على رغم أن صامويل هانتنغتون ينتقد في مقاله الأخير في مجلة "فورين أفيرز" عدد ربيع 1999 سياسة الولاياتالمتحدة الخارجية ويحذرها من العزلة الدولية، إلا أنه يتبنى في الواقع التوجهات الفكرية نفسها التي تنطلق منها السياسة الاميركية الراهنة، والتي تدفع اميركا لأن تصبح فعلاً القوة العظمى "المنبوذة" في العالم. ففي وقت ذكر الكاتب بالتفصيل كل الاتهامات التي توجهها دول العالم - صغيرها وكبيرها - إلى السياسة الاميركية، إلا أنه لم يسع الى مناقشة تلك الاتهامات أو تفنيدها وإنما لجأ - بدلاً من ذلك - إلى القول إن طبيعة وضع الولاياتالمتحدة كدولة عظمى تؤدي "أوتوماتيكيا" الى مثل هذا الموقف منها! وكأن كل هذه الأسباب الموضوعية التي يذكرها القاصي والداني هي مجرد "مبررات" تسوقها تلك الدول للتغطية على موقفها الاصلي النابع ببساطة من كون اميركا هي الدولة العظمى. بعبارة أخرى، فإن قوة اميركا المذهلة - وليس أسلوب استخدامها لهذه القوة - إنما يستثير "عين الحسود" في كل أرجاء المعمورة!! ويبني هانتنغتون مقاله على فكرة رئيسية مؤداها ان هناك اليوم تحولين دوليين رئيسيين: أولهما أن العالم يشهد إعادة تشكيل على أساس ثقافي حضاري، وثانيهما حدوث تحول جوهري في هيكل القوة الدولي. ويرى الكاتب أن التفاعل المستمر بين هذين العنصرين هو الذي سيخلق أنماط العلاقات الدولية المستقبلية. أما في ما يتعلق بالعنصر الثقافي، فيعيد هانتنغتون تأكيد نظريته الشهيرة في شأن صراع الحضارات. إلا أنه يضيف هذه المرة بُعداً جديداً الى الخلل الأصلي الذي اعتور تلك النظرية منذ البداية. كان أحد أوجه الخلل الرئيسية في نظرية هانتنغتون هو ما اتسمت به كل ثقافة - عنده - من تماسك وتجانس داخلي بالمطلق لا يسمح بوجود التباينات والتناقضات التي يجسدها الواقع. ولهذا السبب، تعجز تلك النظرية عن أن تفسر لنا مثلاً كيف كانت كل من فرنسا وكندا - المنتميتين الى الثقافة الغربية - هما الأكثر مقاومة للهيمنة الثقافية الأميركية. ولا يمكنها أن تقول لنا شيئاً عن الصراع التجاري الحضاري بين أميركا وحلفائها التجاريين في ما عرف أخيراً ب "حرب الموز". واضاف هانتنغتون هذه المرة بُعداً جديداً لهذا الخلل عندما سلم بما تزعمه اميركا عن نفسها من ان الديموقراطية وحقوق الانسان قيم "اميركية". فرغم أن الكاتب يطالب اميركا بالكف عن اعتبار نفسها "القوة العظمى الخيّرة" التي تترادف قيمها ومصلحتها مع قيم ومصلحة باقي دول العالم، فإنه لا يشكك في كون هذه القيمة "أميركية" وانما يطالبها بالكف عن هذا الزعم لسببين آخرين أولهما: أن مصلحة القوة الأكبر لا بد وأن تتناقص احياناً مع مصلحة غيرها. وثانيهما: أن السياسة الاميركية هي ذات بُعد "أخلاقي" فريد لا ينطبق على السياسات الخارجية لدول أخرى. بعبارة أخرى، سلّم هانتنغتون بأن القيم المذكورة هي قيم "أميركية" فعلاً، بل بأن السياسة الاميركية لها طابع "أخلاقي" فريد. ولا يوجد ما هو أبعد من ذلك عن الواقع، فلا القيم "الاميركية" ولا السياسة الاميركية ذات طابع "أخلاقي فريد". أما القيم، فالمشكلة الرئيسية تتمثل في إصرار اميركا على احتكارها لنفسها ودمغها بخاتم "صنع في اميركا" رغم أنها ميراث عالمي أسهمت فيه تلك البلاد