القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    إجراء قرعة بطولات الفئات السنية للدرجة الثانية    «خليجي 26»: رأسية أيمن حسين تمنح العراق النقاط ال 3 أمام اليمن    الأخضر يتعثر أمام البحرين    المنتخب العراقي يتغلّب على اليمن في كأس الخليج 26    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية "أرويا"    رحلة تفاعلية    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    الشرع : بناء سوريا سيكون بعيدا عن الطائفية والثأر    للمرة الثانية أوكرانيا تستهدف مستودع وقود روسيا    القمر يطل على سكان الكرة الأرضية بظاهرة "التربيع الأخير"    صلاح يعيد ليفربول للانتصارات بالدوري الإنجليزي    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    وزير الداخلية يبحث تعزيز التعاون الأمني ومكافحة تهريب المخدرات مع نظيره الكويتي    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    شرطة العاصمة المقدسة تقبض على 8 وافدين لمخالفتهم نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    39955 طالبًا وطالبة يؤدون اختبار مسابقة "بيبراس موهبة 2024"    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    مقتل 17 فلسطينياً.. كارثة في مستشفى «كمال عدوان»    اتفاقية لتوفير بيئة آمنة للاستثمار الرياضي    السعودية تستضيف غداً الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    السعودية واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    ولادة المها العربي الخامس عشر بمحمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    نجاح عملية جراحية دقيقة لطفل يعاني من ورم عظمي    شركة آل عثمان للمحاماة تحصد 10 جوائز عالمية في عام 2024    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "الوعلان للتجارة" تفتتح في الرياض مركز "رينو" المتكامل لخدمات الصيانة العصرية    فتيات الشباب يتربعن على قمة التايكوندو    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    تنفيذ حكم القتل بحق مواطنيْن بتهم الخيانة والانضمام لكيانات إرهابية    أسمنت المنطقة الجنوبية توقع شراكة مع الهيئة الملكية وصلب ستيل لتعزيز التكامل الصناعي في جازان    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «كنوز السعودية».. رحلة ثقافية تعيد تعريف الهوية الإعلامية للمملكة    ضبط 20,159 وافداً مخالفاً وترحيل 9,461    ولي العهد يطمئن على صحة ملك المغرب    «العالم الإسلامي»: ندين عملية الدهس في ألمانيا.. ونتضامن مع ذوي الضحايا    إصابة 14 شخصاً في تل أبيب جراء صاروخ أطلق من اليمن    «عكاظ» تنشر توصيات اجتماع النواب العموم العرب في نيوم    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    «يوتيوب» تكافح العناوين المضللة لمقاطع الفيديو    لمحات من حروب الإسلام    معرض وزارة الداخلية (واحة الأمن).. مسيرة أمن وازدهار وجودة حياة لكل الوطن    رحلة إبداعية    «موسم الدرعية».. احتفاء بالتاريخ والثقافة والفنون    السعودية أيقونة العطاء والتضامن الإنساني في العالم    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المعرض التوعوي "ولاء" بالكلية التقنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحدث عن كتبه ونظرته الى الثقافة العربية بتحولاتها . عبدالله العروي : الفكر العربي لا ينظر الى الأشياء في إطارها التاريخي
نشر في الحياة يوم 26 - 05 - 1999

عبدالله العروي أحد المفكرين الذين طبعوا الفكر العربي في النصف الثاني من هذا القرن. مؤرخ وفيلسوف وأديب. مفكر متعدد الاهتمامات يسائل الوقائع العربية استناداً الى مفاهيم ومنهج ورؤية، ويلجأ، احياناً، الى السرد الروائي للتعبير، بحرية.
منذ "الايديولوجية العربية المعاصرة" الى "الاسلام والتاريخ" صدر حديثاً بالفرنسية، مروراً ب"العرب والفكر التاريخي" و سلسلة المفاهيم: الادلوجة، الحرية، الدولة، التاريخ، العقل... الخ يتقدم عبدالله العروي الى المشهد الفكري العربي باعتباره "صاحب مقالة". وظفها بعضهم في ردودهم ومساجلاتهم، وركبها اخرون لتأليف نصوص تدعي تجاوزها، و تبنتها ثلة من المثقفين الذين عثروا فيها عما كانوا يسعون اليه من عمق فكري ودقة منهجية وجرأة في الاستنتاج والحكم.
