافية على عدة مستويات. وتشمل هذه الهجرة فروعاً مختلفة من المهاجرين: أ - العاملون الذين قضوا عمرهم في العمل وأصبحوا يفضلون قضاء الشيخوخة في البلدان الأوروبية بعد أن صعبت الأحوال في بلدانهم الأصلية وبعد ان أخذوا يجرون عائلاتهم إلى بلدان الإقامة. ب - عائلات المهاجرين والأولاد الذين ولدوا في بلدان الاقامة. ج - الطلاب الذين جاؤوا إلى البلدان الأوروبية لتحصيل العلم ولم يعودوا بسبب عدم وفرة العمل في بلدانهم الأصلية. د - المتمولون الجدد. ه - شباب العاطلين عن العمل في البلدان العربية والهاربون من الحروب والأزمات الاقتصادية. صعوبات الاندماج يبلغ تعداد هؤلاء المهاجرين في أوروبا بين 25-30 مليون نسمة، منهم حوالى 10 ملايين يحملون الجنسية الأوروبية، و10 ملايين يحملون أوراق الإقامة وهم بذلك مرشحون لحمل الجنسية، والباقي يوجدون في أوروبا بصفة غير قانونية، وهم يتوزعون على البلدان التالية: فرنسا، ايطاليا، بريطانيا، المانيا. بلجيكا، هولندا، السويد، النروج وسويسرا. ومن المرجح أن يبلغ عدد المهاجرين في هذه البلدان حوالى 100 مليون نسمة عام 2010 وذلك نظراً إلى ضعف الولادة وزيادة الشيخوخة في هذه المجتمعات، وأيضاً بسبب توقعات إعادة النهوض الاقتصادي والحاجة إلى اليد العاملة. لذا، فإن مشكلة ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية لا يطرحها إلا بعض المنظمات العنصرية الصغيرة والشعبوية، أما الأحزاب الأخرى من اليمين واليسار، أي احزاب الجمهورية، فإنها تطرح مشكلة حل مسألة المهاجرين باندماجهم في المجتمعات التي يقيمون فيها، لكن الاندماج دونه صعوبات متعددة الأوجه والجوانب: 1- لقد اندمج مهاجروا أوروبا الجنوبية إلى أوروبا الغربية في مجتمعات الإقامة والعمل دون صعوبات جمة، لأن أوروبا الغربية لم تكن تعاني وقتها من أزمات اقتصادية واجتماعية. وكانت وفرة فرص العمل تتقدم لمن يطلبها بسهولة وهذا حجر الأساس في مجتمعات تقوم كل ثقافتها وإدارتها وقيمها على العمل ما يعني: أ - ان وجود فرص العمل يؤدي إلى انخراط المهاجرين بين المواطنين وتوزيعهم على كل المناطق والحصول على مسكن لائق والتمتع بكل حقوق المواطنية من تعليم جيد وطبابة عالية وخدمات اجتماعية، مقابل اقتطاع نسبة من أجورهم ومشاركتهم في المدفوعات. بينما تقلص فرص العمل أدى إلى انعزال المهاجرين العرب في أحياء خاصة غيتوات معزولة. وأدى إلى تكديسهم في تجمعات سكنية تنعدم فيها الظروف الصحية وأدى أيضاً إلى خفض مستوى تعليم أولادهم في مدارس أحيائهم السكنية بسبب الظروف التي يعاني منها الأهل وأدى أيضاً وأيضاً إلى عجز كبير في ميزانية صناديق الضمانات الاجتماعية والصحية التي تتولى مهامها في هذه المناطق. ونتيجة لهذه الحالة، فإن العاطلين عن العمل ينجبون بدورهم عاطلين عن العمل من شباب تتفشى في صفوفهم موبقات السرقة والتهريب، وتترسخ فيهم أفكار التهميش والتمرد. إن هذا التهميش يقض مضاجع التوازن الاجتماعي في الجمهورية ويفكك أهم آليات مرتكزات المجتمعات الأوروبية: العمل، المدرسة، خضوع الفرد لقوانين