مثلها مثل غيرها. بل إن إسهامها خصوصاً في ما يتعلق بحقوق الانسان لا يقارن على الاطلاق بإسهامات الخبرة الأوروبية مثلاً. وهذا الاستيلاء الاميركي على تلك القيم هو أحد مصادر صراع اميركا المستمر مع شركائها في الثقافة الغربية الذين يمقتون المزايدات الاميركية عليهم. أما في ما يتعلق بالطابع الفريد للسياسة الخارجية الاميركية، فإن هذه السياسة هي، فعلاً، ذات طابع فريد، إلا أن هذا التفرد ليس مصدره أنها ذات بُعد "أخلاقي" لا يوجد في غيرها، وإنما مصدره أن هذه السياسة كانت دائماً - وستظل - مجالاً لصراع مستمر بين تيارين: تيار الواقعية القائم على دعم المصلحة الاستراتيجية الاميركية، وتيار آخر يمكن ان نطلق عليه تيار "الهوية". فعلى عكس دول كبرى ذات تراث حضاري مثل فرنسا أو الصين فإن اميركا - كدولة من المهاجرين من بقاع الارض كافة - وجدت نفسها دائماً إزاء سؤال مهم هو: ما معنى أن تكون اميركياً؟. وكانت الاجابة تقليدياً ان الاميركي هو من يتبنى "اسلوب الحياة الاميركية". وظلت السياسة الخارجية الاميركية إحدى أدوات التأكيد على الهوية المشتركة للاميركيين عبر اقناعهم بأن دور بلادهم الخارجي انما يهدف الى ضمان "اسلوب الحياة الاميركية" بقيمها ومفاهيمها. وظل هذا الخيط أحد أبرز مصادر التناقضات الكثيرة في السياسة الخارجية الاميركية التي تتصارع طوال الوقت بين التأكيد على الهوية الاميركية: القيم والمفاهيم وبين حماية المصلحة الاستراتيجية الاميركية على الأرض. ومن ثم فإن "الطابع الفريد" للسياسة الخارجية الاميركية لا يأتي مما يزعمه هانتنغتون من وجود بُعد "أخلاقي" لهذه السياسة لا يوجد في سياسات دول أخرى، وإنما يتمثل في طبيعة اميركا نفسها وما تعكسه على سياستها الداخلية والخارجية على السواء. وهذه الخصوصية هي التي تجعل الساسة الاميركيين لا يكفون عن "وعظ" العالم في شأن حقوق الانسان، من دون أدنى خجل من سجل اميركا نفسها الحافل بانتهاك تلك الحقوق، سواء في ممارساتها الدولية أو حتى على الأرض الاميركية وضد المواطنين الاميركيين خصوصاً من أبناء الأقليات. أما في ما يتعلق بالتغير في هيكل علاقات القوى، يُقرر هانتنغتون ان العالم في الخطة الراهنة يشهد نظاماً دولياً فريداً في خصائصه أطلق عليه اسم "الآحادية المتعددة "Uni-multi pola فهو مرحلة انتقالية من نظام القطبية الثنائية الى نظام تعددي، مرّ بلحظة قصيرة من الآحادية اثناء حرب الخليج. ويتكون هذا النظام "الانتقالي" - وفق هانتنغتون - من دولة عظمى وعدد من الدول الكبرى "الاقليمية". فالولاياتالمتحدة تتبوأ مكان الصدارة في المجالات كافة، بينما تحتل الدول الاقليمية الكبرى مكانة بارزة، كل في اقليمها من دون ان تكون لديها القدرة على مدّ نفوذها ومصلحتها الى ما دون ذلك، كما تفعل الولاياتالمتحدة. وهو نظام تسوّى فيه القضايا الدولية عبر دور محوري للقوة الأعظم ولكن بالاشتراك مع عدد من تلك القوى الكبرى، مع احتفاظ الدولة الأعظم بالقدرة على إحباط أي عمل جماعي لتلك الدول، اذا ما تعارض مع ارادتها. وعلى ذلك فإن هذه القوى الاقليمية الكبرى لها مصلحة في مقاومة الهيمنة الاميركية. وهي مقاومة تختلف في درجتها من فترة الى اخرى ولكنها مرشحة الى أن تتحول في وقت ما