أضحت التنمية هاجساً يؤرق كل سوداني حادب على مصلحة وطنه، بسبب التدهور المريع الذي أصاب نواحي الحياة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية،.. ورغم ان السودان يعد من أغنى بلدان العالم الا ان مسيرة التنمية فيه تعثرت طوال العقود الثلاثة الماضية. ونحن بصدد الحديث عن التنمية تذكرت مقالات الاستاذ محمد سعيد محمد الحسن في صحيفة "اخبار اليوم" السودانية عن الراحل المقيم، الشهيد، الشريف، حسين الهندي، ووصفه له بأسطورة السياسة السودانية. فقد كان الشريف - رحمه الله - هو وأبناء جيله يمثلون النبض الحي للحس الوطني الطاهر النقي. وكان هو وجيله أول وآخر من اختط منهجاً تنموياً قويماً هدف الى ارساء دعائم المجتمع المدني، والتنمية المستدامة... ويجوز وصفهم بلا شك بجيل الاستقرار والتنمية، الذي اعقب جيل الاستقلال، اذ تخطوا بذلك، الفكر السياسي لعصر الأيديولوجية والحرب الباردة بعقدين من الزمان، فكراً وتنظيراً، وتطبيقاً في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي السياسية. كان منهجهم ومبتغاهم هو تحرير الإنسان السوداني من التبعية الطائفية، واشراكه في صنع القرار المتعلق بشؤونه الحياتية والتنموية. رافعين شعار من لا يملك قوته لا يملك حريته. وعمدوا بذلك الى تمليك الشعب موارد الانتاج، ومده بالخدمات الاجتماعية، حتى يتمكن من الاندفاع الى الامام خطوات في درب التنمية، حتى يتوفر من ثم، الاستقرار اللازم للممارسة الديموقراطية. الامر الذي يصب في محصلته النهائية في مزيد من الاستقرار والتنمية والرخاء للسودان وأهله. خلق هذا التفكير المتقدم، والمنهج التنموي المتطور، المتمثل في تمليك الافراد موارد الانتاج، وتمتعهم بالخدمات الاجتماعية اللازمة، اضافة الى افساح المجال لهم للمشاركة في صنع القرار ثورة اقتصادية واجتماعية باكرة. وقد مثل في ذلك الوقت الركن الاساسي للتنمية المستدامة التي ينادي بها عالم اليوم. اذ تبدأ التنمية المستدامة من اسفل الهرم الاجتماعي، وصعودا الى قمته التنفيذية. وانطلاقاً من هذه القاعدة التنموية المتينة قامت الدولة وقتها بتمليك الاراضي الزراعية للمزارعين عن طريق برنامج الاصلاح الزراعي الذي انتظم مشاريع النيلين الازرق والابيض بتأميمها والتعويض العادل لمالكيها وبرضائهم. وقد صاحب ذلك ايضاً، تغيير في علاقات الانتاج في اقليم الجزيرة المروية. ما نتج عنه اذابة الفوارق الطبقية بين العاملين، لأول مرة، حيث رجحت كفة المزارعين وفاق نصيبه نصيب الادارة والدولة معا. وحتى لا تنعم فئة من المجتمع، على حساب فئة اخرى، فقد صدر قرار بسودنة التجارة الخارجية وقد كانت قبل ذلك حكراً على الشركات الاجنبية التي بقيت في السودان بعد جلاء المستعمر. ومن ثم، قامت الدولة بتسهيل السبل والاجراءات التي من شأنها ان تسمح باستيعاب ملاك أراضي الاصلاح الزراعي السابقين في مجال التجارة الخارجية والصناعات التحويلية، الامر الذي شكل بديلاً عادلاً ومجزياً لهم. من ناحية أخرى حظي العمال والموظفون في العهد الديموقراطي الثاني بكادر وظيفي غطى كل احتياجاتهم المعيشية. وقد تم