ينتشر في اسبانيا الكثير من الكتب في طبعات صغيرة الحجم، الى درجة ان المكتبات لا تجد مكاناً لعرضها ولا تخزينها، لذلك فان عمر هذه الكتب محدود الزمن. ولا يصبح أمام الكتاب الا القليل من الزمن ليعيش على أرفف تلك المكتبات اذا استطاع ان يدخل في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، والا فمحكوم عليه بالاختفاء مع آلاف الكتب التي لا يتخطى عمرها الطبعة الأولى. وتلعب الصدفة احياناً، أو الأحاديث بين الأصدقاء، وبشكل خاص النقد، في اطالة عمر بعض الكتب، الا ان الاعلان يعتبر الطريقة الأكيدة في انتشار الكتاب، لكن هذا في العادة يتم بالنسبة الى الكتب التي يضعها مؤلفون معروفون مسبقاً، او الجوائز الأدبية التي تعتبر نوعاً من الاستثمار ذي العائد المضمون. هنا يمكن الحديث عن نوعين من النقد: من ناحية اولى هناك النقد المرتبط بالقراءة او بتاريخ الأدب الذي يجد مكانه عادة في المجلات الأدبية المتخصصة التي تتوجه الى جمهور اكاديمي، والقليل من هذا النوع من النقد يجد مكاناً له في مطبوعة واسعة الانتشار كالصحف. ومن ناحية اخرى، هناك النقد الذي يقّوم العمل الابداعي، ويجد طريقه للنشر في الصحف اليومية. وما بين هذا النوع وذاك مساحة صغيرة تتمثل في المجلات الأدبية شبه المتخصصة، مثل "ماذا تقرأ" أو "لاتيرال" اللتين تقتربان من النشر الواسع وتقدمان عادة عروضاً للجديد من الكتب المنشورة، الى جانب مقالات نقدية تحليلية. عروض الكتب تعتبر أفضل طرق تقديم الكتاب الى القارئ، وبشكل خاص العروض التي تنشرها ملاحق الصحف اليومية مثل "بابيليا" التي تصدر مع صحيفة "الباييس" وتعبر عن صوت وسط اليسار او الملحق الثقافي الذي يصدر مع عدد يوم الجمعة لصحيفة "أ. ب. ث" اليمينية. والمثير حقاً ان هذا الملحق، على رغم يمينيته، يكتب فيه كتاب معروفون ينتمون الى اتجاهات عدة، ويتناولون كتباً تصدر عن مختلف دور النشر. بالطبع مع استثناء الكتب الصادرة عن دور نشر صغيرة محدودة، لأن مثل هذه الكتب لا تجد لها مكاناً في تلك المساحة، ذلك ان الكتابة عن الكتب الصادرة حديثاً مرتبطة بالاعلان عنها في تلك الصحف، ودور النشر الصغيرة لا تملك المال الكافي، لهذا فان قوة الدار تلعب دوراً في مدى انتشار كتاب أو آخر بغض النظر عن قيمته، لأن عرض الكتاب يدخل في لعبة المال الناتج عن الاعلان في تلك الصحيفة. وهذا يمكن ان يؤثر في توجه القارئ في شراء ما يرغب في قراءته، لأنه يشتري تحت تأثير ما يكتبه النقاد في تلك الصحف. لذلك فان نجاح بعض دور النشر يعود الى ارتباطها بمؤسسات نشر تملك صحفاً يومية، كما هي الحال بالنسبة الى دار نشر "الفاغوارا" ما يجعل الاعلان عن كتبها يظهر بشكل مكثف. عملية النشر، وبالتالي الشهرة تتركز حول الرواية كنوع ادبي مطلوب وله قراؤه، والقليل من كتب النقد النظري يمكنه ان يحظى باهتمام دور النشر مثل ما تحظى به الرواية. اما الكتابة المسرحية فهي مرتبطة بعرضها على خشبة المسرح، ولها مكانها في التبويب الصحافي، ونقدها مرتبط بالعرض