نظمت أخيراً لجنة التاريخ والآثار في المجلس الأعلى المصري للثقافة ندوة تحت عنوان "الدور الوطني للكنيسة المصرية عبر العصور"، شارك فيها أكثر من 15 باحثاً يمثلون مختلف أجيال البحث التاريخي في مصر، بالإضافة الى متخصصين في الآثار وتاريخ الفن. ومن ثم تنوعت المساهمات البحثية المقدمة للندوة التي دارت حول أربعة محاور رئيسية، اهتم المحور الأول برصد التقارب بين الإسلام والمسيحية على أرض مصر، فيما اهتم المحور الثاني بدور الكنيسة القبطية في الحفاظ على الهوية المصرية، وتناول المحور الثالث الدور الوطني للكنيسة القبطية في العصر الحديث، أما المحور الأخير، فتم من خلاله التعرف على خصوصية التراث القبطي في الفن المصري. وبدأت الندوة بمحاضرة افتتاحية للدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور رئيس اتحاد المؤرخين العرب تحت عنوان "الإسلام والمسيحية على أرض مصر"، منطلقاً من حقيقتين أساسيتين، الأولى أن الرسالات والكتب السماوية لا يمكن أن يكون بينها وبين بعضها البعض أي تعارض، أما الثانية: فهي أن القرآن الكريم نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لا ليمحو الكتب السماوية السابقة عليه ويبطلها وإنما ليتوّجها ويكملها ويتمها. وأوضح عاشور في بحثه أن الاقباط كانت لهم مكانة خاصة في قلوب الفاتحين العرب فاتبعوا تجاههم سياسة تفيض بالتسامح وتركوا لهم حرية العقيدة وفقاً لأصول الدين وأحكامه، لذلك سُمح لهم ببناء كنائس وأديرة جديدة تمتعت بالحرية في تصريف شؤونها تحت مظلة الحكم الإسلامي. ومن باب الأمانة العلمية اعترف عاشور بأن هناك صراعاً تكرر حدوثه في بعض حلقات التاريخ، لكنه أوضح استناداً الى مصادر تاريخية عدة أن هذه المصادمات لم تكن بين الإسلام والمسيحية، وإنما كانت بين اتباع كل من الديانتين، نتيجة لعدم فهم البعض لروح الدين وأهدافه. واستكمالاً لهذا الاتجاه جاءت المساهمة البحثية للدكتورة سيدة كاشف لترصد العلاقة بين المسلمين والاقباط منذ الفتح العربي لمصر وحتى نهاية العصر المملوكي بالاعتماد على روايات المؤرخين القدامى والمحدثين، وأشارت الى أن كلمة "قبط أو أقباط" لم تكن تعني وقت الفتح العربي لمصر مذهباً دينياً ولا ترادف كلمة مسيحيي مصر، وتحدد الموقف بين العرب وبين قبط مصر بمقتضى الأمان أو الصلح أو المعاهدة التي عقدت في حصن "بابليون" عقب استيلاء العرب على الحصن في العام 200 ه. وتدل الروايات التاريخية التي اعتمدت عليها كاشف أن القبط عموماً وقفوا الى جانب العرب ورحبوا بهم منذ دخولهم الأراضي المصرية، كما أكدت أن الاقباط لم يكونوا، طوال فترة البحث، مواطنين من الدرجة الثانية، وإنما كانوا مع المسلمين أخوة وابناء وطن واحد. ووجهت الباحثة عنايتها الى قراءة موقف المسيحيين المصريين من موجات الغزو الصليبي التي استهدفت الشرق العربي، وأكدت أن الأقباط رفضوا التعاون مع القوات الصليبية، ولعل هذا الموقف يفسر إصرار الصليبيين، بعد احتلال القدس، على منع المسيحيين المصريين من الحج بدعوى أنهم ملحدون. وقدم الدكتور مصطفى العبادي بحثاً رصد فيه العلاقة بين اقباط مدينة أخميم في صعيد مصر، والإدارة العربية في ضوء بردية نادرة يعود تاريخها الى القرن الثامن الميلادي الثاني الهجري وهي مكتوبة بثلاث لغات، القبطية واليونانية والعربية. وتتناول هذه البردية شكوى المواطنين الأقباط من اساليب جباية الضرائب المفروضة عليهم بغير وجه حق. وأوضح العبادي في بحثه كيف كانت الإدارة العربية في صدر الإسلام مهتمة بردع التجاوزات، والاهتمام بما