تطوير ذلك الكادر عن طريق الاحصاءات المستمرة لاسعار السلع الاستهلاكية حتى يتماشى دخول العاملين مع المستوى الفعلي للمعيشة، مما يشكل حافزا للعاملين للحفاظ على المستوى الراقي والمنضبط لاداء الخدمة المدنية، التي كانت الاحسن في ذلك الزمان على نطاق العالم الثالث ودول الجوار الافريقي والعربي. إضافة الى رفع مستوى الانتاج، وحفظاً للمال العام من الضياع بالتسيب او الفساد، وتحصيناً للعاملين من اغراء الهجرة خارج الوطن، حفاظا على استثمارات الدولة في التعليم والتأهيل. وفي ذات السياق، وفي خطوة تنموية غير مسبوقة، انشأت الحكومة بند الادارة العمومية، المسمى ب "بند العطالة"... وهو شبيه ببرنامج الضمان الاجتماعي المعمول به حالياً في الدول المتقدمة، مثل اميركا وبريطانيا وكندا... وقد كان الغرض وراء انشاء ذلك البند، هو رعاية وحفظ الكوادر السودانية المؤهلة خريجو المدارس الثانوية آنذاك، وتدريبها في المكاتب الحكومية لاكتساب الانضباط، والتجربة الوظيفية لمدة ثلاث سنوات، وللحيلولة دون اغراءات الاغتراب كما تقدم. قصد من تلك الاجراءات تقديم حل موقت حتى تتم تعلية خزان الروصيرص، وقيام المشاريع المصاحبة له، مثل مشروع سكر الكنانة وغرب سنار، ومشروع النيل الازرق الممتد حتى وسط سهل البطانة بين نهري عطبرة والنيل الازرق، حيث يتم استيعاب العاملين الذين جرى تعيينهم على بند الادارة العمومية في هذه المشاريع حين اكتمالها. كذلك كان من المؤمل استيعابهم في مشاريع التنمية الزراعية في إقليمي كردفان ودارفور باستغلال مياه الحوض الجوفي، في منطقة حزام غرب السافنا والصمغ العربي. وكان ذلك كفيلا بتوسيع قاعدة المجتمع المدني لتشمل كل مناطق وسط السودان ومناطق الغرب الغنية. النهج التنموي هذا او "الحلم" استمر لمدة سنتين ونصف، واجهض بعوامل خارجية وداخلية. أعقبه انهيار تام في المسألة التنموية، استمر الى يومنا هذا. وقاصمة الظهر في ذلك كانت انقلاب جعفر نميري، او المشروع "القومي العربي" الذي تسبب في تعطيل تعلية خزان الروصيرص. ذلك التعطيل الذي استمر الى يومنا هذا. واسباب ذلك يعرفها السودانيون جيدا اذ تغلبت المصلحة القطرية لبعض الاشقاء على المصلحة القومية الكبرى. فقد وقع الشريف حسين الهندي، الذي كان وزيراً للمالية، في منتصف أكتوبر 1968 اتفاق تعلية خزان الروصيرص مع البنك الدولي، ولكن انقلاب نميري عطل ذلك الاتفاق، وفقد السودان من جراء ذلك فرصة الاستفادة من 4 بلايين متر مكعب من المياه، ظلت تذهب لمصر بنظام التسليف حيث تبلغ الطاقة التخزينية لكل السدود السودانية 14 بليون متر مكعب فقط من حصته البالغة حسب اتفاق مياه النيل 18 بليون متر مكعب من المياه. كما تعطلت المشاريع التي كانت ستصاحب تعلية الخزان. وعندما قام بعضها، مثل مشروعي سنار وكنانة، قاما بتكاليف باهظة باستعمال مضخات الري بدلا من ري القنوات الانسيابي، واخطاء فنية قاتلة بعضها متعمد تسببت فيه ايديولوجية نظام نميري اليسارية في اول عهده بالتركيز على توسيع قاعدة الطبقة العاملة على حساب الطبقة الوسطى دون مراعاة لدراسات الجدوى او المردود