ماذا يملك اي شخصٍ لا يملكه غيره؟ تجربته وخبرته وما يعمله. هذه هي "المواد الخام" التي يملكها كل شخص، شخصياً، دون سواه. وأسوأ ما يمكن ان يحدث لشخص هو ان لا يعي قيمة ما لديه. لا توجد تجربة او عمل او خبرة، مهما بدت صغيرة، غير جديرة بالتأمُّل فيها والتعبير عنها. لا توجد تجربة فاشلة، اذ ان اية تجربة، اذا عُبِّر عنها، فانها تُضيف أبعاداً في حياة الناس والمجتمع، وتصبح مادة للحوار والمناقشة والتعلُّم. لا توجد خبرة ليس بامكانها ان تضيف معنى لكلمة، او تغيّر إدراكاً لمشكلة، او تعمِّق وعياً لواقع. لا توجد تجربة لا تحمل في طيّاتها بذور أمل، وبدائل ذهنية لعمل، ومادة غنية لتعبير. ان التجربة الفاشلة هي التجربة التي نهملها ولا نعبر عنها. ولكن، ماذا يعني التأمُّل في خبرة او عمل والتعبير عن ذلك؟ للاجابة على هذا التساؤل، سأختار بعض الأمثلة البسيطة لتوضيح الفكرة. عندما عملتُُ موجِّهاً مركزياً لتدريس الرياضيات في الضفة الغربية خلال عقد السبعينات، كنت أزور المدارس وأطرح اسئلة مثل: هل 1 = 1؟ ما معنى ذكاء؟ هل يوجد طفل غير منطقي؟ وأطلب ربط ذلك بالحياة. ومن بين الأمثلة التي كنت استعملها: كنت اضع نقطة ماء، ثم اضيفُ نقطة اخرى فوقها، فأحصل على نقطة واحدة، اي ان 1"1=1. كنت عندها أسأل: ما رأيكم؟ كانت الردود في البداية تدور عادة حول: "ولكن النقطة الناتجة أكبر". كنت أرد بوضع واحد اكبر كنتيجة، هكذا: 1"1=. كما كنت اتساءل في نفس الوقت: هل نقطة الماء التي بدأت بها مكوّنة من نقطة واحدة بالضبط، ام انه يمكن تقسيمها الى عدة نقط؟ كانوا عادة يرفضون قبول ذلك المنطقة في البداية، ويدافعون عما هو في الكتاب المقرر دفاع المستميت. عندها كنت اسأل: هل تصدقون اعينكم ام تصدقون رموزاً في كتاب؟ كان ذلك المثال البسيط يخلق نقاشاً غنياً مع الأطفال. وبناء على النقاش كان حلهم للمشكلة يتلخص عادة بقولهم: "يعتمد الجواب على الظروف. ففي بعض الأحيان 1"1=2، وفي احيان اخرى تساوي 1، وربما في احيان تساوي 3 او عشرة او لا يوجد لها معنى". كنت أسعى من وراء ذلك ان يعوا ان المعرفة ليست امراً خارجهم، وهي ليست فوقهم او سيدهم. المعرفة ليست سيفاً نسلّطه فوق رؤوسهم، ونقيس بموجبها قيمتهم عن طريق ما يحفظونه منها عن طريق ما يسمى بالعلامات/ الدرجات. المعرفة تشكل الوسيلة الرئيسية في التعامل مع الحياة والطبيعة والآخرين. بهذا المعنى، لا توجد حقائق مطلقة، ولا توجد معرفة او معنى لكلمة خارج سياق معين. وهذا يعني ان كل شخص بانٍ لمعرفته، من حيث معاني الكلمات والعبارات التي يستعملها، وذلك على ضوء السياق والظروف والهدف من استعمالها. وهذا ايضا يعني ان التعبير الصادق هو الذي يربط الأفكار بالأعمال والسياق. كما يعني ايضا ان الجواب الجاهز المطلق والنهائي يعيق التعلم عادة، وان المعرفة ليست محتوى، بل عملية بناء في الذهن حول الواقع الذي يعيشه المتعلم. مثال آخر: كنت في شهر شباط/ فبراير المنصرم مع صديق عزيز، هو