وله علاقة بعمليات الاخراج المسرحي والموسيقي وغيرها من الأدوات التي يستخدمها المسرح في العرض. اما الشعر فهو أكثر انواع الأدب هامشية في عمليات النشر على رغم نجاح العديد من الكتب الصغيرة الحجم والرخيصة الثمن التي تجد طريقها الى القارئ، لأنها تجد لها مكاناً في الملحق الأدبي الأسبوعي لصحيفة "أ. ب. ث" الذي يعمل فيه ناقد خاص بالشعر. والنقد يتعامل مع هذه النوعية من الكتب بشكل خاص، والاهتمام يزداد اذا كان مؤلف العمل شاعراً معروفاً في وسائل الاعلام العامة، كما حدث اخيراً مع كتاب "كراسة نيويورك" للشاعر خوسيه ييرو، اذ بدأ الناقد ميغيل غارثيا بوسادا مقاله في ملحق "الباييس" يوم 16 ايار مايو الماضي. وبالاشارة الى الكتب المتعددة التي نشرها الشاعر قبل ذلك ليقدمه ككاتب له انتاجه الابداعي، أي ان هذا العمل ليس الأول من نوعه للشاعر. وفعل هذا ايضاً فيكتور غارثيا دي لاكونتشا عند تقديمه للشاعر خوسيه ييرو، فقال: "نحن هنا أمام كتاب من كتب الشعر الكبرى، لأن أعمال خوسيه ييرو الكاملة تعتبر انجازاً مهماً في مجموع الشعر الغنائي الاسباني". النقد في الوقت الحالي قد يكون مجمعاً على أهمية هذا الكتاب الجديد للشاعر خوسيه ييرو ما يدفع القارئ الى التفكير في أنه سوف يشتري كتاباً يعتبر جزءاً من الذاكرة الابداعية لاسبانيا. موضوعية النقد مشكوك فيها في بعض الأحيان، مثلاً رواية "كوميديا خفيفة" الأخيرة للكاتب ادواردو ميندوثا تم عرضها بشكل مثير من جانب عدد من النقاد الأذكياء المعروفين. وكان النقد الايجابي، الى جانب شهرة الكاتب، سبباً في انتشار ونجاح هذه الرواية، ليس في اسبانيا فقط بل في عدد من الدول الأوروبية الاخرى مثل فرنسا. ولكن علينا ان ننتظر موقف الزمن من هذه الرواية، والذي سوف يكشف لنا حتماً عن انها رواية متوسطة القيمة وليست من أعمال الكاتب ذات القيمة الأدبية الكبيرة. ونعتمد في ابداء رأينا هذا على نظرة متعمقة الى الرواية، فنكتشف مدى فقر لغتها، فالكاتب يكرر استخدام افعال معينة تفتقد الى الجمالية، والشخصيات باهتة متصلبة تفتقد الى الحركة، والمناخ العام غير مترابط ما يجعل الرواية أقرب الى الأعمال الدعائية. ويبدو الكاتب واعياً بمناطق الضعف في روايته، ومع ذلك يظل سائراً في طريقه من دون ان يحاول ان يكثفها لينطلق بها في عالمه الروائي المعروف. ترى هل هذا خطأ من جانب الناقد الذي لم يكتشف هذه المناطق؟ ام انها مصالح مرتبطة بدار النشر؟ ام انه تأثير شهرة الكاتب على النقاد الذين عرضوا لروايته؟ ان قراءة رؤية نقاد عدة الى عمل روائي واحد اعتبر من أفضل الأعمال التي أثارت الاهتمام خلال الفترة الأخيرة، وهي رواية "الظهر الأسود للزمن" للروائي المعروف خافيير مارياس، تثير لدى القارئ نوعاً من النقد تجاه النقاد انفسهم. فنجد الناقد الجاد ريكاردو سينابري المشهور عنه معرفته الواسعة باللغة الاسبانية يشير الى مدى صعوبة تصنيف هذا العمل على انه رواية، فيقول: "هذه ليست رواية، إلا اذا طبقنا عليها معنى موسعاً