الاقتصادي، وهو امر لا تزال البلاد تعاني من اثاره حتى يومنا هذا. حطم النظام المايوي كل اركان التنمية المستدامة التي بدأت في فترة الديموقراطية الثانية، والتي اتاحت للمزارع والعامل والموظف الجلوس جنبا الى جنب مع الحكومة لتلبية احتياجاته، وتوسيع قاعدة المجتمع المدني. ثم انشأ النظام المايوي تنظيماً فوقياً أجوف، اطلق عليه "تحالف قوى الشعب العاملة"، ولم تحظ اي من فئاته بالمشاركة في صنع القرار. ولم يكن فشله بمستغرب في ان يصبح أثراً بعد عين بعد انهيار نظام جعفر نميري بانتفاضة نيسان ابريل الشعبية، فقد انتهت قبل ذلك في مصر الناصرية بموت قائدها. ومن ضمن العوامل الخارجية - الداخلية ايضا، الحرب الاهلية في الجنوب، التي بدأت قبل فجر الاستقلال وتمخضت عن نزيف دائم للدم والموارد على شحها. والسودان اليوم ينفق يومياً، ما يقدر بمليون دولار على هذه الحرب التي تسببت في نزوح داخلي وهجرة خارجية ومزارع وغابات هُجرت وتم زرعها بألغام سنحتاج الى خمسة عقود على الاقل ليتم تطهيرها واعادة الحياة اليها. مضافاً لكل هذا الفساد السياسي والاداري والاقتصادي، الذي ابتلع 10 بلايين دولار في الفترة ما بين 1972 - 1982 "خلال حكم الرئيس الاسبق نميري" واصبحت بذلك ديون يرزح تحت وطأتها السودان الى اليوم. ثم قرارات التأميم والمصادرة التي طالت الرأسمالية الوطنية التي ظلت تنمو نمواً طبيعياً، حتى حطمتها القرارات الفوقية، ما اتاح الفرصة للفئات الطفيلية ان تنمو وتصبح آفة لا تزال تنخر في جسد السودان التنموي والسياسي والاقتصادي. ولم يكن الحكم العسكري وحده اداة الهدم التنموي في السودان فثالثة الاثافي كانت في التخريب المتعمد للمؤسسات التنموية الكبرى، مثل مشروع الجزيرة. وقد حدث في فترة الديموقراطية الثالثة بدوافع الكسب الحزبي الرخيص. اذ تم بقرارات سياسية تهميش دور ادارة المشروع المستقلة التي كانت تتولى متابعة كل شؤون الانتاج والتسويق والتنسيق الاداري والتقني بين اقسام المشروع المختلفة، ما نتج عنه تفكيك اوصال المشروع، وتباعد خطوطه الادارية، حتى وصلت حاله الى ما هي عليه الآن واخشى ان يصبح كارثة بيئية تزيد مساحة التصحر المتمددة ان لم يتم تدارك ذلك. صاحبت هذا التردي السياسي والاقتصادي هجرة كثير من العقول السودانية، منذ منتصف السبعينات حتى اصبح ما يقارب خُمس سكان البلاد يعيشون خارج حدودها الجغرافية وجلهم من جيل العطاء المؤهل. وقاد ذلك الى تفكك عرى التواصل بين ثلاثة من اجياله ما اسهم في اهتزاز تماسك المجتمع المدني والاهلي فيه وانقطاع تواصل الخبرة والقيم الموروثة. ما سبق ذكره يمثل مؤشرات عامة فقط، وخطوطاً عريضة لا يتسع المجال لاستقصائها وسبر اغوارها. الا انها محطات وعلامات بارزة يمكننا ان نستقي منها بعض العبر والدروس. ارجو ان تكون مرتكزاً للمهتمين بأمر التنمية لمزيد من البحث والتقصي في الخراب والقبح اللذين صنعناهما بأيدينا لا بيد عمرو، حتى يعود دولاب التنمية في السودان للدوران فمن دون ذلك لن يدوم الاستقرار ولن تدوم الديموقراطية. * استاذ الدراسات الافريقية - جامعة مدينة نيويورك السيتي.