لا يدعي العروي امتلاك مشروع فكري، او العمل على بناء نسق ايديولوجي قد يصبح حاجزا امام فهم زمن العالم. يطالب العروي المثقف بأن يمارس دوره الطبيعي وبين المتمثل في التفكير، وان لا يعطل عقله نتيجة اغراء سلطة او اكراه خارجي. فليس مقبولا منه الاضراب عن إعمال العقل في زمن يطالب بمضاعفة المجهود العقلي، والاستثمار في المعرفة والعلم والتربية، وان يفكر في الواقع من دون الارتهان لضغوطاته، مستحضراً، على الدوام، حركية التاريخ، ومنطق الممارسة، ومكر السياسة:
بعد 35 سنة تقريبا من بداية مشروعك الفكري، وانطلاقاً من الاطروحات التي دشنتها في "الايديولوجية العربية المعاصرة"، وفي ضوء التحولات الكبرى التي شهدها العالم، هل تتصور ان ما كنت اقترحته ما زال يمتلك الكفاية التفسيرية اللازمة لفهم الوقائع الآن؟
- اولاً أريد ان الفت النظر الى ان ما كتبته كان ينطبق على وضع معين، وتغير الاوضاع يفترض ان بعض الاحكام التي كانت مطابقة في السابق لم تعد كذلك الآن. ما قلته، في واقع الامر، كان ينصب على الثقافة العربية ككل، وعلى العقل العربي من حيث موروثه وتكوينه وكيفية تعامله مع ذاته ومع الآخرين. وكنت دائما اعطي امثلة مناسبة.
ثانياً: لم أتوقف عند "الايديولوجية العربية المعاصرة"، اذ كتبت مؤلفات عدة بعدها، وسايرت التطورات المختلفة. لكن الظاهر ان هذه الكتب بدت وكأنها اقل اهمية، مع انني اعتبر ان قيمتها ترقى الى المستوى الفكري للكتاب الاول. اما النقطة الاساسية التي حاولت التركيز عليها فتتمثل في ان الفكر العربي، ولاسباب عدة، لا ينظر الى الاشياء في اطارها التاريخي.
قد يبدو هذا الحكم قاسيا، ولكنه صحيح في العمق، لاننا دائما نتعامل مع القضايا المطروحة بطريقة لا تاريخية، حتى وان كانت من طبيعة تاريخية كمسألة الاستعمار والتحرر والتخلف والتقدم الاقتصادي، او العولمة الآن. اننا دائما ما ننتظر طرحها في الخارج ثم بعد ذلك نطبق عليها منطقا غالبا ما يكون لا تاريخياً، ولا اريد استعمال اي وصف آخر، ونخرج بالتالي بنتائج غير مطابقة للواقع. فموضوع العولمة، الآن، نتعامل معه من خلال المؤتمرات والندوات والكتب والاستجوابات.... الخ، بطريقة لاتاريخية، ونتساءل هل هي صالحة أم غير صالحة بالنسبة للوقت الحاضر، اما الانتباه التاريخي، والوقوف عند اسبابها وامكان فهمها، والتغلب عليها اذا اعتبرناها مشكلة، او الاستفادة منها اذا كانت فرصة، فهذا الامر قد نقول فيه اشياء صحيحة، ولكننا نقولها من منظور غير تاريخي، غير عصري.