يُرفع لها من شكوى، غير أنه أشار الى ملاحظة مهمة استوقفت المعقبين، وهي أن القبطي كان دائماً يلجأ الى الفرار من السلطات حينما يعجز عن دفع الجزية. واستكمالاً لأبحاث المحور الأول قدم الدكتور أحمد عبدالحميد يوسف بحثاً حول الكلمات القبطية المستخدمة حالياً في العامية المصرية، ودلل على وجهة نظره بمفردات عدة ممتدة حتى الآن في نسيج اللغة اليومية في مصر. واتسمت التعقيبات على هذا المحور بالسخونة التي وصلت الى حدودها القصوى حين أشارت الباحثة والكاتبة سناء المصري الى أن المصادر التي اعتمدت عليها الدكتورة كاشف في بحثها "تقطر بالمرارة وتتضمن ألفاظ سباب وجهها الاقباط الى العرب الفاتحين". وانتقدت "إصرار المشاركين في الندوة على تجاهل عناصر المقاومة القبطية للفتح العربي". وانتهت الى ضرورة "تنقية كتب التاريخ من الأساطير، ونقد رواياتها نقداً علمياً". وفي المحور الثاني المخصص لدراسة دور الكنيسة القبطية في الحفاظ على الهوية المصرية، قدم الدكتور رأفت عبدالحميد بحثاً عن "الرهبانية المصرية والسلطة البيزنطية". وأشار الى أن الرهبانية التي ظهرت في مصر كانت بمثابة الهدية التي قدمتها مصر الى عالم المسيحية. واضافت أن الظروف الطبيعية لمصر لعبت الدور الأول في نشأة نظام الرهبنة والديرية ما أتاح للمسيحيين الفرار من اضطهاد الرومان الى الصحراء. وفي مرحلة تالية لعب الرهبان دوراً في مواجهة السلطة البيزنطية، عندما تمسكت الكنيسة المصرية بموقفها في مواجهة كنيسة القسطنطينية حينما نشب خلاف المجامع حول طبيعة السيد المسيح. ومن النقطة نفسها جاءت مداخلة الدكتورة زبيدة عطا، التي قدمت دراسة للشخصية القبطية وموقفها من الكنيسة والدولة، أشارت فيها الى أن هناك عوامل عدة لعبت دوراً اساسياً في تيسير اعتناق المصريين للمسيحية، منها تدهور الديانة المصرية القديمة مما أحدث فراغاً روحياً هائلاً كانت المسيحية بقيمها قادرة على شغله، فيما عجزت اليهودية عن القيام بذلك، وفي الوقت نفسه تعدد نقاط اللقاء بين المسيحية والفكر الديني المصري خصوصاً في فكرة "الثالوث" مع التسليم بالاختلاف الكبير في المضمون اللاهوتي بين العقيدتين. واعتبرت الباحثة أن الأزمة التي نشبت في العالم الروماني حول طبيعة المسيح بلورت موقفها وطنياً للكنيسة المصرية التي واجهت كل محاولات الأباطرة الرومان في كسر شوكة البطاركة الذين برزوا كزعماء دينيين من جهة، وزعماء للشعب المصري كله في مواجهة الاحتلال. أما الدكتور سيد الناصري فتناول بحثه الدور الذي لعبه شنوده الأتربي مؤسس الكنيسة المصرية الوطنية في تمصير المسيحية من خلال اصراره على جعل القبطية لغة للشعائر والصلوات داخل ديره المشهور ب"الدير الأبيض". واهتم المستشار وليم سليمان قلادة برصد أصول مبدأ المواطنة في تراث القبط وتاريخها، من خلال المحاولات التي سعى المسيحيون المصريون عبرها الى التأكيد على ارتباطهم بالمواقف الوطنية في مواجهة الاحتلال. وتوقف قلادة أمام نصوص دستور العام 1923 الذي ظهر في مصر في اعقاب ثورة 1919 الوطنية وهي النصوص التي أكدت مساواة المصريين جميعاً أمام القانون من دون تمييز بينهم سواء بسبب الأصل أو اللغة أو الدين. وانتهى قلادة الى القول إن التناقض الرئيسي الموجود في مصر بين الحكام والمحكومين وليس بين مسلمين وأقباط ورأى أن هذا المدخل ينهي مشاكل عدة في تناول الشأن القبطي. وتميزت أبحاث المحور الثالث بالجدية، واثبتت أن وراءها جهداً حقيقياً بذله الباحثون ونبدأ بالدكتور يونان لبيب رزق الذي سجل عدداً من الملاحظات قبل الولوج