الدولة، الأمن الداخلي والرعاية الاجتماعية، المشاركة في الحياة السياسية... وهذه المسائل الكبيرة تشغل اهتمام المفكرين الاجتماعيين والمثقفين ورجال الدولة والأحزاب ليس فقط بهدف ايجاد مخرج لقضية المهاجرين، بل وبالدرجة الأولى لدرء الأخطار عن المجتمعات الأوروبية وإعادة التماسك لآليات مقوماتها. الاختلاف الديني والثقافي المشكلة الأخرى التي تعيق الاندماج مقارنة مع مهاجري أوروبا الجنوبية هي الاختلاف الديني والثقافي بين المهاجرين العرب وبلدان إقامة الهجرة. فهذه البلدان ليست مهيأة لرعاية الشؤون الدينية والثقافية المختلفة عن ديانة مواطنيها بسبب طبيعة قوانينها المدنية العلمانية التي تترك تلك الشؤون لحرية معتقد الفرد ما يعني أن تلك الشؤون تتولاها الكنيسة والجمعيات التي تشكل سلطة قوية تحسب حسابها السلطة السياسية وترعاها في قوانينها حق إنشاء مدارس خاصة، اعفاءات من الضرائب، تسهيلات مختلفة...، فضلاً عن ذلك، فإن هذه القوانين نشأت في تاريخ من المساومات بين السلطة المدنية والسلطة الدينية الكنسية واليهودية في ما بعد، بينما كان هذا التاريخ نفسه تاريخاً عدائياً تجاه الديانات والثقافات الأخرى ما زالت آثاره متوارثة ومعمولاً بها. وقد استطاع اليهود أن يقلبوا هذه الآثار لمصلحتهم بعد معارك سياسية وقانونية مضنية، بينما لم يهتم المسلمون بهذا الأمر، والنتيجة اليوم هي ان التعريض باليهود أو بذكرهم دون مديح، يلقى جزاء المحاكمة بتهمة جريمة العداء للسامية، بينما التعريض بالدين الإسلامي يعتبر شكلاً من حرية التعبير. وينعكس ذلك في الحياة اليومية والسياسية والإعلام... وقد وصل الأمر بوزير الداخلية السابق ميشال دوبريه أن يقول إن من حق الشرطة أن تتحقق من هوية أي إنسان يحمل في المرافق العامة صحيفة عربية أو كتاباً عربياً. ففي هذه الظروف، فإن الاندماج يعني الذوبان أو الانصهار وفقدان هوية وثقافة لم يعد للمهاجرين غيرهما سبيل للمحافظة على وجودهم. وهذا الحقل يشغل المفكرين والمثقفين في محاولة للمقاربة بين القيم الجمهورية والقيم الإنسانية الأخرى. وتختلف هذه المقاربة من بلد إلى آخر حسب التراث التاريخي لكل بلد من البلدان الأوروبية. ففرنسا، على سبيل المثال، أكثر تمسكاً من الدول الأخرى بمركزية الدولة ودورها في تعميم القيم نتيجة تاريخها اليعقوبي الذي يرفض حق التمييز ويخاف من التعددية الثقافية. الارتباط بالبلد الأصلي والمشكلة الأخيرة التي تعيق اندماج المهاجرين هي مسألة الارتباط بين المهاجرين وبلدانهم الأصلية من جهة، والتاريخ السياسي بين أوروبا وتلك البلدان من جهة أخرى. فالبلدان المصدرة للهجرة كانت مستعمرة من البلدان الأوروبية ونشأ بينهما تاريخ طويل من الصراع والحروب ما زال يجر أذياله حتى اليوم. وتعاني تلك البلدان من أزمات وصراعات داخلية ليست الدول الأوروبية بعيدة عن التدخل فيها. وقد أصبحت اليوم هذه البلدان على مقربة من الحدود الأوروبية الموحدة، لكن أوروبا لم تزل بعيدة عن انجاز الوحدة السياسية والاجتماعية على الرغم من انجاز الوحدة الاقتصادية، وهذا ما