لكن هناك حركة التاريخ والفكر الذي يواكب هذه الحركة... وهناك، انطلاقا من كتاباتك، النزعة التاريخانية. ودعوت دائما الى الاخذ بها لفهم وقائع العالم العربي، والانتماء الى الزمن المعاصر، كيف تميز بين هذين المنظورين؟
- لا اتكلم على التاريخ كسلسلة احداث. فأنا اركز على التاريخ كفكرة وكمنطق للفهم. اعطي مثالاً واحداً، اتذكر انه في بداية الستينات كتب احد الصحافيين الاسرائيليين كتابا في المسألة الفلسطينية، ولم يكن آنذاك في السوق اي كتاب في الموضوع كتبه فلسطيني، واعتبر هذا الصحافي، واسمه واينستوك، ان قيام الدولة اليهودية عملية تاريخية تطلبت عقوداً، وان المشكلة الفلسطينية، هي ايضاً، قضية تاريخية وحلها يتطلب عقوداً وعقوداً. ازاء هذا النوع من التفكير لا تهمني صحة هذا الحكم او خطأه، ولكن صاحبه اصدره اعتماداً على منطق تاريخي، لأن المشكلة - السياسية، هي دائما، قضية تاريخية في العمق، ولايمكن حلها الا في سياق تاريخي. انذاك كنا نحن العرب، سواء من الفلسطينيين او من غير الفلسطينيين، نقول دائما ان هذه القضية هي قضية حق، في حين ان الحق لادخل للتاريخ فيه، وتعامل العرب مع الموضوع بالطريقة التالية: "اما انك مع الحق او انت مع الباطل، ويتعين اتخاذ موقف حالا. لكن التجربة التاريخية اظهرت ان المعاملة التاريخانية مع المشكلة الفلسطينية افيد بكثير من انماط التعامل الاخرى، سواء سميناها "حقانية" او مبدئية مجردة. ولذلك كلما واجهنا مشكلة نلاحظ ان هناك طريقان: الطريقة العصرية، التاريخية، والطريقة التقليدية المجردة الفلسفية، وهي التي اسميها احيانا، الطريقة الكلامية بالمعنيين، بمعنى علم الكلام، وبمعنى الثرثرة. الفكر التاريخاني هو الطريقة الوحيدة المؤدية الى السياسة الناجعة او الى السياسة المعقولة والعقلانية. ولهذا الغرض كتبت كتابين، الاول عن "مفهوم التاريخ" والثاني عن "مفهوم العقل"، ولكنهما يسيران في اتجاه واحد يتمثل في القول بضرورة التمييز بين العقل المجرد والعقلانية الاجتماعية والسياسية المبنية، بالاساس، على مفاهيم مستمدة من التجربة التاريخية.
وضمن هذا التصور الذي عملت على تطويره وتعميقه في كل كتاباتك، تعطي اهمية مميزة للدولة، ليس باعتبارها مجرد اداة، بل فاعلاً للتغيير، ولانتقال العرب من المرحلة اللاتاريخية للدخول والانتماء الى العصر. في ضوء ما يجري الآن، ضمن هذا الذي ينعت بالعولمة، اصبحت الدولة معرضة لانتقادات عدة، ولدعوات تطالب باعادة النظر في ادوارها، ونظراً الى الضغوط والاكراهات المتنوعة بات مفهوم السيادة نفسه محط نظر. ما تفسيرك لذلك؟
- حاولت في كتاب "مفهوم الدولة" ان ابين انه بالنظر الى الطريقة التاريخانية، تبدو لنا الدولة كأنها دائما منظمة تعمل على عقلنة المجتمع بكيفية من الكيفيات. واكدت مرارا انه مهما قيل عن الدولة القطرية العربية، وعن سماتها اللاعقلانية، وعن قصور القائمين عليها، فانها في كثير من الحالات تعمل على عقلنة الحياة الاجتماعية، بدليل انها تتعامل مع الدول الاجنبية، ومع مجتمعات اخرى، وهي مضطرة الى مراعاة موقع ودور الاخرين في طريقة التعامل، بل والتأثر، التدريجي وغير المباشر احياناً، بعقلانية هؤلاء الآخرين.
صحيح ان هناك جانبا اخر، وهو الجانب اللاعقلاني في الدولة، وهو ما يتعلق بالعنف، وبالمصالح... ولكنني ارى ان ما يجعل الدولة تقوم بهذا الدور يعود الى انعدام وجود هيئات مغايرة لها في تقليدنا وتاريخنا العملي، فاذا كانت هناك في بلدان اخرى، كاليابان او الصين او اوروبا... تنظيمات مستقلة عن الدولة، ومعترف بها، فالدولة العربية، اما انها قضت على هذه التنظيمات، او وظفتها لمصالحها، او ان هذه التنظيمات ذاتها تلعب دوراً لاعقلانياً، كما هو الحال بالنسبة الى الاسرة، او القبيلة او الطائفة، وهي تنظيمات مرتهنة الى عصبيتها، وتسعى الى تهديم عصبية الآخرين. وازاء هذا الوضع تبقى الدولة هي المجال الوحيد لتجاوز ذلك، وهذا ما يفسر اهمية الدولة بالنسبة الى كل المجتمعات العربية، لانها تمثل الملجأ الوحيد امام العمل التخريبي للتنظيمات الاجتماعية اللاعقلانية الاخرى...
