في آسيا، خصوصاً شرقها وجنوب شرقها، قلق. لم يتوقعوا في آسيا ان الحلف الاطلسي بقيادة الدولة العظمى في العالم يتعثر في أول مواجهة عسكرية له منذ إنشائه، ومع دولة من دول العالم الثالث. ولكن للقلق في آسيا أسباباً أخرى تزيد من صعوبات وتعقيدات انشاء نظام أمني آسيوي على النمط الأطلسي. فمنذ أن سقط صاروخ كوري شمالي في مياه المحيط القريبة من اليابان، تحمس بعض الاوساط السياسية والاقتصادية اليابانية، وبتشجيع من اميركا، لإصدار تشريعات تسمح للحكومة اليابانية بتوسيع وتطوير برامج التسلح الياباني. وكانت اليابان أبدت بتردد كبير استعدادها لتقديم مزيد من الدعم للنشاط الأمني الاميركي في آسيا والمشاركة في قوات السلام الدولية، وتعاقدت على شراء أو إنشاء اربعة اقمار اصطناعية لأغراض الدفاع. وتبدو أميركا سعيدة بهذا التطور الجذري في السياسة الدفاعية لليابان، إلا ان آسيا، وبالذات شرق آسيا وجنوب شرقها، لا توجد فيهما دولة واحدة ستكون سعيدة إذا استمر هذا التطور. بل رغم التشجيع الاميركي فان دوائر اكاديمية معينة ومتخصصين عسكريين يحذورن من أن يتحول التطور في السياسة الدفاعية اليابانية ليتجاوز حدوداً لا يجوز بأي حال أن يتجاوزها إذا أريد لآسيا الأمن والاستقرار. أما لماذا يخشى الاسيويون هذا الاتجاه الجديد في السياسة الدفاعية اليابانية؟ فلأسباب كثيرة، لكني اتصور ان اربعة منها تستحق الاهتمام والتركيز. فمن ناحية، يستحيل تصور ان تسمح الصين ببساطة لليابان بأن تقيم مظلة دفاعية صاروخية، وان لم تكن رؤوساً نووية، بهدف حماية تايوان وكوريا الجنوبية، إذ يبقى تحرير تايوان هدفاً قومياً لا تتهاون فيه حكومة صينية ولا تسمح ببناء عراقيل تحول ولو نظرياً دون تحقيق هذا التحرير في أي وقت وتحت أي ظرف. أما كوريا فأثبت التاريخ انها مجال حيوي مشترك لكل من اليابانوالصين ولا بد من تحييده وضمان استقلاله إذا ارادت الصين ان تحتفظ بشرق آسيا مستقراً آمناً. من ناحية ثانية، يسود في شرق آسيا وجنوبها شعور سياسي أقل ما يوصف به هو عدم الراحة، وسبب هذا الشعور هو ان الحال الاقتصادية والسياسية الراهنة في اليابان تبدو لمن يتذكر ولمن درس ويحلل أشبه ما يكون بالحال التي كانت عليها اليابان في عقد الثلاثينات. ولهذا العقد أسوأ الذكرى في آسيا خصوصاً في الصين. ففيه اتسع نطاق الفاشية العسكرية اليابانية لتصبح العقيدة الرسمية لليابان، وفيه خرجت جيوش اليابان تغزو وتخرب وتدمر وتغتصب وتقدم صوراً من الوحشية الصفراء. كان الظن قبل هذا العقد ان ما يسمى بوحشية الجيش الاصفر مجرد دعاية وتشويه لسمعة الشعوب الآسيوية المناهضة، وفي مقدمها اليابان ادارها وروّجها الاستعمار الاوروبي لتبرير وجوده في الصين وبقية آسيا. لا تجوز الاستهانة بهذا الشعور، أي الشعور بعدم الراحة السائد في شرق وجنوب شرقي آسيا. ان الذين عاصروا ثلاثينات هذا القرن في أوروبا، والذين درسوا بالتدقيق والعلمية والحيادية الواجبة أوضاع ألمانيا خلال الثلاثينات يعرفون معنى وخطورة هذا الشعور بعدم الارتياح. إذ صدق حدس الاوروبيين الذين ساورهم هذا الشعور، ونشبت حرب عالمية قضت على حضارة الغرب بمعناها ومحتواها الاوروبي القاري واحلّت محلها حضارة الغرب بمعناها ومحتواها الاميركي، وهو المحتوى الذي نعيش في ظله ويحتمي به بعضنا ويعاني منه البعض الآخر، والكل في كل حال يبدو خاسراً، بعض هويته وشخصيته. وقد يكون في المقارنة بين حال اليابان في التسعينات وحالها في الثلاثينات مبالغة، أو خروج عن سياق العصر. ولكننا لا نتحدث هنا، أو لا