"زمن الموت والورود" رواية عادل بشتاوي المؤسسة العربية للدراسات والنشر 9199 يقول علي بطل رواية "زمن الموت والورود" للروائي الفلسطيني عادل بشتاوي مخاطباً رنا بطلة رواية: "زمن الموت ابتعد لكنه لا يزال في الأفق، أعرف لانني أسمعه ينادي في الظلمة أحياناً، لكنني لا أريده، لذا أريد من يشدني بعيداً منه. زمن الورود لم يبدأ بعد. أعرف ان نسيمه يمر في مكان قريب فأرفع اليه أنفي وأفرغ ما في رئتي وأعدهما له وأبحث عنه في الليل وفي الفجر وفي البحر وفي وجوه كل من أراهم لكنني لم استطع الاهتداء إليه بعد، لذا أريد من يذكرني به، أريد من يشدني اليه. أريد من يدفعني اليه دفعاً. ان لم يستطع في البداية لذا اشتكي لانني اعرف انه يشدني بعيداً عن زمن الموت وهذا يكفي". ص272 حكاية الانتقال من زمن الموت الى زمن الورود هي ما تقوله الرواية على مدى خمسمئة وثلاث وخمسين صفحة حافلة بالصراعات الداخلية والخارجية. والانتقال من الزمن الأول الى الثاني هو انتقال زمني، مكاني، داخلي في آن. وهذا الاخير هو أصعب أنواع الانتقال لما يتطلبه من تطهير واختبارات نفسية عميقة. والرواية تقول انتقال بطليها علي ورنا زمنياً ومكانياً ونفسياً من زمن الموت الى زمن الورود. واذا كان الانتقال تمّ من نقطتين متباعدتين ومختلفتين جغرافياً ونفسياً وطائفياً، فإنهما يلتقيان في نهاية المطاف عند نقطه واحدة. واللقاء يتحقق بعوامل إرادية وبأخرى قدرية. فما يفرقه زمن الموت يجمعه زمن الورود. وزمن الموت في الرواية هو زمن الهزيع الاخير من الحرب في لبنان وعليه، بمفرداتها الكثيرة من القتل والقصف والخطف الى الشهداء والمجازر والسيارات المفخخة، ومكان هذا الزمن بعض المناطق اللبنانية. وزمن الورود هو الحب والاستقرار والزواج والعمل والتخطيط لحياة أسرية هانئة، ومكانه أبو ظبي. وبين الزمنين - المكانين يمتد جسر من الصراع، التعب، الخطر يقوم البطلان بعبوره. وثمة في الرواية من يمد يد المساعدة. وحكاية العبور هذه هي التي تقولها الرواية. فعلي مقاتل فلسطيني يقيم في قاعدة عسكرية، ويختزن في داخله مجموعة من الاحباطات الخاصة والعامة، وينطوي على مرارة كبيرة وعبث وتشاؤم، ويفقد ثقته بالقضية والقيادة، ويدرك ان إخلاصه للقضية جعله يخسر نفسه ولا يربح القضية. لذلك، نراه ينضح مرارة وهو يتساءل رداً على لوم رفيقه ماهر لتفريطه بفاتنة ابنة خاله: "ماذا تعطيها القضية أكثر مما أعطت غيرها - أرامل وأيتام وتشرد وفقر ومذابح؟" ص21، ونراه يتأجج نقمة حين يتساءل: "وماذا أترك لها بعدي؟ قذراً مثل أبي العباس لا يفتح لها يده براتب الشهيد آخر الشهر ما لم تفتح له ساقيها؟" ص21، 22. ويبلغ تردي علي في مهاوي اليأس ذروته حين يستشهد رفيقه ماهر إثر غارة اسرائيلية على القاعدة، فيقرر الانتحار بأن يجتاز "عدوة الآخرة" وهي حقل ألغام مجاور، لعل لغماً ينفجر به فيريحه من المرارات الكثيرة، غير ان هذا لم يحدث، فيقرر الذهاب الى دمشق ليلتحق بأمه، ومنها يتوجه الى أبو ظبي حيث يعمل خاله لعلّه يجسد فيها بداية جديدة. يبتعد علي عن زمن الموت ومكانه ليكتشف انه يحملهما في داخله" فقلبه مثخن بالجراح، وذاكرته مثقلة بالمرارات والهزائم، وفي هذه الجراح والمرارات كثيراً ما يتقاطع الخاص والعام أو يتماهيان" فعلي لا يستطيع ان ينسى أخته الصغيرة سنا ضحية مجزرة صبرا وشاتيلا. هذه التفاصيل ينهض بها السرد على مستويات ثلاثة" خارجي ويتناول الوقائع الخارجية المتعلقة بالمكان وحركة البطل والشخصيات الاخرى، وداخلي حيث تستعيد الذاكرة ذكريات سابقة. والوقائع والذكريات يتولد بعضها من بعض، ويستثير بعضها بعضاً في حركة جدلية يتحرّك فيها مكوك السرد بين الخارج والداخل. أما