... حتى لو كانت الدولة عسكرتارية؟
- لأن الدولة اصبحت هي المجال الوحيد بالنسبة الى الفرد كفرد. ونلاحظ ان الفرد عندما يطالب بحقوقه فانه يلجأ الى الدولة التي هي، في الوقت نفسه، سبب كل مصائبه. لماذا؟ لانه لا يجد ذاته في تنظيمات اخرى ذات طبيعة عقلانية، لاشك ان تنظيمات جديدة بدأت تظهر من نوع منظمات حقوق الانسان وما الى ذلك، ولكننا يجب ان لا ننسى ان تجارب حزبية ونقابية في السابق لم تستطع الذهاب بعيداً في عقلنة العلاقات الاجتماعية والسياسية، ولم تلعب الدور الذي كنا نتمناه لاسباب عدة منها: التخلف الاقتصادي، والفقر، والامية... الخ.
... ومنها الانقلابات العسكرية؟
- لا... لان العسكر يمثلون، اذا صح التعبير، نقابة من النقابات، تتميز بامتلاكها وسائل الردع والتسلط، ومع ذلك نتمنى ان تنشئ الدولة نفسها، وما يعادلها من تنظيمات موازية، وهذا متوقف على النهوض بالمستوى الثقافي والتعليمي للدولة...
غير انه بحكم الحضور الطاغي للدولة في كل البلدان العربية، سواء ارتبطت بتنظيمات عسكرية ام لا، نلاحظ ان مجموعة كبيرة من هذه الدول اصبحت تستجيب لضغوطات خارجية. ولكي تحافظ على وجودها وتوازنها، يتعين عليها ادخال اصلاحات، ولكي تدخل هذه الاصلاحات لا بد من ان تقدم تنازلات. هل تتصور ان هذه الضغوط الخارجية ستعمل على تطوير الدولة في العالم العربي؟
- يجب، اولا، ان نعود الى التاريخ، ومنذ عهد الاصلاحات العثمانية كان التدخل الاجنبي مؤكدا، بل ومقبولا من الدولة العثمانية. كل دولة اجنبية كانت تساند وتحمي الفئات المرتبطة بها حسب ملتها. انكلترا بالنسبة الى البروتستانت، فرنسا مع الكاثوليك، وروسيا كانت تتدخل لحماية الاورثوذوكس... الخ، وتصرفت الدولة العثمانية وكأن الأمر لا يمس سيادتها. ثانيا حين نتكلم عن عهد "الثورات العسكرية" لا يجب ان ننسى ان التدخل الاجنبي كان واضحا، سواء من خلال الالتزام بتوجهات الخط الاشتراكي او بدعوى محاربة اسرائيل، مثلا، اذن لا يمكن القول ان الدولة العربية الحديثة كانت في منأى عن التأثير الاجنبي. انما ما يحصل الان مخالف تماما لما جرى في الماضي. اذ في ذلك الوقت كان التأثير من طبيعة دينية او سياسية توسعية او لاعتبارات تجارية، اما الآن فان التأثير يتم تحت غطاء حقوق الانسان، لا شك انه من طبيعة اقتصادية بالدرجة الاولى. وهو يستهدف هلهلة نسيج الدولة، وتقوية التضامن الاجتماعي، نظراً الى وجود قوى تعاكس، بكيفيات متفاوتة، قوة الدولة، بل ونلاحظ في فترة مواجهة الوجود الاستعماري، ان الحركة الوطنية كانت تعمل كل ما في وسعها للقضاء على كل ما يعارض الدولة الناشئة كالزوايا مثلا، لتقوية احادية السلطة، سواء جاءت من الداخل او من الخارج. وبالتالي فنحن ورثنا احادية السلطة من الحركة الوطنية التي كانت موجهة اساسا ضد السلطة الاجنبية. وما يجري في الجزائر اكبر تجسيد لهذه الواقعة، فاذا كان الحكم عسكريا فلان الحركة الوطنية ذاتها كانت عسكرية اصلا، وقد بقيت الاجهزة العسكرية هي المسيطرة حتى بعد تحرير البلاد.