ننقل وقائع أو نقارن بين ظروف، ولا نستعيد التاريخ أو ندعي عودته، اننا ننقل شعوراً سائداً في منطقة شرق آسيا وجنوب شرقها، وننقل ايضاً رغبة حكومات هذه المنطقة، أو على الاقل أمنيتها ان تساعد اليابان في الخروج من أزمتها، ولكن ظروف الازمة التي نكبت بها آسيا في 1997 لا تزال تفعل فعلها في غير مصلحة استقرار المنطقة كمنطقة ولا لمصلحتها كدول منفردة. من ناحية ثالثة، لا يخفى على احد من المسؤولين في معظم انحاء آسيا من روسيا شمالاً وحتى شبه جزيرة الهند جنوباً، ان اليابان تأتي في الترتيب الثانية بعد الولاياتالمتحدة في الانفاق على التسلح. والمدهش في الأمر أن الرأي العام المسَّيس في دول الغرب لا يعرف هذه الحقيقة، ومن يعرفها لا يبدي اهتماماً بها. ولا شك أن وراء هذه المفارقة ذكاءً يابانياً مذهلاً استطاع ان يقنع، بسياسته الخارجية التي عرفت بأنها لا لون لها ولا رائحة ولا طعم، بأن هذا الانفاق الهائل على التسلح هو انفاق بغير هدف وبغير مغزى. ولكن لا يبدو أن هذا الذكاء أفلح في إقناع الرأي العام الآسيوي - خصوصاً الصيني والروسي - الذي لم ينسَ ولا اظنه يريد ان ينسى ما فعلته به أسلحة اليابان وجيوشها قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها. من ناحية رابعة، وهي الأهم، معروف ان اليابان لم تعتذر رغم ان جرائم الحرب التي ارتكبها قادتها وقواتها كانت بكل المعايير صارخة، لا تهون الى جانبها جرائم النازيين والا اجتمع صوت من يتهموني بالعداء للسامية. ومع ذلك أظن انه يمكنني ان أصرح بقليل من المجازفة بأنه لو كان في مدينة نانكنغ عاصمة الصين أو في مقاطعة منشوريا أو في جزر الفيليبين في الثلاثينات يهود لما صمدت اليابان في رفضها الاعتذار عن جرائم حروبها. جئتُ على ذكر نانكنغ لأنها المثال والنموذج. مثال على حجم الجريمة التي ارتكبت في الصين في الثلاثينات من جانب اليابان، ونموذج على الإصرار العنيد لليابان على رفض تقديم الاعتذار المتناسب مع حجم الجريمة. لذلك كثيراً ما يوصف هذا المثال النموذج بأوصاف حضارية وثقافية خاصة باليابان، والآن يوصف بأوصاف إضافية لأنه اكتسب بعداً استراتيجياً، فالإصرار على رفض الاعتذار يعني بطريق مباشر انسداد احتمالات المستقبل المتعلقة ببناء نظام امني آسيوي على نسق الحلف الاطلسي. وتجددت قصة نانكنغ عندما نشرت ايريس شانغ في العام 1997 كتاباً اثار زوبعة بسبب حجم الجرائم والفظائع التي حصرتها ودرستها عن وقائع ما اسمته "اغتصاب نانكنج". واضطر رئيس الصين جيانغ زيمين خلال زيارة رسمية لليابان الى ان يضغط بكل قوة الصين الصاعدة، فكان أقصى ما انتزعه من اليابانيين اعتذاراً لم يصل الى مستوى مقبول من الرأي العام الصيني. وتجددت القصة عندما اعلن الناشر الياباني الذي تعاقد مع ايريس شانغ على ترجمة وطبع كتابها في اليابان تراجعه عن النشر. حدث هذا قبل اسابيع ثلاثة أو اربعة، وثارت ضجة في كل من الصينواليابان لأن الناشر اعترف بأنه خضع لتهديدات وضغوط من المستويات كافة في اليابان. قرأتُ تحليلاً معقولاً وجدت فيه بعض التفسير لما يحدث في شأن هذا الاعتذار، أي في شأن إصرار الصين على ان تقدم اليابان اعتذاراً، وإصرار اليابان على رفض الاعتذار. يقول التحليل ان الصين، من ناحية، تمر بلحظة زهو لم تعرف مثلها منذ قرنين او ثلاثة على الاقل. فالنهضة الاقتصادية والمكانة السياسية الجديدة للصين اثارت درجة عليا من الكبرياء لدى قادة الصين، والرأي العام يدفع في اتجاه صحوة قومية. والمعروف لدارس الصين ان عنصر الارتكاز في الحركة