عماد ثروت، نتناول الطعام ونتبادل الحديث. قال عماد: "تفضّل عيش يا منير". والعيش في مصر، كما هو معروف، يعني الخبز في بلدان اخرى. خطر في بالي عندها، ولأول مرة، ان كلمة "عيش" لم تعد صحيحة في عالم اليوم. فقلت لعماد: "ربما يكون من الأصحّ ان نسمي ما نأكله هذه الأيام "موت" وليس "عيش"، اذ ان الطحين الابيض، وهو الاكثر استعمالاً في وقتنا الحاضر لصنع الخبز، قد أُعطي الى فئران فماتت، اذ لا يوجد في هذا النوع من الطحين من المواد الغذائية ما يكفي ليعيّش حتى الفئران!" ان اعادة تسمية الأمور اصبحت مسألة "عيش او موت"، حرفياً، في العصر الذي نعيش فيه. فالتأمُّل حتى في أمر بسيط مثل الخبز يثير عدة قضايا ويشير الى عدة ظواهر ملازمة للواقع الذي نعيشه ولكنها غائبة عن الأذهان، قضايا مثل محتوى ما نأكل، وكيف يُسلب الطحين من مواده الغذائية ولأي غرض يفعلون ذلك. اما المثال الثالث فيتعلق بصديق عزيز آخر، هو جمال السايح، اذ بعث برسالة يقول فيها: "دوّختني يا صاحبي بقضية التأمُّل والتعبير. لقد وجدت نفسي، بعد مناقشة ممتعة مع صديق، أتأمل في كلمة "نتناقش" باللغة العربية، وجرّني ذلك الى جذر الكلمة، نقش، والتي تعني النقش في الحجر لجعله جميلاً. فلو نقلنا هذه الصورة وهذا المعنى الى المناقشة والتناقش بين شخصين فان ذلك يعني اننا ننقش عقول بعضنا فنخرج اجمل مما كنا عليه في بداية المناقشة". هناك بالطبع فارق بسيط، اذ ان النقش في الحجر عملية منتهية، بينما النقش في العقول عملية لا تنتهي أبداً بل تستمر طوال الحياة. ما اجمل هذا المعنى وما اجدره ان يصبح المعنى المتداول والممارس للمناقشات في العالم العربي. فاذا قارنّا هذا المعنى الأصيل بالممارسة الحالية لكلمة مناقشة والتي يمكن تلخيصها اما اننا لا نسمع ما يقوله الآخرون، او نحاول البرهنة اننا على صواب والآخرين على خطأ، بحيث نخرج اقلّ انسانية واكثر كرهاً، بعضنا لبعض، فاننا نرى مدى التدهور في الوعي والممارسة، ومدى الابتعاد عن جمال اللغة والحضارة، ومدى ضرورة اعادة التأمل في الكلمات والممارسات والمعاني. كان أجمل ما سمعت من تعريفات للنقطة في الهندسة، وهذا هو المثال الرابع، قد جاء على لسان طفلة تبلغ السابعة من العمر، حين قالت: "دائرة بدون ثقب". اي، عندما تضمر الدائرة وتستمر في الضمور حتى يختفي الثقب من وسطها فانها تصبح نقطة! لم اسمع قبل ذلك من اي شخص، ولم اقرأ في اي كتاب، مثل ذلك التعريف الأصيل الرائع، الذي ينمُّ عن خيال خصب، وتأمُّلٍ مبدع، وفكر ديناميكي مرن. حصل ذلك عام 1974، ومنذ ذلك الحين لم تنقطع دهشتي من جواب تلك الطفلة. الا ان المثال الذي قلب الأمور في ذهني، وجعلني أعي ضيق ادراكنا لمعنى المعرفة والتعلُّم الذي نتبناه في المدارس والجامعات بوجه عام، فقد كان "اكتشافي" للرياضيات التي كانت تستعملها امي الأمية في عملها وحياتها اليومية. "اكتشفتُ" ذلك عام 1976، وكنت عندها ادرِّس في جامعتين وأعمل موجِّهاً مركزياً لتدريس الرياضيات