من بيت متوحد في أقصى غرب لندن، جوار الأفق، اتفرس في الضوء فلا أجد أحداً، واحدق في الظلام فتتناهى الي موسيقى بعيدة غريبة التكوين، مزيج من السحر والتوحش والنور، فأرى الما ضي العراقي واهناً نحيلاً يحاول ان يتسلق النوافد والشرفات المقابلة، واتذكر رجلاً أعمى دلني على بيت أهلي ذات مرة. كنت صغيراً عندما أرسلتني أمي الى البرية لاصطياد القنافذ كي تعد من عظامها الطرية علاجاً للأطفال. في ذلك العصر البعيد انشغلت بالعصافير. كانت هناك أسراب منها تحلق في السماء الصافية أو تحط على التلال أو فوق الأعشاش. نسيت نفسي، ولم انتبه الا قبل الغروب بقليل. كان الظلام يهبط سريعاً في تلك الأيام. خفت من قدوم الليل. وأنا في خطوي المضطرب باتجاه بيت أهلي ضللت الطريق. رحت أمشي مسرعاً نحو تجمع لأكواخ بنيت من القش والطين يحيطها فراغ شاسع. وقبل أن أصل قابلت رجلاً اتضح لي فيما بعد أنه أعمى. سألته عن جهة منازلنا. فكر قليلاً وهو يتلمس الاتجاهات بعصاه وقال: "اسلك هذا الاتجاه، لا تلتفت يميناً أو يساراً". فسألته ان كان متأكداً فقال: "أنا اهتدي بالضوء". من المؤكد انه كان يعني ضوء أعماقه الرهيفة وفناراتها العالية. ها أنا الآن اتبع اثر ذلك الضوء، ضوء الرجل الأعمى الذي قادني الى منزلي شعاع قلبه المبصر، ومن حولي موسيقى الظلام المتواصلة القادمة من قلب الأيام، أحاول أن أعثر على عبدالله ومحبوبته بين ركام السنوات الرمادية يوم كنت في السابعة عشرة. كنا نسكن في مدينة الثورة، أكثر التجمعات السكانية فقراً، حشد من الشقاء والنور، خاصرة بغداد الحزينة، سلالات بشرية تحتمي بميراثها العشائري الأثير وتعد نفسها عنوة لأن تصبح جزءاً من المدينة وليس من القرية التي قدمت منها ذات يوم. غير ان حسها الغريزي بانتمائها العميق ظل كامناً في نفوس سكانها فلم تتغير عاداتهم كثيراً انما طرأ عليها تغير طفيف مشوه قليلاً أو كثيراً، لكنه لا يرقى الى ان يصبح معالم، المؤسف انه خلق شرخاً في قلوب ابنائها فلم يعرفوا أين موقعهم بالضبط أهو للمدينة التي يسعون اليها أم للقرية التي بدأوا ينظرون اليها بخجل. هناك في غرفة معتمة خلفت والدي المريض الممدد كقشرة موز جافة، الى جواره أمي ملفعة بالسواد تنظر اليه وتبكي، وتوجهت الى المدرسة. في الشارع الرئيسي رأيتها لأول مرة تقف بانتظار سيارة الأجرة. صعدت فتبعتها. تطلعت في وجهها. كان حزيناً، لم أر وجهاً حزيناً مثل ذلك الوجه أبداً، وربما ذلك ما اشعرني بأنها قريبة مني. كان علي ان أهبط من السيارة قبلها، لكني أجلت ذلك الى ان تنزل هي، لم تتطلع في إلا مرة أو مرتين عابرتين. هبطت من السيارة فهبطت وراءها، وتبعتها في الطريق الى مدرستها، كانت عباءتها السوداء تخفق في الريح. كلمتها فرفضت ان تستجيب متذرعة بالخوف من الطالبات الأخريات. فعدت الى مدرستي خائباً. كانت تلك الأيام الأخيرة في الفصل الدراسي، وكنا نتهيأ لوداع عام فخشيت ألا أراها مرة أخرى. ترى أين أراها؟ في مساء اليوم نفسه سمعت طرقاً على الباب، فتحت فرأيتها تقف ولم تزل بثيابها المدرسية. قالت أنها تود استعارة كتاب مدرسي. في صباح اليوم التالي خرجت بميقات اليوم الفائت فوجدتها تنتظر سيارة الأجرة فركبنا معاً. لم يكن أحد غيرنا، فناولتني الكتاب على عجل. وتمنيت أن أنزل بسرعة كي أرى ما في الكتاب لكني لم أكن أملك أن أدفع اجرة مرة أخرى، فمدرستي بعيدة. وقبل أن أصل الى مكان نزولي كل يوم هبطت من السيارة، وعلى الفور فتحت الكتاب فربما أعثر على رسالة حب، فتشت ملياً فوجدت رسالة كتبتها على صفحة بيضاء من الكتاب، تلك كانت أول رسالة حب أتلقاها في حياتي. أخذت أدور في الطرقات مساء كل يوم بحثاً عنها حتى انتهت السنة الدراسية، أحياناً أراها تذهب الى السوق برفقة صديقتها فترمقني بنظرة سريعة معاتبة، أو أمام دكان فتتحاشى النظر الي، لكني في الغالب ما أخفق في العثور عليها. لا أعرف بالضبط ما هو وضعها العائلي، لكنها كانت دائماً خائفة ومتوتر ووجها حزين. ولقد افتقدتها تماماً عندما ذهبت الى العمل في مدينة بعقوبة في العطلة الصيفية، فهناك احصل على أجور أعلى ولكن علي ان أقضي اسبوعاً في العمل قبل أن اعود الى أهلي مساء كل خميس. في تلك المدينة الغافية والمستيقظة في الصباح أو الليل اعتدت الإقامة في فندق رخيص يديره رجل نطلق عليه "الحاج"، وكنت أعرف ابنه الذي كثيراً ما كان يأتي الى الفندق مساء بعد انتهاء عملنا ليشجعنا بحرارة لأننا ندرس ونعمل في الوقت نفسه. وكان يروي لنا حكايات عن الحب السري في المدينة، غير اني كنت منشغلاً عنه بمحبوبتي التي انستني كل الفتيات الصغيرات الساحرات. عدت مساء خميس الى أهلي، وخرجت الى الطرقات على الفور فرأيت صديقة محبوبتي قرب دكان فسألتها عنها همساً فقالت: رحلت. ارتعش جسدي ولم أنم لعدة ليال، فتشت عنها، وسألت كثيراً، فلم أتوصل الى شيء، ولم أعثر عليها أبداً. ورحت أبكي كلما تذكرتها، وأردد أشعاراً، ومنذ ذلك اليوم أدركت أني أجيد الغناء. تلك الأيام كان علي ان اثبت للسلطات أنني عراقي، وهو أمر حسبت انه سوف ينسيني الحب والغناء والكتب. هكذا ينبغي ان اتهيأ لاستخراج ما يثبت جنسيتي العراقية وهو أمر لا أظن له مثيلاً في العالم العربي، اذ ان هوية الاحوال المدنية قيد النفوس لا تكفي ان تجعلك عراقياً، فعليك ان تثبت عراقيتك. ان استخراج "شهادة الجنسية" كما تسمى كان كابوساً مزعجاً لمعظم العراقيين، ذلك ان المراجعات قد تستغرق أكثر من شهر احياناً، خاصة اذ كنت الأول في العائلة الذي يود الحصول على تلك الوثيقة. لذلك كان علي ان أذهب الى قضاء على الغربي مسقط رأس والدي، وهو مكان أجهله تماماً اذ أنني ولدت في بغداد. هناك استقبلني عمي، وأمضيت الليل معه. كان ليلاً طويلاً شاقاً، والنجوم خفيضة، والسماء أوسع مما رأيت في أي مكان آخر. لكن ما أدهشني هو زوجة عمي العاقر، كانت نظيفة جداً. لكن اجمل ما فيها كانت فصوص الخواتم الفضية في يديها البيضاوين. غير انها تندب سوء طالعها طوال الوقت. بعد العشاء جلسنا من دون كلام، نصغي الى وقع خطوات نائية في الطريق، والى استغاثات متسول في الليل، قالا لي: "لا أحد يطرق بابنا منذ شهور". احسست بضجر شديد، وتمنيت أن أعود. في اليوم التالي أخذني عمي الى الدائرة المختصة، فطلبوا مني الذهاب الى مدينة العمارة التي يتبعها قضاء علي الغربي، فغادرت فجراً. هناك مررت بسلسلة طويلة من الاجراءات الرسمية المعقدة التي تبدو بلا حلول، وقبل نهاية الدوام أرسلوني الى قسم الأرشيف حيث ملايين الأوراق، فتش الموظفون فلم يعثروا على أي سجل لوالدي، فقالوا لي تعال غداً، وتكرر الأمر على مدى اسبوع. عندها