أعجبت بمقال الأستاذ عرفان نظام الدين "الشرق الأوسط عام 2000" الذي طالب فيه بوضع الخلافات العربية جانباً وإقامة سوق عربية مشتركة... أو "البدء بخطوة صغيرة نحو اقامة هذه السوق وصولاً الى وحدة اقتصادية او تكتل متكامل وقوي يستطيع ان يقف على قدميه في مواجهة التكتلات الكبرى، ويكون له دور في رسم خارطة العالم في القرن المقبل عن طريق تحصين الخارطة العربية في وجه الخارطة الصهيونية"، ودعوة الاستاذ عرفان يؤيدها كل عربي مخلص لأنها تدعو الى ما فيه خير العرب. كلنا يذكر ان جامعة الدول العربية اقامت في مطلع الستينات مجلس الوحدة الاقتصادية وأنشأت سوقاً عربية مشتركة وكانت جلسات المجلس والسوق في دورته الأولى مغلقة كجلسات مجلس الجامعة وجميع اجهزتها. وقد انتخبت رئيساً للمجلس قبل وضع نظامه الداخلي. وظهرت معارضة لأمور كثيرة تتعلق بالسوق في الدورة الأولى. وفي الدورة الثانية دعوت رجال الصحافة والاعلام لحضور اجتماعات المجلس، كما اتصلت شخصياً بعدد من رؤساء التحرير وأبلغتهم ان اجتماعات المجلس ستكون مفتوحة ولن تغلق في اي مرحلة من مراحل المناقشات كما هي العادة بالنسبة لجميع اجهزة جامعة الدول العربية. وبعد الانتهاء من كلمات الافتتاح جات مرحلة المناقشة والتقدم بالاقتراحات اللازمة لقيام السوق العربية المشتركة. ولاحظ رئيس وفد دولة الكويت الأخ عبدالله النيباري ان الجلسة لم تغلق وان رجال الصحافة ما زالوا في قاعة الاجتماع ورفع يده طالباً الكلمة وقال: "يبدو انه سهى على الرئاسة اغلاق الجلسة فالاخوة الصحافيون ما زالوا معنا". أجبت "ان الرئاسة تدرك ذلك وما دمتم فوضتموني بادارة الجلسات لما فيه المصلحة العربية لا أرى مانعاً من وجود وسائل الاعلام معنا". واعتذر الأخ عبدالله وقال انه يرحب بالفكرة وما كان ليطلب الكلمة لو عرف ان هذا موقف الرئاسة لأنه يقدره ويؤيده ويرحب به. لاقى اشراك وسائل الاعلام في حضور الاجتماعات حماساً لديهم وتغيرت مواقف الدول التي كانت سائدة في الدورة الأولى، وتجاوب اعضاء المجلس مع فكرة قيام السوق ما عدا تحفظات بسيطة معقولة ومقبولة. اما جوهر الموضوع فقد بقي كما هو ولاقى كل التأييد. أذكر ان الوفد الأردني كان كغيره من الوفود مشكلاً من خبراء مال واقتصاد بعضهم من القطاع العام والبعض الآخر من القطاع الخاص. من هؤلاء الأعضاء نائب رئيس البنك المركزي والمرحوم كنج شكري أمين عام وزارة الاقتصاد والمرحوم الحاج محمد علي بدير ومعالي المرحوم فريد السعد ومعالي عبدالمجيد حجازي، وهؤلاء الثلاثة من القطاع الخاص وكلهم وزراء سابقون وخبراء في ميادينهم. واجتمع الوفد في منزل سفير الأردن معالي المرحوم انور الخطيب. وفي اجتماع سألت الوفد القادم من عمان عما اذا كانت لديه تعليمات محددة حول ما يطلب منا عمله وما هو الموقف بالنسبة لكل مادة وردت في جدول الأعمال. قال المرحوم الحاج محمد علي بدير، نعم جئنا ومعنا تعليمات مكتوبة ومحددة أقرها مجلس الوزراء حول ما يطلب منا. قلت: "هل هناك امكانية تغيير او تبديل في التعليمات اذا اقتضى الأمر؟". قال: "نحن مقيدون بالتعليمات وهي مكتوبة ولا يمكن الخروج عنها". قلت مداعباً الوفد: "اذن، وبكل احترام، لماذا جئتم؟ ولماذا لم ترسلوا التعليمات بالحقيبة الديبلوماسية؟". تدخل المرحوم فريد السعد وقال: ستجدنا اكثر مرونة من غيرنا من الوفود فاطمئن. خذ هذه التعليمات معك لتقرأها الليلة وستجد فيها كل ما تريد ولن تكون اكثر منا حرصاً على قيام السوق وتحقيق الوحدة الاقتصادية. قرأت التعليمات التي اقرها مجلس الوزراء ووجدت فيها من المرونة ما يساعدنا على اتخاذ المواقف التي لا تتعارض مع التعليمات. وقرأتها في اجتماعنا الصباحي قبل توجهنا لاجتماع المجلس وكان هناك اتفاق في الرأي حول ما جاء في التعليمات. وانعقد اجتماع المجلس وكان هناك اتفاق كامل حول كل ما يلزم عمله. وكانت جميع الوفود تحسب كل حساب للرأي العام العربي الممثل في رجال الاعلام والصحافة، لا احد يجرؤ على الوقوف ضد ارادة الشعوب العربية ورغبتها في قيام الوحدة الاقتصادية والسوق العربية المشتركة. واهتمت دول السوق الأوروبية بالتطور الجديد وطلبت التنسيق والتعاون مع دول السوق. وأخذنا نعقد اجتماعات مشتركة، مرة في عاصمة عربية وأخرى في عاصمة أوروبية. وكان المرحوم محمود رياض وزير خارجية مصر سابقاً وأمين عام جامعة الدول العربية في ذلك الوقت يتعاون مع امين عام السوق الأوروبية المشتركة لتحقيق التعاون العربي - الأوروبي المطلوب. تعلمنا الكثير من هذه الاجتماعات المشتركة التي كانت احياناً تدوم حتى مطلع الفجر. ووجدنا فرقاً كبيراً بين معالجة الدول الأوروبية لمواد جدول اعمالها التي قد تأخذ مناقشة المادة الواحدة ساعات طويلة قبل البت فيها، وبين معالجتنا لهذه الأمور الهامة. وذات يوم قال لي المرحوم محمود رياض بعد انتهاء احد الاجتماعات المشتركة "كم تمنيت لو كانت وفودنا تعالج قضايانا بهذه الدقة ولا تأخذ القرارات الا بعد التأكد من امكانية تنفيذها، ولا تعتمد على الامانة العامة للجامعة لصياغة المشاريع التي كثيراً ما تقر بدون مناقشة رؤساء الوفود". وأضاف المرحوم محمود رياض ضاحكاً: نحن انشط من دول اوروبا. ان مجلس جامعتنا يعد ويناقش ويصوت على ثلاثين قراراً في جلستين او اكثر قليلاً...!! لم يدم الحماس للوحدة الاقتصادية والسوق العربية المشتركة طويلاً فقد تغيرت الأوضاع في الوطن العربي وشقت الخلافات طريقها لبعض القادة العرب وصارت السياسة هي التي توجه الاقتصاد. وتوقفت الاجتماعات المشتركة مع الدول الأوروبية وقال احد الأوروبيين ان الدراسات الاقتصادية المقدمة من الجانب العربي للمناقشة ممتازة لكن الارادة العربية تكاد تكون غير متوفرة. هذه هي خلفية السوق العربية المشتركة ومجلس الوحدة العربية. وبقي ان اقول اننا سبقنا الدول الأوروبية في وضع ميثاق الوحدة الاقتصادية وبعد ذلك اتفاقية السوق العربية المشتركة، لكنها سبقتنا في تنفيذ الاتفاقيات والبروتوكولات التي وضعتها بعدنا. ولا حاجة اليوم لوثائق جديدة للوحدة الاقتصادية والسوق العربية المشتركة فهي جاهزة ولا تحتاج الى تغيير او تبديل اذا توفرت النوايا الحسنة والارادة الصادقة للتنفيذ... وأتمنى ان لا يكون ما نادى به اخي الاستاذ عرفان نظام الدين حول التكتل العربي القوي المتكامل لمواجهة التكتلات الكبرى والمشاركة في رسم خارطة العالم في القرن المقبل - صرخة في واد. * سفير الأردن السابق لدى الأممالمتحدة.