الفضائيات والصفحات الدعائية الملونة المصقولة جعلت كثيراً من شعوب العالم الثالث يدخل عصر الاستهلاك المرفّه من أوسع أبوابه، حتى ولو كان ذلك في أحلام يقظتنا. أصبحنا نرْفُل - ناعمين - في ثيابه الفضفاضة، ونتمرّغ على حريره الناعم، ونخطو على عسجده البهي، ونمتطي "خُيولَه" المطهّمة، ونتذوق أطباقه الشهية. لقد أصبح استهلاكنا مكثفاً منوعاً، ورَحلت تطلعاتنا الاستهلاكية الى جهات الأرض جميعها، واتسعت حوصلتنا الاستمتاعية لتستوعب خليطاً عجيباً من الأذواق والنكهات. وبالطبع، ليس عيباً ولا قصوراً أن ننعم بخيرات الأرض، وأن يُحمل إلينا نتاج أبنائها، وأن نخوض معمعة التبادل الدولي في السوق الكونية الكبيرة، خصوصاً إذا كان ذلك على أسس عادلة. إن المساهمة النشطة في الساحة الاقتصادية الدولية دلالة على الصحة، كما أن اتاحة الفرصة للمستهلكين ليختاروا الافضل، سعراً وجودة، تدعيم لحرية المستهلك واطلاق لها من قيود الحصر والإجبار، وتحويل لامكاناتها النظرية الى واقع عملي. الاكتفاء الذاتي المطلق في اقتصاد منغلق على نفسه وهم ٌ كبيرٌ. فالاستخدام الامثل للموارد المحدودة المتاحة للمجتمعات الانسانية يرفض الفكرة التي يتشنج لها البعض، وتهدف الى ان يُنتج المجتمع كل شيء من الإبرة حتى الصاروخ، ثم يغلق الباب على نفسه لكي يستهلك ما ينتجه. والمجتمعات التي لديها من الموارد ما يمكنها فعلاً من انتاج الابرة وانتاج الصاروخ، نلاحظ انها تستورد مزيجاً من السلع والخدمات يغطي المدى المنحصر بين الابرة والصاروخ. و"المستهلكون" عندما يمارسون حرياتهم، كثيراً ما يفضلون إبراً وصواريخ متعددة "الجنسيات". وثمة في المزاج الإنساني الجماعي عجائب ونزعات تفسر هذا الطوفان الهائل من السلع والخدمات الذي يتحرك بين الدول في مختلف الاتجاهات. وليس هذا مكاناً مناسباً لمناقشة نظرية التجارة الدولية واستنتاجاتها، فالقصد هو الإشارة إلى أن التنوع الاستهلاكي الدولي في حد ذاته ليس ذنباً نعتذر عنه أو عيباً نخجل منه. ومع ذلك، فلا بد للمراقب والمتابع لظاهرة الاستهلاك الوفير هذه ان ينبه الى نقطتين مهمتين: الأولى: ان مرحلة الاستهلاك المرفّه الوفير مرحلة اقتصادية متقدمة، من وجهة نظر التأطير التقليدي للمراحل الاقتصادية التاريخية التي يمر بها المجتمع. وعندما نقفز اليها فجأة، ومن دون "تأهيل انتاجي" مسبق، فلا بد أن يخلق ذلك ضغوطا متزايدة على "تأهباتنا" الانتاجية، ويجعل القرار الاقتصادي أكثر تعقيدا. الثانية: أن الامم في مراحل النمو الاولى تحتاج الى كثير من "الاخشيشان"، والى مضاعفة الجهد وتحمّل ظروف التشييد والبناء بما تفرضه من خيارات صعبة وتضحيات بكثير من اوقات الترفيه والمتعة. ان "النعومة المتطرفة" التي يشبعها ويُغذيها معاً التعرّض لموجات الاستهلاك المترفة بشطحاتها وهوسها، لا تساعد في ايجاد ظروف اجتماعية ونفسية مشجعة لشحذ ارادة التشييد والبناء. وعلى رغم ان هناك بعض الآراء التي تنزع الى التنظير بأن الزخم الذي يخلفه العطش المتّقد الى مستويات استهلاكية اكثر وفرة وتنوعاً كفيل بأن يغذي محرك "النمو الاقتصادي" وينشط قاعدته الانتاجية ويحفز عناصره المساهمة، الا ان ثمة شكاً في أن "التنمية الاقتصادية" الجادة تستطيع ان تحفظ توازنها، وتركز على اهدافها وتلتزم أولوياتها، وتحفظ اطمئنان وهدوء المشاركين فيها: عندما يسودها ويسيطر على اجوائها... "التهاب" استهلاكي حاد ومزمن.