سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
كيف ينبغي أن نفصل جيلنا الحديث عن السلالة التي سبقته ؟ . المجايلة التاريخية : نظرة رؤيوية تتناول المشهد المنهجي العربي الجديد في فلسفة التكوين التاريخي
المؤلف: سيار الجميل الكتاب:المجايلة التاريخية: فلسفة التكوين التاريخي نظرية رؤيوية في المعرفة العربية الإسلامية الناشر:الأهلية للنشر والتوزيع - عمان / بيروت 1999 - 590 صفحة ما الذي يميز هذا "المشهد" عن ذاك الذي ألفنا تقليده وتقاليده؟ وما الذي جاءنا به هذا "المؤرخ" العربي الجاد عند نهايات القرن العشرين؟ انه الاختلاف والتباين في الرؤية والمنهج والتفكير... والإجابات تترى عندما نتصفح هذا السفر الجديد في دنيانا العربية! في صفحاته الصعبة تتضح لنا صورة ليست ككل الصور المألوفة، وسط ركام من المعلومات... وفي نتائجه، تتضح لنا المعالم الأساسية لخطوط ثقافتنا العربية الإسلامية عبر تاريخ طويل من الإمتدادات! مزج رائع بين الجغرافية والتاريخ ضمن منهج "محكم" من الآليات الفلسفية النشيطة! وربط فعال بين الماضي والمستقبل في التفسير من خلال الوقوف الطويل والمختزل على العلاقات البونية في نسيج حضارتنا في تكويناتها الثقافية والمعرفية... وعلى امتداد تاريخ حافل تبدأ لحظاته الأولى قبل فجر الإسلام... ولا تنتهي الرؤى حتى اليوم، كي يختتمها صاحبها عند نهايات القرن القادم. في البداية، نشد على يدي صاحبه المؤرخ الدكتور سيّار الجميل ونبارك له خطواته المتئدة، ونحن أمام سفره الرائع، والذي جاءنا بعد طول انتظار... كنا نترقب جهود صاحبه على مدى أربع سنوات، ونراه في الغدو والآصال وهو يقرأ ويتابع ويقارن ويتدارس ويرسم ويجدول... ثم يكتب بعد تدقيق وتمحيص، ولم نكن ندري كيف سيخرج أتعابه المضنية في الليل والنهار!!! صحيح أننا كنا نسمع بما يذيعه من مصطلحاته التي ينحتها في محاضراته على الملأ، ومنها "المجايلة التاريخية" وهو المصطلح الجديد الذي أشاعه! ولكننا لم نكن نتوقع في همسنا وجهرنا أن يأتي عمله بالشكل الذي بين أيدينا اليوم... وصحيح جداً أن قراءة العمل صعبة جداً، ولكن لا بد أن يتساءل المرء: كيف إذاً كانت كتابة العمل وكيف كان أمر تحريره؟ ان ذلك كله هو الأصعب بكل تأكيد! لقد اكتشف - كما يذكر - أشياء جديدة في تكويننا العربي والإسلامي من خلال المدارات التي وضعنا فيها! والمدارات أنواع مختلفات بدءاً بالتشكيلات الأولى من العمل، وانتهاء برؤاه من المستقبليات على امتداد القرن القادم. جاء الكتاب بخمسة فصول كبيرة: المدخلات والنظرية والنظام والاستنتاجات والرؤية... بدأنا معه في تحقيباته وتصنيفه لمصطلحات التاريخ وتقسيماته... ثم أدخلنا في نظريته التي أجاد في الإفصاح عنها بكل تأكيد بعد أن أثرى فرضياته بالأمثلة والاستشهادات... ولما أراد إثبات ما يريد قوله، عزز ذلك كله بتوصيف النماذج والأمثلة في تحليلاته لنظام التاريخ في ثقافتنا العربية والإسلامية. ولما انتهى من ذلك، جاءنا بكم كبير من