الى موضوع بحثه "دور الكنيسة في مواجهة الاحتلال البريطاني" ومن بين هذه الملاحظات خطأ الفكرة التي تشيع أحياناً بأن الأقباط المصريين ناصروا الاحتلال البريطاني للبلاد على أساس وحدة الدين حيث تعدد الموانع التي تحول دون تلك النظرة على نحو ملحوظ. فقد نظر الاقباط دائماً منذ العصور الوسطى لأنفسهم على أنهم شيء مختلف عن مسيحيي الغرب، سواء بالاختلاف المذهبي أو بطبيعة الطقوس أو بهوية القديسين. وقال يونان لبيب رزق: من المعلوم أيضاً أن الانكليز بادلوا الكنيسة القبطية العداء يمكن اكتشاف بسهولة من الجزء الثاني من كتاب اللورد كرومر "مصر الحديثة" الذي خصص فيه أربع عشرة صفحة عن الأقباط رماهم فيها بكل مذمة. أما الازمة الثانية التي توقف عندها يونان لبيب رزق فهي أزمة 1911 التي شهدت عقد المؤتمر القبطي الأول في اسيوط. وأشار رزق الى أن البابا كيرلس الخامس كان معادياً للمؤتمر، بل كتب منشوراً حذّر فيه الاقباط من المشاركة فيه لأنه أولاً يشق صفوف الوطنيين، وثانياً لأن اسيوط كانت مركزاً للنشاط البروتستانتي التبشيري. وشارك الدكتور محمد عفيفي ببحث عنوانه "موقف الكنيسة المصرية من الحملة الفرنسية". واعتبر أن فهم هذا الموقف يتطلب الرجوع الى العصر العثماني الذي شهد محاولات التبشير المنظمة من جانب الكنيسة الغربية والتي واجهتها الكنيسة المصرية حفاظاً على تراث عصر الشهداء. ومن هذا المنطلق تبين للدكتور عفيفي أن الكنيسة القبطية نظرت الى الفرنسيين بقيادة بونابرت باعتبارهم "افرنج" بما يحمله المصطلح من تداعيات منذ العصور الوسطى. وأكد أنه لم يكن هناك ثمة تعاون بين الاقباط والحملة الفرنسية، باستثناء ما فعله "المعلم يعقوب" وجماعته. وقدم الدكتور عبدالعظيم رمضان قراءة لدور الاقباط في ثورة 1919، ويرى رمضان أن المصريين لم يصفوا شيئاً بالقداسة الا بوحدة الوطنية في ثورة 1919 لأنها مثلت وحدة بين دينين يشملهما عنصرا الأمة المصرية. واعتبر رمضان ثورة 1919 أول ثورة قومية تحدث منذ الفتح العربي بهدف الاستقلال التام تحت حكم وطني. اللافت أن معظم الحاضرين تساءلوا لماذا لم تمتد جلسات هذا المحور لتناقش أوضاع الاقباط في مصر منذ آذار مارس 1919 وحتى الآن خصوصاً وأن هذه الأوضاع ملتبسة عند البعض، وهي عند آخرين من الفترات "الملغومة" في ما يتعلق بالشأن القبطي. وجاءت جلسات المحور الرابع هادئة ربما لأن موضوعها يتعلق بالفن أكثر مما يتعلق بالتاريخ والسياسة، وفي هذا المحور تناول الدكتوران حسن الباشا وجودت جبرة موضوع "تمازج الفن القبطي والفن الإسلامي في مصر" باعتباره مظهراً من مظاهر الوطنية، وقدما عرضاً بالشرائح الملونة التي تؤكد أن العرب عندما دخلوا مصر وجدوا فنين، الأول فن قبطي تأثر بفنون أخرى، والثاني فن إسلامي جاء مع العرب الذين استقروا في مصر. وكان الطابع القبطي هو الغالب في أول الأمر ثم أخذ الطابع الإسلامي يتضح تدريجياً الى جانبه، ثم لم يلبث أن أخذ الطابعان يتقاربان تدريجياً، وإزداد التقارب مع الزمن وأخذا يتمازجان الى أن نتج فن واحد ذو طابع مصري صميم في حوالي القرن الخامس الهجري. وتحدثت الدكتورة تحفة حندوسة عن التراث الفرعوني في الفن القبطي"، مشيرة الى تأثر المسيحيين في مصر بتراث أجدادهم المعماري والفني تأثراً بالغاً، وكذلك تعمدهم البعد ما استطاعوا عن الفن اليوناني الروماني، وقدمت حندوسة عرضاً بالشرائح الملونة لعمارة الكنيسة المصرية وعناصرها المختلفة، والتي تؤكد أن العمائر الدينية الفرعونية بعناصرها ظلت مثلاً معمارياً يحتذى في الحقبة القبطية.