نحن نملك تاريخاً طويلا، لأحادية السلطة، وللتأثير الخارجي عليها. اما الوضع الحالي، حسب ما يبدو لي، فيتميز بتدخل يستهدف المجتمع، بالاساس، اكثر مما يستهدف الدولة. انه يسعى الى تحرير المجتمع من سيطرة الدولة لتسهيل العلاقات بين المجتمع ومجتمعات خارجية، ومن دون تدخل او توسط الدولة. قد نختلف في تقويم هذا الوضع، قد يقول بعضهم ان الامر يتعلق باستعمار جديد، او انها فرصة للتحول ولبناء تنظيمات مدنية موازية للدولة بالنسبة الى آخرين، ولكن يجب ان لا ننسى ان هذه السياسة تسعى الى اضعاف الدولة، وكون الدولة تقبل بهذه الاصلاحات دليل على انها لا تملك خيارا اخر.
هناك ملاحظة مثيرة في كتاباتك: توقفت عند مجموعة من المفاهيم الاساسية وخصصت لها كتبا مثل "الادلوجة" و"الحرية" و"الدولة" و"التاريخ" و"العقل"، ولكنك لم تفرد لمفهوم الامة كتاباً خاصاً مع ان لهذا الموضوع اهمية بارزة في الفكر العربي. ما سبب ذلك؟
- كان علي كذلك ان اتوقف عند مفهوم الفرد، لان فكرة الفرد تمثل انشغالا حقيقيا بالنسبة إلي، فما كان من الممكن قوله في مفهوم الامة قلته ضمنا في المفاهيم الاخرى. لو كتبت كتابا في الموضوع لوصلت الى نفس النتيجة التي تؤكد على ان مفهوم الامة مفهوم تاريخي، وكنت سأنتقد كل المفاهيم التي تبدأ باعتبار الامة موجودة منذ ان خلقها الله، وان لها وجوداً جوهرانياً يتعالى على الزمن. لقد وجدت الامة العربية، لربما، في فترة معينة لاسباب، وتفتت لاسباب اخرى، ويمكنها ان تنتعش مرة اخرى.
أومن بأنه يتعين اعادة بناء الامة من جديد، وتوظيف ما كان في الماضي، ولكن انطلاقا من اسس جديدة تراعي التاريخ واللغة والثقافة. اما الامة بالمعنى السياسي كما فهمه بعضهم في المشرق فقد كان من الممكن ان تبنى على اساس امة عربية، لكن ضاعت الفرصة، لاسباب عدة، اهمها المشكلة الفلسطينية، واختلال موازين القوى بين الدول العربية نفسها، لأن بعض الدول التي لها تجربة تاريخية قديمة اصبحت تابعة، وتلك التي لها تجربة تاريخية اقل اصبحت هي الدول القائدة... الخ. غيرت التطورات الاقليمية موازين القوى بين المجتمعات العربية. ولهذا الاعتبار فان مفهوم الامة لا يمكن ان يكون له سوى مضمون لغوي، وثقافي وتاريخي. وهو لا يتناقض مع مفهوم الدولة القطرية، بل يتضافر معه ويستلزمه كما انه لا يتناقض مع الجماعات الجهوية والاثنية، العربية او غيرها.
يدعونا المنطق التاريخي الى القول ان انعدام وجود دولة عربية الآن لا يعني تجنب التفكير في ضرورة انشائها من جديد، واعتماداً على معطيات قائمة حالياً. اما اعتبارات الماضي فيمكن توظيفها في المشروع الجديد، لكننا لا نستطيع البناء عليها، مباشرة. فالمنظرون العرب كانوا يفكرون في الامة الايطالية والالمانية كنماذج، لكن ما يواجهنا الان هو "امة اوروبية"، مبنية، اساساً، على الاقتصاد والثقافة، وعلى القانون وعلى المرجعية الديموقراطية. لذلك كان من الممكن الانطلاق من الوضع العربي للوصول الى مفهوم الامة الذي وصله الاوروبيون بعد خمسين سنة من العمل السياسي، لاننا كنا نعيش مناخا اقرب الى هذا النموذج من الاوروبيين الذين كانوا في اطار الدولة الامة، واحيانا كدول متحاربة، اما نحن فقد عشنا دائما في اطار دولة غير مرتبطة بالامة ضرورة، وكان من الممكن الوصول الى مفهوم للامة اوسع بكثير من اطار الدولة / الامة، لو اتبعنا المنطق التاريخي.