يجعل الدول الأوروبية متأرجحة بين تاريخها وبين مستقبلها، وتتخبط في السياسة وراء دورها الخاص ومصالحها من جهة، ووراء الحلف الأطلسي والسياسة الأميركية من جهة أخرى. وفي هذا الضياع والتخبط يعتبر المهاجرون ان العدائية التي تشارك فيها أوروبا أو تسكت عنها أحياناً تجاه بلدانهم الأصلية إنما هي عدائية تجاههم أيضاً وتحول دون اندماجهم في مجتمعات لا تكن لهم إلا العداء. لكن على الرغم من هذه المشاكل المستعصية، فإن مسألة الهجرة أصبحت بين أولويات القضايا المطروحة على أوروبا الموحدة، باعتبارها مأزقاً يمكن أن يستفحل إذا لم يجد طريقه إلى الحل. وباعتبار ان أوروبا لا يمكن أن تتوحد إذا لم توحد قوانينها وقضاءها وسياستها الاجتماعية واحترام مواطنيها والمقيمين على أرضها. وهذه الورشة من العمل أخذت تحظى بأهمية أكبر إثر انجاز الوحدة الاقتصادية وتوحيد العملة، وبدأت تخط طريقها في اتفاقيات خاصة مثل اتفاقية امستردام التي دخلت حيز التنفيذ في نهاية هذه السنة. وهذه الورشة تشغل اهتمام المفكرين والمثقفين والسياسيين ضمن إطار مساهمتهم في البحث عن مستقبل أوروبا. ومن جهتهم، فإن المهاجرين بدأوا يفرزون طاقات متعلمة تحتل بعض المواقع المتوسطة في البلديات والأحزاب السياسية والمرافق العامة. ويحاولون أن يدلوا بدلوهم عن طريق جمعيات تهتم بهذا الشأن. لكن الطريق ما زال طويلاً وشاقاً أمامهم. إذ أن الأغلبية الساحقة من المهاجرين تعاني من ظروف البؤس والاعتياش على المساعدات الاجتماعية وفشل الأولاد في حقل التعليم والإعداد لوظائف العمل. والأسوأ من ذلك، فإن المهاجرين يعوزهم التنظيم والمشاركة في الحياة العامة. واستيعاب المنطق الداخلي في المجتمعات الأوروبية، أي: 1- تشكيل ثقل سياسي عن طريق المشاركة بالاقتراع لكي يتنازع السياسيون أصواتهم وتلبية مطالبهم على غرار بقية المواطنين. 2- تشكيل هيئة قوية قادرة أن تفاوض باسمهم وتقدم حلولاً لمشاكلهم. 3- العمل على تطوير القوانين المتعلقة بهم من ضمن تطوير القوانين العامة. وهذا يقتضي عملاً تثقيفياً وإعلامياً يركز على ما يلي: 1- فتح باب النقاش في إمكانية تطوير دور الهجرة وإخراجها من الصراع الأبدي بين الشرق والغرب. 2- النظر إلى مسألة الهجرة باعتبارها جزءاً أساسياً من أوروبا الموحدة يمكنها أن تلعب دوراً كبيراً في السياسة الداخلية والسياسية الأوروبية تجاه بلدانها الأصلية. 3- القيام بإجراء تحقيقات صحافية في المدن والدول التي يعيش فيها المهاجرون. 4- فتح باب النقاش بين الجمعيات التي تعنى بشؤون المهاجرين. 5- استعراض قوانين سياسة الاندماج والصراعات الناشئة بصددها. 6- محاورة المفكرين والمثقفين الأوروبيين الذين يهتمون بمسألة الهجرة. 7- محاورة الكتّاب والمفكرين الذين نشأوا من الهجرة واستعراض أعمالهم وأفكارهم. 8- محاورة المحامين وخبراء القانون في إمكانية تطوير القوانين الأوروبية والصعوبات التي تعيقها. 9- مشاركة بعض الجمعيات في نشر تجاربها. 10- محاورة السياسيين الأوروبيين بشأن آرائهم في خططهم السياسية. * صحافي لبناني مقيم في باريس.