المستوى الثالث فهو ذاك الذي يحدث في المخيلة، ويشكل نوعاً من أحلام اليقظة ويتم في صيغ المستقبل وهو نادر الاستعمال في الرواية. وتقفز الرواية عبر الزمان والمكان، فإذا عليٌ وحيد في مياه أبو ظبي، مركبه لا يدور، يتقاذفه الموج والوحدة، ويفقد القدرة على تحديد الاتجاه. وهنا، ايضاً يتحرّك السرد بين حيّزين اثنين: الخارج ويرصد فيه الراوي الذي يستخدم صيغة الغائب حركات علي وتصرفاته في مواجهة الموقف الجديد، والداخل ويستبطن فيه السارد / البطل دخيلته ويجتر ذكرياته بصيغة المتكلم، وفي هذا السرد الداخلي يقارن علي بين حياة الانسان على البر وحياة السمك في البحر، وفي الحالتين يأكل الكبير الصغير ويصارع الجميع من اجل البقاء. فهل يرمز علي الذي ترك قاعدته العسكرية وكفر بالقضية وقيادتها، علي الوحيد في عرض البحر الذي فقد الاتجاه والقدرة على المبادرة، مركبه لا يدور، والناقلات تهدده ولا يستطيع الوصول الى الشاطىء، هل يرمز الى الفلسطيني التائه الذي تخلى عن القضية والصراع في سبيلها؟ هذا التساؤل لا تطرحه الرواية مباشرة. ولست أدري ان كانت تطرحه مداورة غير ان الوضح ان هذا البحار سوف يتابع طريقه. ففي غمرة الوحدة والحيرة وفقدان المبادرة، تتدخل الصدفة الالهية لترسم لعلي مساراً آخر" فبينما هو يتلمّس حلاً لما هو فيه، يبصر على بعد فتاتين اثنتين تسقطان من مركب يمرّ به، وفي اللحظة عينها يدور مركبه فينطلق اليهما، ينقذ الصغرى وتتدبر الكبرى انقاذ نفسها. ويكتشف ان الفتاتين هما رنا وراما ابنتا الدكتور الذي تربطه بخاله علاقة عمل وصداقة. وتشكل هذه الواقعة بداية علاقة بين علي ورنا، وتجديداً لمعرفة سابقة بينهما. ورنا بطلة الرواية تحاول بدورها التخلص من زمن الموت بالموت نفسه، غير انها حين أسقط في يدها وبرز علي في حياتها من جديد تعتمد جسراً آخر للعبور الى زمن الورود. وهنا، لا بد من الاشارة الى التشابه بين كلا العابرين" فعلي ورنا كلاهما يطلع من زمن الموت، ويحمل حفريات منه في داخله، ويحاول التخلص منه بالانتحار، ثم يكون لدى كل منهما تطلُّع الى زمن آخر" فرنا فتاة جامعية فلسطينية الأب، لبنانية الأم، تتعرّض ذات يوم للخطف عند أحد الحواجز، ويقوم ايلي أحد النافذين بتمثيل عملية انقاذها من الاختطاف المدبّر، ثم تستدرج بواسطة بعض زميلاتها في الجامعة الى شلّة يديرها ايلي وتمارس انواعاً من الممنوعات من خطف وقتل وجنس ومخدرات. وتضطر رنا تحت وطأة العرفان بالجميل للانقاذ المزعوم من جهة، والخوف من جهة ثانية الى ممالأة الشلّة ذات ليلة، فيجري تحت تأثير الكحول تصويرها وهي ترقص عارية الصدر، وتستخدم الصور لابتزازها من قبل ايلي الذي تسميه الشيطان. ومن اجل تحقيق رغباته يروح ايلي يجمع بين التهديد المبطن من جهة والترغيب من جهة ثانية فيغدق عليها الوعود الكاذبة ويمنيها بالأوهام الخلّبية. هذه الوقائع تقض مضجع رنا وتتحول الى ذكريات سوداء، فتحاول الانتحار مرتين للتخلص منها، فتنقذها أختها الصغرى في المرتين، باستيقاظها من النوم في المرة الأولى، وبرمي نفسها في أثرها في مياه أبو ظبي في المرة الثانية عندما يقوم علي بإنقاذها. وهكذا، وفي منتصف الطريق يلتقي علي ورنا، وكلاهما يحمل في داخله حواجز تحول دون الوصول الى الآخر" وهنا، يبرز في الرواية صديق مشترك للطرفين يروح يعمل على إزالة الحواجز التي تحول دون اللقاء، ونزع الاشواك التي تجعل العبور الى زمن الورود متعثراً، وهذا الصديق هو فاتنة. ففاتنة هي ابنة خال علي وحبيبته التي لم تغفر له فرصة إضاعتها من يده ذات يوم في خضم إنشغاله بالقضية، وهي الصديقة الحميمة لرنا وتعتبرها نسختها الثانية، مع العلم ان رنا نفسها تأخذ على علي تفويته فرصة