المعروف انك تدعو الى انتقال العرب الى وضعية تاريخية يفكرون فيها حقا في زمنهم، وينسجمون مع التاريخ المعاصر. وبمقدار ما تقول بضرورة التحديث، وتوفير شروط المشروع التحديثي، تدعو، بكيفية ما، الى القطع مع التراث. بل ولا نجد حضورا كبيرا للتراث في كتاباتك اللهم الا اذا استثينا "مفهوم الدولة" و "مفهوم العقل". كيف تفسر ذلك؟
- اود القول انني مطلع على التراث العربي، واستعمله، واعيش معه. لكن لي موقفاً مبدئياً ناتجاً عن المنطق الذي اتبعه، وهو ان هذا التراث لا يمكن معرفته في حقيقته، أو نعترف اليه بقوته وبعمقه الا اذا انقطعنا عنه، والا اذا سلمنا بان ذلك يعود الى منطق الماضي، ولا يمكن الاخذ به لحل مشاكل الحاضر، حينئد سنعطيه قيمته الحقيقية، لاننا سننظر اليه كما هو. اي سنرى العبقري عبقريا في اطاره الحقيقي. اما اذا اخذنا هذا العبقري العربي، وطبقنا آراءه على الوضع الحالي، وقارناه مع عباقرة آخرين عرفوا الثورة العلمية و الاقتصادية، فاننا نبخسه حقه. عندما نقارن ابن خلدون مع ماركس نبخس حق ابن خلدون، لكن في الوقت الذي نقارن فيه ابن خلدون مع ماكيافيلي ومونتسكيو، حينئد نرى ان ابن خلدون متفوق كثيراً على كل ما سبق القرن التاسع عشر. وما نقوله عن ابن خلدون ينطبق على مرجعيات وميادين اخرى. ولذلك من يتكلم عن التراث باعتباره اطارا لحل مشاكل الحاضر يبخس حق التراث، ولا يعترف بحقيقته، كما انه لا احد من الايطاليين يطلب من ماكيافيلي حل مشاكل ايطاليا الراهنة.
وأريد في المناسبة التطرق الى موضوع اخر، ذلك ان كثيرا من الناس يظنون بانني ادعو الى تفكير تاريخي في الوقت الذي بدأ فيه الفكر الاوروبي المعاصر يرفض التاريخانية او يبتعد عنها، فيقولون انك تطلب من العرب العودة الى مرحلة تجاوزها الغرب الذي تأخده كمثال، لكن من يقول هذا الكلام يستعمل منطقا مطلقا، كلامياً وتناظرياً على الطريقة القديمة، لانه يمثل المنطق الذي اتبعه الغزالي ضد الفلاسفة، والمتكلمون ضد المعتزلة. اما الواقع فان ما اقول به هو التالي: ان القطيعة التاريخانية، التي هي بداية العلم الموضوعي، لا بد منها، وستحصل لا محالة في يوم من الايام، وقد حصلت في بعض الميادين مثل ما يحصل في تطورات الوضع الفلسطيني. وادعوك للرجوع الى العدد الممتاز الذي كانت مجلة "الازمنة الحديثة" لجان بول سارتر خصصته للصراع العربي الاسرائيلي 1968 ، وقارن بين ما كتبه العرب المشارقة والمغاربة، وما كتبه الاجانب، ستلاحظ انه بعد التجربة العسكرية والسياسية، والمعارضة اليومية لاميركا واسرائيل، اصبح جل الزعماء الفلسطينيين ينهجون المنطق التاريخي، ويرون ان المشكل بين اليهود والعرب في فلسطين هو مشكل تاريخي، لاتفهم اسبابه ولا يمكن تصور حله الا في سياق تاريخي، وتخلوا عن خطاب الحق والباطل، الذي ما زالت المعارضة الدينية وحدها في فلسطين وغيرها متشبتة به.