الحسابات والجداول والبيانات والأشكال والرسوم، كي يقف على عصرنا الحالي الذي سينتهي بحسب نظريته الرؤيوية عام 2099م، أي بعد مرور مئة سنة من اليوم كي تكتمل ثلاثمائة سنة على حياة ذلك العصر! وانتهى المؤلف بوضع ملاحق جدولية مهمة جداً لرموز ثقافتنا العربية في التاريخ مصنفاً إياها على أساس التحقيب التاريخي الذي طبق بحسبه نظريته في المجايلة التاريخية. وعند نهايات الكتاب: قوائم ثرة من الكتب والموسوعات والدراسات القديمة والجديدة، ومنها: مراجع بلغات أجنبية عدة حديثة أسعفته كثيراً في انتاج كتابه الجديد. فحوى النظرية الرؤيوية انه تحقيب جديد للتاريخ، يقوم أساساً على تقسيم الزمن الى صنفين من التقسيمات: ماكروات ومايكروات، فالماكرو أطلقه المؤلف على العصر كله الذي تدوم حياته ثلاثمائة سنة بالضبط، والذي يحتوي على عشرة مايكروات، عمر كل واحد منها: ثلاثون سنة! وتصنف الأجيال على هذا الأساس، فعمر كل جيل ثلاثون سنة كاملة. ومن هنا، فإن حصيلة امتداد الأجيال في سياقها التاريخي هي "المجايلة التاريخية": كمصطلح خرج به المؤلف من خلال حفرياته القديمة في اللغة العربية على غرار "المزامنة" و"المقايسة" وغيرهما من المنحوتات اللغوية المشابهة، ثم تدارسها مجتزأة في الفكر الغربي وخصوصاً نقده ومعالجته رؤية عالم الاجتماع الألماني الشهير كارل مانهايم وغيره من العلماء الذين لم ينجحوا في وضع أي نظرية حول الموضوع! لقد نجح المؤلف سيار الجميل نجاحاً متميزاً في إثراء تحقيبه التاريخي على مستوى تنظيره الفلسفي وفرضياته بما أورده من كم هائل من الأمثلة والنماذج التي أسعفته في تطبيقاته لنظريته العربية الجديدة" ذلك أنه يقسم حياة الإنسان أي إنسان فاعل في المجتمع الى قسمين اثنين معتمداً الآجال واحتساب الأعمار، فيحدد على أساس معطى الحياة عند الإنسان في معدلها العام في تواريخنا الاجتماعية ب60 - 65 سنة. فالقسم الأول من حياة الإنسان يعيش في إطار ورعاية الجيل الذي سبقه = 30 سنة للتكوين. والقسم الثاني من حياة الإنسان يعيش في إطار المنتج ورعايته للجيل الذي سيأتي من بعده = 30 سنة للإنتاج، وقد يبدع الإنسان في سنواته الأخيرة من حياة تكوينه ليحتسب ذلك على محصلة إنتاجه، وقد يبقى الإنسان منتجاً في سنواته المضافة من حياة إنتاجه، ليحتسب ذلك على محصلة انتاجه أيضاً!! لقد أسعف المؤلف في مهمته المعقدة منهجه الدقيق في فحص تواريخ الولادات والوفيات = الآجال لرموز الثقافة العربية والمعرفة الإسلامية في التاريخ وضمن علاقة جيوثقافية وبونية في المجتمع مستفيداً من النظرية النسبية في قياس البعد الخامس = المجال. وهذا ما ترينا إياه الملاحق الجدولية التي رتبها في نهاية الكتاب بالاعتماد على أوثق الموسوعات المعتمدة. فماذا فعل؟ لقد تراءت له النتائج التي استنبطها بعد استخدامه الحاسب الإلكتروني في كتابة التاريخ عربياً لأول مرة أثر إدخاله الكم الهائل من المعلومات من خلال برنامجين اثنين، فوقف بعد ذلك على نتائج غاية في البراعة، نجح في توظيفها مستخلصاً بأن حياة تكويننا الثقافي العربي والمعرفي الإسلامي مقسمة الى خمسة عصور كبرى وحصيلتها 1500 سنة تبدأ في سنة 599م بعد مرور 30 سنة على ولادة الرسول ص وستنتهي في سنة 2099م... منطلقاً من ولادة الإسلام الذي يذكر بأن عصرين تاريخيين قد سبقاه من الجذور عمرهما يقدّر ب600 سنة أي منطلقة من ولادة المسيحية! ولقد أتمّ المؤلف تقسيمه للعصور في فلسفته لتكوين الثقافة العربية والمعرفة الإسلامية على نحو تحقيبي حسابي كالتالي: العصور الخمسة: التدوينية - العقلانية - الموسوعية - السكونية - النهضوية. ثم انتقل لكي يجد أن كل عصر = 300 سنة يحتوي على عشرة أجيال، عمر كل جيل 30 سنة، ولاحظ أن الثقافة العربية والمعرفة الإسلامية لهما سمات ومواصفات كل جيل! وهذا "النظام" - كما أطلق عليه - هو الذي يحدد تلك السمات التي يتميز بها أبناء كل جيل، وتجمعهم مواصفات ثقافية محددة تتميز بها رموز كل جيل. وعليه، فإن ذلك "النظام "تحدد فلسفته ثوابت "الأبوة والبنوة"، أو كما أطلق عليها المؤلف سيار الجميل مصطلح "الأستذة والتلمذة"" وعلى حدّ قوله: فكل جيل هو تلميذ لمن سبقه وأستاذ لمن يلحق به! ولعل أبرز ما يلفت النظر في هذا "المنهج" فصل المؤلف حياة التكوين في المجايلة التاريخية لثقافتنا العربية ومعرفتنا الإسلامية بين الأربعين من الأجيال التي عاشت بين 599 م و1799 م، كونه رآها جامعة من السلاسل العنقودية وأشجار العواصم الثقافية التي تميزت بها حياة العرب والمسلمين على امتداد العصور الأربعة الأولى = 1200 سنة. ولكنه يفصل الأجيال اللاحقة في تكويننا الحديث إبان العصر التاريخي الذي نعيش فيه ونعاصره اليوم نحن أبناء الأجيال الحديثة، وهو العصر الذي يعمّر 300 سنة أيضاً ضمن مسمّيات متعددة كالنهضة والتحديث. فيرى بأن سقفه الزمني بين 1799 م وبين 2099 م" وان ثقافتنا وتكويننا في العصر الحديث قد اختلفا في مدياتهما وعناصرهما عما حفلت به تكوينات تاريخنا الطويل المؤلف من أربعين جيلاً حتى 1799. ومنذ هذه النقطة التاريخية التي تعد مفصلاً في المجايلة، كانت هناك سبعة أجيال على امتداد مائتي سنة للمرحلة 1799 - 1999م = 200 سنة! وان الجيل الحالي الذي نعايشه اليوم هو الجيل السابع والأربعون من حياة المجايلة التاريخية الكاملة والحافلة. ولكنه الجيل السابع في إطار العصر الحديث، وستتلونا في القرن القادم ثلاثة أجيال، يختتمها الجيل الخمسون الذي سيقفل عصرنا في سنة 2099 م... وأن المؤلف يقف في نهاية المطاف ليكتب رؤاه وتنبؤاته عما سيحدث في القرن القادم! صحيح أن المؤلف اعتمد الجدولية والحسابات الإحصائية والقياسات الزمنية الثابتة، ولكنه استطاع أن يحدد المتغيرات في إطار ما أسماه ب"الخضرمة" في المجايلة التاريخية، مستفيداً من المنهجية البنيوية والقياسات الكمية والإحصائية في بناء فلسفته الجديدة التي لا أدري كيف ستفرض نفسها في الميدان العربي الثقافي والأكاديمي اليوم. وعند أبناء الجيل السابع الذي