في مدارس الضفة الغربية. وكانت احدى القضايا التي كنت احاول معالجتها وقتئذ هي كيفية ربط الرياضيات بالحياة. وبينما كنت أفتِّش في الكتب والمجلات عن امثلة جيدة، انتبهت ان ما كنت أفتّش عنه كان قائماً في بيتي أمام اعيني، ولكني كنت معمياً عنه. انتبهت الى ان امي الأمية كانت تتعامل مع الرياضيات بطريقة اعمق وأشمل وأصدق بكثير مما كنت قادراً عليه! فقد كانت أمي تخيط الملابس، فتأتيها النساء في الصباح بقطع مستطيلة من القماش ويشرحن لها ما يرغبن. وكانت امي تستمع لهن، فتكوّن على ما يظهر صورة في ذهنها، والتي بموجبها كانت تحول كل قطعة كبيرة مستطيلة من القماش الى اكثر من ثلاثين قطعة صغيرة متناثرة حول الغرفة، ومن ثم تجمع تلك القطع الصغيرة وتحولها الى ملبس جميل متناسق يناسب الشخص صاحبة القطعة! من الواضح ان ذلك العمل يتطلب قدرة هائلة في التعامل مع الأنماط والنماذج الذهنية والعلاقات والترتيب والتنظيم الذهني وتحويل كل الى اجزاء والأجزاء الى كل جديد. وهذه بالذات، وليس العمليات الحسابية والتقنية، مهما بلغ تعقيدها، هي جوهر الرياضيات. في المقابل، كانت الرياضيات التي درستها ودرّستها في الجامعات والمدارس عبارة عن رموز لا علاقة لها بواقع ولا رابط لها بكلٍّ. وحتى طرق التقييم التي كنت استعملها لم تكن تقيس اية قدرة في حقيقة الأمر، غير القدرة على التعامل مع رموز وكلمات مُبهمة، عن طريق استعمال رموز اكثر إبهاماً نسميها العلامات. اما بالنسبة لأمي فكان نجاحها يعتمد على اتقان ما كانت تعمل. كان من الضروري ان يكون ما تخيطه من ملابس مطابقاً لأجسام الأشخاص المعنيين كان التقييم حقيقياً وليس رمزياً. تأمَّلت في ذلك "الاكتشاف" عدة سنوات، قبل ان استطيع استيعاب كل ابعاده وكل غناه ومدى عمقه. وفي نفس الوقت، اخذت اعي بازدياد ضحالة ما اعرفه وهزالة ما استطيع عمله. تأملت في ذلك "الاكتشاف" تسع سنوات قبل ان يتبلور في ذهني بشكل استطعت معه الكتابة عنه. وأول مرة كتبت فيها عن ذلك كان في رسالة الدكتوراه، فقد كان ذلك "الاكتشاف" القصة الاولى والفكرة المحورية في تلك الرسالة. ومن ثم نُشر في مقالة تُرجمت الى ستّ لغات على الأقل. وفي النهاية، سأحاول تلخيص بعض العناصر المشتركة بين هذه الأمثلة كمحاولة للاجابة على السؤال الذي طرحته في البداية: ماذا يعني التأمل في الأعمال والخبرات والتجارب التي نقوم بها، والتعبير عنها؟ لعل الصفة الانسانية المشتركة بين جميع الأمثلة هي ربط الكلمات والمعاني والمفاهيم بالسياق والممارسة والخبرة. في كل مثال، كان هناك اعادة للنظر في معاني كلمات ومصطلحات نستعملها: الجمع، عيش، مناقشة، نقطة، رياضيات، معرفة. وتمثّلت اعادة النظر تلك في اعادة تعريف لكلمة، او في اغناء معنى لمصطلح او مفهوم. وفي كل مثال، كانت اعادة النظر هذه مبنية على ربط المعاني والكلمات بالعمل او الخبرة او السياق الذي يعيشه الشخص. والتفكير ضمن سياق هو في رأيي افضل انواع ما يُسمى بالتفكير النقدي. في كل مثال، كانت هناك فكرة محورية بسيطة ومتوفرة، أدّت الى تخيل بدائل لمفاهيم مألوفة. في كل مثال، كان هناك خلخلة وبناء في نفس الوقت.