تلاحظ هذا التباين كذلك في كبريات الصحف العربية المشرقية، انك تجد التحليلات السياسية والاقتصادية تراعي بعض قواعد الفكر التاريخي، لكنك حين تفتح الصفحات الداخلية المتعلقة بالثقافة، والشعر والادب، والدين، فانك تجد منطقا آخر تماماً، كأن الصحافة منشطرة الى اكثر من منطق...
ألا يعبر ذلك عن نوع من الشيزوفرينيا في الشخصية العربية؟
- طبعا، وهذا واضح في كلامنا، وفي حياتنا اليومية. لكننا قد نجد مثل هذه الحالات في بلدان اخرى، عند الروس، او اليابانيين، او الصينيين... الخ، ولكن الفرق بيننا وبينهم هو ان الياباني عندما يتكلم على الاقتصاد، فانه يسير مع المنطق الاقتصادي الى غايته المقصودة، ويعمم تعامله مع الاقتصاد على كل المجالات العمومية في الوقت الذي يترك فيه موضوع الاصول والهوية لحياته العائلية فقط. اما نحن فاننا نخلط، دائما، بين التربية العائلية، او العشائرية والحياة العامة، وهذا ما يؤدي بنا الى اخطاء لاحصر لها.
لكن القول بالتحديث يفترض شروطا منها التعليم والثقافة والاعلاء من شأن الدور التربوي للدولة... عندما نقرأ "مفهوم العقل" يصعب اعتباره حلقة في سلسلة المفاهيم التي تناولتها، بل يمثل مناظرة عميقة ومناقشة فكرية، غير معلنة احيانا، مع كتابات عربية تدعو، هي بدورها الى العقلانية، او الى تجديد العقل العربي...، لكنك تحرص على التمييز بين عقل جوهراني يحيل على مرجعية تقليدية، وعقل عملي، نفعي وبرغماتي. لماذا الالحاح على هذا التمييز؟
- لأن عدم التمييز هو الذي دفعنا الى كثير من المتاهات، لان غرض التمييز هو الفصل بين مشكلتين: مشكلة قديمة، وهي مشكلة العقل، منذ اليونان الى الآن، وهي من طبيعة نسميها فلسفية او جوهرانية، للعرب والمسلمين مشاركة مهمة جدا فيها. لكنني اقول ان هذه القضية لاعلاقة لها بالمشاكل التي نواجهها الآن، والمتعلقة، بالاساس، بالحياة الاجتماعية وبالاقتصاد. المفهوم الاول نابع من تناقضات الرياضيات، من اليونان الى هوسرل، ومن منطق العقل كعقل، اما القضية الثانية التي اسميها عقلانية فهي تلك التي يتم ترجمتها في علاقات الانسان الاجتماعية.
يطرح العقل الاول مسألة الدولة في صيغة الدولة الافضل والمثالية، العقل الثاني يفترض السؤال عن الطرق المناسبة، التي نعتمد عليها لننظم حياتنا وليصبح المجتمع الذي نعيش فيه اكثر انتاجية، واكثر تعادلية. وهذه العقلانية ارتبطت بقيام الفكر الاقتصادي في القرن الثامن عشر. ولذلك لا يمكن ان نطالب الفلاسفة العرب بالاجابة عن اسئلة لم يعرفوها. نجد ارهاصات هنا وهناك، مثل ما طرحه ابن خلدون، ففكرة العمران عنده مبنية على فكرة زيادة القيمة، وتراكمها، او ما يسميه هو "التأثل"، وقد نجد عنده مصطلحات صالحة لتعريب اللغة الاقتصادية العصرية، ولكنه لم يكن يعيش في مجتمع اقتصادي عصري، ويستحيل عليه اقتراح منظومة تفسيرية للفكر الاقتصادي والاجتماعي العصري. من هنا جاءت فكرة القطيعة التي مؤداها القول باستحالة ايجاد اجوبة عند اجدادنا عن مشكلات لم تطرح الا بعد القرن الثامن عشر.