قررت العودة الى بغداد. وفي الطريق مزقت "ملف" الطلب. منذ عودتي وأنا اسأل عن محبوبتي. رأيت صديقتها فلم تنفعني بشيء. قالت انها لا تعرف أين تسكن. بعد اسبوعين ذهبت مرة أخرى الى قضاء علي الغربي. وجدت موظفاً آخر غير الذي رأيته في المرة الماضية. قدمت له الطلب. كان شاباً برتبة مفوض في الشرطة. ولا أدري كيف تجرأت وسألته حول سير أمور دائرته. استغرب من السؤال فقلت له: "أنا طالب ولكني أكتب في الصحافة". والحق أنني لم أكن نشرت شيئاً مما كتبت، كنت التقيت بعض مسؤولي الصحف والمجلات ووعدوني بنشر ما أرسله لهم. في تلك اللحظة انهمك المفوض بكتابة عدة صفحات، وعندما انتهى قال لي آمراً: "أجلب شاهدين". فجاء عمي برجلين من المقهى القريب اكدا أنهما يعرفان والدي معرفة جيدة فيما كان المفوض يحثهما على الإمضاء من دون تأخير الأمر الذي أثار دهشتي. وقال مفوض الشرطة مبتسماً: "عد الى بغداد واستلم شهادة جنسيتك هناك. ولكن أرجو ان تكتب في جريدتك أننا نحترم القوانين والنظام، واننا جادون في انجاز معاملات المواطنين". فلم أصدق ما حدث. كل ذلك لم يمكني من نسيان وجه محبوبتي الحزين. لكن ما اسعفني لبعض الوقت هو تعرفي على فتى من أقراني يهوى كرة القدم يدعى كاظم لعيبي. كان أصغر مني قليلاً، لكنه كان موهوباً حقاً. ولشد ما أدهشني بتحريك الكرة بين أربعة أو خمسة لاعبين ليصل الى حارس المرمى ببساطة. ما كان يميز كاظم لعيبي انه لم يكن بمقدوره ان يلبس حذاء رياضة، بل كان يلعب حافياً، لذلك ترى جروحاً وكدمات في قدميه على الدوام. كان ماهراً وطيباً، وكنا نتنبأ له بمستقبل كبير. شكل فريقاً وضمني اليه، وحاول تعليمي اساليب اللعبة وفنونها، وعندما عجز قال لي: عبدالله أنت لا تصلح للرياضة، أنت تصلح للغناء فقط. وفعلاً انشغلت بالغناء والكتب، ورحت أتابع نشاطات المغنين الشعبيين وقصصهم وحفلاتهم، أمثال سلمان المنكوب، وعبادي العماري، وسيد محمد، واسطوانات كير، وجويسم. ولم أعد أذهب الى ساحات كرة القدم. ولم أر كاظم لعيبي بعد ذلك. وبعد حوالى عشرين عاماً من مغادرتي العراق قرأت نعياً في صحيفة عن "وفاة لاعب المنتخب العراقي كاظم لعيبي". واستناداً الى اشارته اهتديت الى محل للحلاقة في الباب الشرقي قيل لي ان المغني فاروق هلال يقص شعره هناك. كان يومها مغنياً معروفاً فذهبت عدة مرات حتى التقيته. فاتفقنا ان نلتقي في بيته في راغبة خاتون. هناك اختبرني، وقال لي: "صوتك خامة جيدة، وتغني بطريقة حديثة، لكنك ما تزال صغيراً فأرى ان تهتم بدراستك أفضل لك ولعائلتك، فطريق الغناء طويل وشاق". عدت الى البيت محبطاً. حاولت أن أغني في الطريق لم أسمع صوتي. وعانيت كثيراً من ذلك حتى التقيت بصديقين تركا أثراً رائعاً في نفسي هما الشاعر كريم العراقي، والقاص عبد جعفر، فانصرفنا معاً للأدب والسياسة والشعر. وسنة إثر أخرى فنّدت الأيام "نظرية" فاروق هلال، واكتشفت ان الكتابة ليست أقل مشقة من الغناء، بل ان الغناء غدا اسهل بكثير مما تصور فاروق هلال الذي أصبح "زعيماً" للموسيقيين في العراق، وأنا غدوت كاتباً، أعني ضحية، مثل أي كاتب في العالم العربي كما أحسب، لا يملك سوى الحزن والحب والذكريات. يا أصدقائي، أيها الماضي، يا محبوبتي الأولى، أنا وحيد في بيت أقصى غرب لندن، جوار الأفق، تعالوا الي.