تربى على مناهج وتقاليد ربما تخالف الى حد كبير رؤية المؤلف في منهجه وتحقيباته وتطلعاته الى التاريخ والمستقبل بشكل عام، والى الحياة العلمية والفلسفية بشكل خاص. وربما ولد هذا "السفر" في عصر عربي متخلف وبالذات في السنة الأخيرة من القرن العشرين، ولكنه إشارة ضوئية ستلتفت اليه الأجيال القادمة حتماً عندنا في المستقبل. وقد سمعت بأن هذا "العمل" سيترجم الى اللغتين الإنكليزية والفرنسية، كما أن المؤلف أشار في مقدماته أنه سيبدأ بتطبيق منهجه مستفيداً من تجربته في أن يعكف على دراسة التكوين التاريخي للثقافة البشرية والمعرفة الإنسانية واخراج ذلك في سفر فلسفي جديد آخر بالإنكليزية! استنتاجات وأخيراً، لا بد أن نتوقف عند السمات المنهجية الجديدة التي تميز بها كتاب المجايلة التاريخية: 1 - يمكننا القول أن المؤلف قد نجح كثيراً في منهجه الرؤيوي وفلسفته التي تدارس من خلالهما التكوين التاريخي للمعرفة الإسلامية والثقافة العربية، وذلك لأنه انفرد عن بقية المؤرخين والمفكرين العرب المعاصرين بتجسيره العلاقة البونية بين الماضي والحاضر في رؤيته للمستقبل. 2 - أنه أشاع فينا الدفء والحضور بين الذي استفاده من المناهج والفلسفات المعاصرة القائمة اليوم، وبين الرؤية والتفكير العربيين، بما زوّد به ثقافتنا العربية المعاصرة بالمفاهيم والمصطلحات والأفكار الجديدة. وعلى الرغم من اضطلاع المؤلف بكل ما هو جديد في الحياة المعاصرة إلا أن ذلك لم يفقده أصالته وطويته العربية في البحث، وان عمله - باختصار - يأتي اضافة حقيقية للمعرفة العربية المعاصرة. 3 - لقد نجح المؤلف في أن يجنب بحثه ومضمونه المزالق السياسية والمناخات الأيديولوجية التي ذكر بأن لها أنساقاً أخرى في التعامل... وبذلك، فهو قد فصل بين المعرفي والإيديولوجي في قياساته وتحليلاته واستنتاجاته. 4 - لقد أثار المؤلف جملة من القضايا والجزئيات والإشكاليات التاريخية والفلسفية والمعرفية التي هي بأمس الحاجة الى أدوار أخرى لباحثين وعلماء عرب آخرين من أجل البحث والتعمق والدراسة في المستقبل الذي ينتظر ثقافتنا ومعرفتنا العربية والإسلامية في القرن القادم. 5 - لقد كان المؤلف دقيقاً حيناً ومعقداً حيناً آخر في عباراته، التي يصعب على البعض فهمهما بسرعة، كما كان فناناً في التحري عن الجذور، والتعمق في البنى والتراكيب، والمقارنة بين المستكشفات، والدقة في الأرقام، وتقديم جملة كبيرة من الأشكال والرسوم المدعمة لآرائه وفرضياته. كما أن أكثر من رسم وشكل ومخطط بحاجة الى المزيد من الشروح والتوضيحات والتأمل والتحليل والخروج بنتائج مفيدة جداً. 6 - وأخيراً، فإن ما يميز الكتاب كما يبدو للوهلة الأولى: الذهنية المتفتحة لصاحبه وتفكيره المستقبلي وأسلوبه السهل الممتنع. ورغم ورود بعض الأخطاء الطباعية التي نرجو أن يتلافاها ناشرو الكتاب في طبعته القادمة بعون الله، فسيبقى هذا "الكتاب" أحد أبرز الأسفار العلمية العربية المتميزة التي ظهرت في نهايات القرن العشرين.