في كل مثال، كانت هناك اسئلة وتساؤلات، وكان هناك اعادة لبناء ذهني حول الواقع. والاسئلة والتساؤلات حول الواقع، وليس المعلومات والاجابات الجاهزة، هي البذور الحقيقية في اي بناء معرفي. فالمعرفة ليست محتوى وانما عملية مستمرة في رسم خارطة في الذهن حول العالم الذي نعيشه. من هنا، فان معنى اي كلمة هو تقريبٌ مؤقت، يُغْنى ويتطوّر مع الوقت ومع زيادة الخبرات والأعمال، وليس معنى نهائياً مجمداً داخل الكلمة وداخل الذهن. لماذا، على رغم كل هذا، نكاد لا نرى اثرا يُذكر للتأمّل في الاعمال والخبرات في العملية التعليمية، وفي مناهجنا "الوطنية"؟ وكيف تكون المناهج وطنية اذا غابت منها خبرات الناس وتعابيرهم؟ ربما يكون اسوأ انواع الهدر، والتي نحن أقل وعياً بها، هو الهدر المتمثّل في اهمال خبراتنا وتجاربنا وما نقوم به من اعمال. فأي شخص عمل عدداً من السنين في موقع ما ولم يترك أثراً لذلك، يكون بمثابة كنز يُدفن معه. ان كل الكلام والبرامج عن تطوير التعليم وعن التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكل الميزانيات والخطط، سيتبخر ويذهب هدراً اذا لم يرافق ذلك تأمُلٌُ فيما نعمله وما نختبره، واذا لم يتحول ذلك التأمُّل الى تعابير تكون في متناول الناس، من اجل نقاشها والبناء عليها. وهذا صحيح سواء اكانت تلك الخبرات في مجال التعليم او الاقتصاد او المجتمع او الاعلام او الفن او الزراعة او البيئة او السياسة او الدين. ومن الجدير بالذكر اني اتكلم عن هذه التعابير كمصادر مفيدة وملهمة وليس كنماذج تُقتدى بشكل آلي. تكمن القيمة الاجتماعية لأي عمل، وبالتالي قيمة الشخص او المؤسسة او المجتمع الذي يقوم بذلك العمل، في التعبير عنه. من هنا، فان الدور الرئيسي لما يُسمّى بالتعليم الأساسي هو في رأيي التأكد من ان كل طالب وطالبة قد اكتسب قدرة واحدة على الأقل للتعبير عما يعمله او يختبره. ومن هنا ايضاً، فان قيمة اي مؤسسة او شركة او مجموعة تكمن ليس فقط فيما تقوم به من اعمال وانما في التعبير التأملي عن ذلك. * جامعة هارفارد اذا كان التعلُّم يبدأ بأسئلة، حاول ان تصيغ الأسئلة التي تشغل بالك اكثر من غيرها. واذا كانت المعرفة تبدأ بالتأمل فيما نعمله او نختبره، والذي يشمل بلورة معان للكلمات التي نستعملها، حاول ان تتذكر بعض الكلمات التي تشعر بأنك اعدت بناء معانيها، حتى لو كان ذلك عن غير وعي منك وقتئذٍ. و/ أو اذا كنت تعرف كتاباً باللغة العربية يحكي قصة طفل او فتى او فتاة في مجتمع عربي، بحيث تعكس القصة الغنى والأبعاد الحقيقية في ذلك المجتمع، وذلك من اجل ترجمته ونشره لقراء غير عرب في عمر الاطفال او الفتية، ان ترسلوا بعنوانه الى: منير فاشه الملتقى حول التعليم العربي مركز دراسات الشرق الأوسط جامعة هارفارد/ كامبردج/ ماساشوستس او فاكس 617.496-8584