الارتباط بها في بيروت فيما مضى ما أضاف حاجزاً آخر الى تلك القائمة بين الاثنين. ولئن كانت الحواجز الخارجية كالاختلاف في الطائفة والجنسية رنا لبنانية الأم من النوع الذي تسهل معالجته كما تبين الرواية ما يعكس وعياً اجتماعياً متقدماً وتحرراً من العقد الطائفية والوطنية، فإن الحواجز الداخلية هي التي تحتاج الى جهد كبير سواء داخل كل من الشخصيتين أو خارجهما الامر الذي تلعب فيه فاتنة دوراً أساسياً. وبعد لقاءات عدة بين الاثنين يتكشّف ان ثمة إمكانية لقيام مشروع مشترك بينهما" غير ان تردد رنا وتوزعها بين شيطانين" ايلي الذي وعدته بالزواج وينتظرها في بيروت، وعلي الذي فوّت فرصة الزواج منها في بيروت وشغل بالها طيلة الحرب، جعلا هذا المشروع يتأخر. وذات لقاء تسرَّب الى علي ان ثمة ما يقلقها وتستنجد به لانقاذها من الشيطان. وإذ تريد البوح له بشيء من ماضيها يرفض ذلك ويدعوها الى زمن الورود ويبلغها أن ما يعنيه هو الحاضر والمستقبل وليس الماضي، والمهم ان تعود اليه نظيفة كما قرّر هو ان يكون نظيفاً. ولتحقيق هذه العودة النظيفة، تعود رنا الى بيروت لمتابعة ما تبقى من دراستها ولاستئصال الشيطان من داخلها بمواجهته. فيكلف علي من يحميها ويراقبها حتى تنجز مهمتها. وهنا، تلعب فاتنة دوراً في تعزيز العلاقة بينهما كلما أصابها فتور، فترسل الورود والشوكولا الى رنا باسم علي حين ينقطع هو عن ذلك. وحين تعود رنا الى ابو ظبي وقد تطهرت من رواسب زمن الموت تُفاجأ بحواجز جديدة نشأت داخل علي جرّاء سوء فهمه لبعض تصرفاتها، غير ان حكاية سمعها عن مصير بلبلٍ عاشق في سهرة عائلية في بيت خاله بحضور أهل رنا توقظ فيه الطفل فيحطم الحواجز ويتحرر من الاوهام والشكوك، ويطلب يد رنا فتوافق، ويضعان قدميهما على عتبة زمن الورود. هذه الحكاية يرويها عادل بشتاوي بخطاب روائي يتعدد فيه الرواة، ويتنوع السرد بين الداخلي والخارجي وأحلام اليقظة وتستخدم فيه صيغ الماضي والحاضر والمستقبل، ويقفز فوق وقائع وأزمنة، وتلعب الاسطورة والحكاية دوراً فاعلاً في التواصل بين الشخصيات وفي تحديد خياراتها. وعلى الرغم طول الحكاية، فان بشتاوي عرف كيف يصل بين اجزائها، ويربط بين احداثها. ونجح في خلق التوتر الدرامي في بعض الاحداث. وعلى رغم غلبة السرد على الرواية، فان الكاتب أفرد للحوار مساحات واسعة حتى غطى فصولاً بكاملها. غير ان لغة الحوار ذات مستويات متعددة تتفاوت بتفاوت المتكلم، ويحاول بشتاوي في بعضها ترجمة المحكية الى الفصحى فيأتي بعبارات هجينة ليست بالمحكية ولا بالفصحى. أما لغة الرواية عموماً فتأتي على قدر من السلاسة والطلاوة. وهي لغة سردية غير انها مبللة بماء الأدب. وتمتح من معجمات متعددة بتعدد البيئة أو طبيعة الحياة أو التجربة أو الموقف الروائي" بين المقاتلين يستخدم مفردات نابية تعكس خشونة الحياة وقساوتها، وقد يستخدم مفردات الخطاب العسكري للتعبير عن حالات نفسية على لسان البطل - المقاتل السابق، وقد يستعين البطل نفسه بمفردات مهنة صيد السمك للتعبير عن الصداقة بينه وبين رنا حين يكونان معاً عند الخليج. وهكذا، يحاول بشتاوي ان يلبس كلَّ حالة لبوسها وان يمتح من آبار لغوية متعددة، غير ان هذه المفردات المختلفة المصادر تنسجم في السياق اللغوي السردي العام. ولعل بشتاوي، بهذه الحكاية والخطاب واللغة استطاع ان يقدم لنا عملاً روائياً ضخماً رصد فيه حركات أبطاله وسكناتهم الخارجية، وقاس عواطفهم وتردداتهم الداخلية، وحلّل شخصياتهم ومواقفهم، وأطل من الخاص على العام فألقى الضوء على مرحلة تاريخية كاملة. وهكذا، تبوّأ بشتاوي مكانة مرموقة بين الروائيين العرب، وجعل "زمن الموت والورود" زمناً للقراءة الممتعة.