الى جهد جماعي من شأنه أن يحول النظام الدولي الى نظام متعدد الاقطاب. ولكن في كل من هذه الاقاليم توجد قوى إقليمية "أصغر" ترفض زعامة القوة الاقليمية المهيمنة وتجد فيها تهديداً لها. ومن ثم فإن لها مصلحة في تحدي الولاياتالمتحدة لنفوذ تلك القوى الأكبر. عند هذه النقطة يشرع هانتنغتون في تأمل تفاعل العنصر الثقافي مع هيكل القوى هذا، ويقدم بمقتضاه مجموعة من التوصيات لاميركا تسمح لها في تشكيل النظام التعددي على نحو يحمي مصلحتها حين يخرج هذا النظام الى النور. فيرى الكاتب أن علاقة اميركا بالقوى الكبرى الاقليمية ستشهد بالضرورة توترات، وإن كانت تلك التوترات ستكون في ادنى مستوياتها مع تلك القوى التي تنتمي للثقافة نفسها، هذا بينما يرشح لاميركا ان تتعاون مع القوى الأصغر في كل اقليم والتي من مصلحتها مناهضة القوة الأكبر في اقليمها. وفي الواقع، فإن هذا التطوير الذي أحدثه هانتنغتون لنظريته، ليس أفضل حالاً من تلك النظرية الأصلية لصراع الحضارات. إذ تشويه مجموعة من الفجوات الفكرية التي تعجز بمقتضاها هذه النظرية في طورها الحالي عن التعامل مع الكثير من الظواهر الدولية. فعلى سبيل المثال، لا يعير الكاتب بالاً للفارق بين "القوى الكبرى" ذات المصالح في ما وراء إقليمها وبين "القوى الاقليمية الكبرى" التي تتمتع بنفوذ قوي في محيطها الجغرافي في دون غيره. لذلك، يضع هانتنغتون فرنسا والمانيا في الخانة نفسها مع البرازيلوايران من دون اعتبار للفروق الواضحة بين المصالح والأهداف الاستراتيجية المختلفة باختلاف هذه الدول. والطريف حقاً، أن هانتنغتون لم يحدد لنا معيار اختياره لكل من تلك الدول التي اعتبرها "قوة اقليمية" كبرى، فما الذي جعل ايران قوة اقليمية ولا يجعل تركيا كذلك؟ ولماذا تعتبر نيجيريا هي القوة الاقليمية الاكبر في افريقيا وليس دولة جنوب افريقيا؟. أما الأطرف على الاطلاق فأنه سقط سهواً من خريطة هانتنغتون اقليم يدعى "الشرق الاوسط". فهو تحدث بدلاً منه عن اقليم سماه "افريقيا" وعيّن فيه نيجيريا قوة كبرى، واقليم "جنوب غرب آسيا" وعيّن فيه ايران دولة كبرى. واختار هانتنغتون السعودية كدولة أصغر تتنافس مع ايران على الزعامة في هذا الاقليم. أما المفاجأة الكبرى التي احتفظ بها هانتنغتون لقارئه حتى السطور الأخيرة في مقاله، فهي أن هناك صراعاً ثقافياً في ذلك الاقليم الذي نسيه، يسمى الصراع بين العرب واسرائيل، وهو صراع لا بد أن تركز عليه الولاياتالمتحدة ضمن الصراعات الثقافية الاخرى في العالم، مثل الصراع في جنوب آسيا. كان الكاتب أوصى الولاياتالمتحدة بالكف عن الرغبة في لعب دور البوليس في العالم وتفويض هذا الدور لكل قوة اقليمة كبرى في اقليمها، مع الاستمرار في دعمها لقوى الاقليمية الاصغر لئلا تستحوذ القوة الاكبر بنفوذ قد يضر بالمصالح الاميركية. وعندما تقوم الولاياتالمتحدة بهذا التفويض فإنها تصبح أكثر قدرة على التفرغ للتركيز على صراعات من نوع خاص رشحها هانتنغتون لتستحوذ على اهتمام أميركي وهي الصراعات "الثقافية" لأنها تحمل في طياتها عنفاً كامناً يهدد بقوة المصالح الاميركية، مثل الصراع بين العرب واسرائيل والصراع في جنوب آسيا لأنها صراعات بين قوى تنتمي لثقافات مختلفة. ولا غرابة في