لما تعنيه ككلمة رواية، لكن هذا العمل يتضمن صفحات تعكس قصاً روائياً وحدثاً محدداً وشخصيات. وهذا العمل ليس نوعاً من أنواع الدراسات، على رغم انه يتضمن ما يربطه بهذه النوعية من الكتب، لأنه يتضمن اشارات ومراجع". ويحكم في النهاية على عمل الكاتب بقوله: "يجب الاعتراف بمدى قدرة المؤلف على كتابة كتاب مثل هذا، وان كانت النتيجة جاءت بأقل مما كان يطمح اليه الكاتب". التحليل الذي توصل اليه الناقد حول هذا العمل ينتهي به في النهاية للاشارة الى ان النتيجة "محيرة ولا توصل خطاباً محدداً" وفي آخر مقطع من مقاله يلخص الناقد رؤيته الى هذه الرواية المنتحلة فيقول: "التردد التعبيري يمزق قصة مكتوبة جيداً ولكنها تفتقد الى التواصل، ولا تهم احداً غير الكاتب والمدافعين عنه، فلا زالت ظلال روايته "كل الأرواح" تلقي بنفسها على صفحات عدة من العمل الذي بين ايدينا". وفي 16 أيار مايو الماضي كتب الناقد اجناثيو اتشيفاريا ما يمكن اعتباره حكماً نهائياً على تلك الرواية التي وصفها بأنها "حكاية رواية": "تحدّ شخصي، وصعلكة روائية، وألاعيب ادبية، ومراجعات نقدية، ونرجسية شخصية، ونوع من تصفية الحسابات المريرة". وأشار في مقاله الى ثرفانتيس وستيرن كسابقين على المؤلف في هذه النوعية من الكتابة، ولكنهما متقدمان عنه بمئات السنين الضوئية، وقال: "مارياس يعود من جديد الى أفكاره الخاصة المتسلطة على عقله، ويحاول خلق موازاة لكتب يشير اليها في كتاباته، منها كتابات سابقة عليه، بعضها روايات وبعضها الآخر عبارة عن دراسات، وذلك للتأكيد على خطاب مرتبك، ويؤكد على خاصية طريقته في الكتابة". بل يتخلى الناقد عن رأيه في الكاتب بقوله: "ان الكاتب هنا ليس سوى مرآة". وهنا يؤكد الناقد على نرجسية المؤلف وهو أمر يمكننا ان نستطلعه من خلال قراءة النقد الذي يعرض لرواية الكاتب، لأن الناقد يرى "انها مرآة تبدو فيها الشخصيات شبحية، ومليئة بمساحات من الضوء والظلال غير معبرة بشكل دائم، وخلالها يمكن رؤية الوجه الهارب للكاتب، ما يجعلنا نؤكد انه نفسه يتحول الى رواية". انهما ناقدان معروفان مجبران على تناول عمل روائي ليست له صلة بالرواية، ولكنهما يتناولانه بسبب التزامهما بممارسة النقد الأدبي، ولأن المؤلف احد أفضل الأصوات في المشهد الأدبي المعاصر ليس في اسبانيا فقط بل في اوروبا كلها. وبحث الناقدان في هذا الكتاب الجديد عن عمل مختلف كان يمكن ان يفتح لنا المجال لرؤية نوع أدبي جديد، لكن يبدو ان الكاتب خدع النقاد وخدع نفسه. هناك بالطبع أعمال مهمة ظلت في الظل لأنها صدرت عن دور نشر صغيرة لا تملك القوة التي تدفع بنقاد معروفين للكتابة عنها، سواء بسبب مصالح مالية او غيرها من المصالح. بينما هناك أعمال تعتبر متوسطة القيمة يمكنها ان تصبح واسعة الانتشار لصدورها عن دور نشر كبرى، الا ان بعض البصيرة الناقدة والنافذة يمكن ان يكشف من وقت لآخر عن أعمال تستحق التعريف بها. * روسا نافارو دوران Rosa Navarro Duran ناقدة وأستاذة تاريخ الأدب في جامعة برشلونة.