ولكل من يتحدث عن التراث من دون ان يقوم، هو نفسه، بهذه القطيعة، ومن دون ان يفهم انه حصلت في القرن التاسع عشر قطيعة بالنسبة الى الانسانية جمعاء، وليس بالنسبة الى أوروبا وحدها، وظهرت مشكلات لا يمكن مواجهتها بالرجوع الى التراث، كيفما كانت هوية هذا التراث، اي اذا لم يقبل المفكر العربي بهذه القطيعة فانه يدخل في متاهات لاحصر لها، نتيجة قيامه بمقارنة ما يستحيل مقارنته، ويؤول افكارا على اصول لم تكن موجودة في الماضي. فموقفي من ابسط ما يكون، ويدخلني العجب كلما بدا للبعض انه غامض و ملتبس.
اشتغلت على موضوعات كثيرة في الثقافة العربية، لكن لك اهتماماً خاصاً بتاريخ المغربي العربي والمغرب، ولك ارتباط شبه وجودي بهذا الموضوع. اذا نظرنا الى تاريخ المغرب على الاقل طوال قرن، نجد محطات كبرى، منذ محمد الرابع، مرورا بالحسن الاول، ودخول الفرنسيين الى ما بعد الاستقلال، شهدت هذه الفترات محاولات عدة ل"اصلاح" المغرب. كيف تقوم هذا المسار الخاص لهذا البلد؟
- هنا اود القول انه على رغم كل ما كتب عن مؤلفي "الاصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية"، هناك جانب لم ينتبه اليه جل الدارسين، ويتمثل في محاولتي استنتاج منطق تطور المغرب. فقد وصفته بكل امانة، لكنني اردت توضيح ان هذا المنطق الذي، اعتمادا عليه تمكن المغرب من الاستمرار والرسوخ، هو المنطق الذي تسبب في الانكسارات اللاحقة، لان المغرب وجد نفسه في مأزق: اما ان يدافع عن النفس بالمحافظة على الهوية او التطور، ولكن بالتنازل والاعتراف للفرنسيين بخاصة، بحق تسيير شؤون البلاد.
ولو نجح المغرب في عمله الاصلاحي، اعتمادا على الذات، لما كان هناك استعمار. ودخول الاجنبي الى البلاد معناه السقوط في اخطاء مهدت لذلك. اكبر هذه الاخطاء، ما زلنا نقوم بارتكابها، تتمثل في مقاومة ضرورة القيام باصلاح اجتماعي بالمعنى الواسع للكلمة. اننا نرفض المساس بنظام الاسرة، وبنظام الزاوية والقبيلة. ويعتقد المغاربة ان التشبت بهذه الاسس هو الاطار الذي يسمح باستمرار التماسك الاجتماعي، فلا يمكن الذهاب بعيداً، في الاصلاح الاجتماعي مع الحفاظ على منطق الزاوية والقبيلة كحقيقة قائمة في المجتمع وفي الاذهان. فإما الاستناد الى القبيلة كأساس للتنظيم الاجتماعي، واما انتهاج سياسة جهوية كقاعدة عصرية للتدبير، من دون الخوف من اعتماد هذه اللامركزية. من جهة اخرى كنت ارى، وما زلت مقتنعا، ان تنظيم النسل، بكيفية جذرية، ضرورة قصوى. فمن اراد ان ينجب كما شاء، له ذلك، لكن ليس له على الدولة اي حق. من يطالب بحقوق عليه احترام واجبات وقواعد. كما يفترض تحديد النسل النظر في تعدد الزوجات وتنظيم شؤون الطلاق. لقد اصبحنا نلاحظ الحد من كثرة النسل لاسباب اقتصادية ولتعاسة العيش، ولكنني اود القيام بذلك مع توفير شروط تخطيط اسري لعقلنة الحياة الاجتماعية، وتحسين حياة المرأة والطفل والمصلحة العامة.
هل معنى ذلك ان ما كان على الدولة ان تقوم به من اصلاحات لم ينجز؟
- لم ينجز لان المجتمع لم يكن مستعدا لذلك، قد تقول لي انه كان من واجب الدولة اتخاد قرارات، لكن المسائل الاجتماعية تفترض قابلية الانجاب، لذلك يصعب تحقيق نتائج مشجعة، وهذا ما هو حاصل في مصر ايضا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.