الواقع في غياب الشرق الأوسط من خريطة هانتنغتون. ذلك لأنه أتى في سياق الانحياز الذي تنطوي عليه أطروحتا هيكل القوى والصراع الثقافي. فلا يمكن في إطار أطروحة هيكل القوى التي شرحها هانتنغتون الاشارة إلى الشرق الأوسط. لأن هذه الإشارة كانت تعني بالضرورة ان يتناول اسرائيل كقوة عسكرية ضاربة، صارت كذلك بفضل التسليح "الاميركي"، الذي حرص على التفوق العسكري النوعي لاسرائيل على كل دول اقليمها مجتمعة، وهو أمر كان سيتناقض بالضرورة مع القيم "الخيرة" التي تزعمها اميركا عن نفسها، وسلّم بها هانتنغتون. فهذه الاشارة كانت ستفتح على الكاتب باب التعامل المباشر مع الاتهامات الموجهة الى أميركا من كل دول العالم بدءاً من ازدواج المعايير وحتى غطرسة القوة. كما أن ذكر الشرق الأوسط كان من شأنه ان يحدث ارتباكاً في مقولة هانتنغتون بالغة التسطيح التي مسحت اقليماً بأكمله من الخريطة ثم اعتبرت أن الصراع الاساسي فيه سيكون صراعاً ايرانيا - سعودياً على الهيمنة والنفوذ. ذلك أن ذكر الشرق الأوسط كان سيفرض عليه الحديث عن موقف السعودية من الصراع العربي - الاسرائيلي. ومن المستحيل عندئذ تجاهل الدور السعودي التاريخي في هذا السياق، وإلا لماذا كان الرئيس روزفلت يتعهد للعاهل السعودي تحديداً في 1947 بأنه لن تتم تسوية "المسألة الفلسطينية" من دون استشارة العرب؟! إلا أن الأخطر في نظرية هانتنغتون هو أن الصورة التي قدم بها الصراع العربي- الاسرائيلي لا مكان فيها قطعاً لأي حديث عن حقوق تاريخية مشروعة ولا حتى عن قوانين وأعراف دولية. فهي صيغة تؤدي اتوماتيكياً الى وضع اميركا - بل الدول المنتمية الى الثقافة الغربية كافة - أمام بديل واحد هو الانحياز الى اسرائيل التي تشترك في موروثها الثقافي مع هذه الدول. ومن ثم، فلا مجال لموقف مثل الذي اتخذه اخيراً الاتحاد الأوروبي من إعلان الدولة الفلسطينية، والذي قام على معيار آخر غير الذي يرشحه هانتنغتون. ولا تقف خطورة هذه الصيغة عند هذا الحد وانما تمتد لتشمل منح اسرائيل "بالوراثة" احتكار القيم العالمية التي احتكرتها اميركا لنفسها من قبل. ومن ثم، فلا مجال للحديث عن انتهاكات اسرائيل الوحشية لحقوق الانسان، مثلما لم يكن هناك مجال للحديث عن انتهاكات اميركا لحقوق الانسان. ثم يستخدم هانتنغتون مبرراً هزيلاً لضرورة تركيز اميركا على الصراعات التي اسماها "ثقافية". ويتمثل هذا المبرر في ان العنف الكامن في هذا النوع من الصراعات أكثر خطورة من غيره. ولا حاجة في الواقع الى اثبات هزال هذا المبرر، إذ أن العنف الوحشي الذي تنطوي عليه صراعات إثنية في أوروبا، ذات الثقافة "الواحدة" - عند هانتنغتون وحده - تتحدث عن نفسها. باختصار، قدم هانتنغتون صورتين لمنطقتنا من العالم: الصورة الأولى اختزلت تعقيدات المنطقة كلها في مجرد صراع ايراني- سعودي على الهيمنة، لا تعدو فيه اسرائيل إلا أن تكون الحمل الوديع الذي لا ناقة له ولا جمل، ويحتاج الى الحماية وسط صراع شرس بين أطراف "أكبر"!! أما الصورة الثانية، فهي صورة صراع حضاري بين طرف رفيع الثقافة، هو بالضرورة اسرائيل، وطرف يحتاج الى دروس في الحضارة والتحضر، اسمه العرب، الذين يعيشون في العصور الحجرية وتحكمهم قوانين الغابة! * باحثة مصرية.