القومية الصينية خلال المئة عام الاخيرة كان دائماً وابداً ما شاهدته الصين من ذل واستعباد على ايدي الاستعمار الاوروبي وفي فترة لاحقة انضم اليه الاستعمار الياباني. ويقول التحليل، من جهة اخرى، انه في الوقت نفسه الذي تشعر الصين بالزهو والكبرياء، تمر اليابان بلحظة خجل وفشل لم تمر بمثلها منذ اكثر من خمسين عاماً بسبب تراجعها الاقتصادي وجمود مكانتها السياسية في آسيا وكذلك بين بقية الدول الصناعية العظمى. في الحالين، أي في حال الصين وفي حال اليابان، يكون من الطبيعي والمنطقي ان يزداد اهتمام السياسيين والرأي العام بأحداث الماضي والتمسك بكل ما يمس الروح القومية المتصاعدة. ومع ذلك فإن الاوضاع في اليابان، رغم وصفها احياناً بأنها سيئة واحياناً متدهورة، إلا أنها في كل حال لم تصل، وأظن انها لا تصل، الى الدرجة نفسها التي وصلت اليها في 1945. ويوجد الآن في اليابان تيار يزداد قوة وإلحاحاً يطالب بإعادة درس تاريخ القرن العشرين في هذا البلد باعتبار ان ما يحدث الآن يكاد - اذا استمر معدل التدهور الراهن - يصبح كارثة قومية اسبابها الحقيقية كامنة في كارثة 1945، والتي يقول اصحاب هذا التيار انه حدث تكتم دولي وياباني للتغطية عليها رغم بعض محاكمات جرائم الحرب القليلة جداً التي تمت في اليابان. ويعترف بعض كتابات هذا التيار بأنها تحاول ان تبحث عن اجابات لأسباب لا يريد العقل الياباني ان يناقشها حتى الآن منها: هل توجد عناصر أصلية كامنة في الثقافة اليابانية تجر اليابان الى الكوارث؟ وما هي هذه العناصر إن وجدت؟ هل توجد عيوب خطيرة في الشخصية اليابانية لا يريد اليابانيون مناقشتها أو طرحها للعلاج؟ لماذا يكره الآسيويون اليابانيين الى هذه الدرجة؟ ولماذا تعتبر اليابان الدولة التي تحظى بأقل عدد من الاصدقاء بين دول العالم؟ هل كل اسباب هذه النقائض والعيوب يابانية محضة أم أن قوى خارجية معادية لليابان تسببت منذ قرون غير قليلة في إثارة مشاكل لليابان في الداخل والخارج. في مقابل هذا التيار لا يزال يوجد في اليابان تيار أقوى وأكثر شعبية هو الذي يرفض تقديم اعتذار مناسب عن جرائم الحرب. فالاعتذار بالنسبة الى هذا التيار يؤكد رغبة الدول الغربية في اعتبار اليابان مسؤولة عن كل احداث هذا القرن في آسيا، وتبرئة اميركا من مسؤولياتها عن هذه الاحداث. كذلك يعتبر هذا التيار ان المسؤول عن تخلف آسيا وكل مشاكلها هو الاستعمار الابيض. ولا ينسى اليابانيون ان هذا الاستعمار هو الذي بدأ بشن الحرب على اليابان في القرن التاسع عشر حين أمر بفتح موانيها للتجارة الاميركية والاوروبية، وبدأ يتدخل في شؤونها الداخلية. في النهاية اعتقد هذا التيار انه حتى اذا كانت اليابان ارتكبت اخطاء قبل واثناء الحرب العالمية الثانية فهذه تعتبر من مسؤوليات السلف، أي لا يجوز تحميلها لأجيال جديدة في اليابان. وفي أي حال، إذا كان لا بد من اعادة النظر في التاريخ فليكن تاريخ شخص مثل توجو، الزعيم الذي قاد نهضة اليابان ودخل بها نموذجاً يبين الادوار الايجابية والسلبية - إن وجدت - في تاريخ اليابان. هذا التناقض في الشعور المتبادل بين معظم الآسيويين واليابان يُعقّد المحاولات الجارية لبناء نظام امني في شرق آسيا بقيادة الولاياتالمتحدة الاميركية. ففي اوروبا ومع وجود شعور مماثل احياناً بين بعض شعوبها وإن بدرجة أقل كثيراً، لم يستطع النظام الامني الغربي حلف الاطلسي ان يخفي علامات الفشل والاختلافات التي رافقت اول تجربة عملية يدخلها منذ إنشائه وها هي تشوّه احتفالاته بالعيد الذهبي. * كاتب مصري.