عيد "شم النسيم" هو واحد من الأعياد المصرية التي ترجع الى العصر الفرعوني، ويرتبط موعده بطبيعة التحولات المناخية في وادي النيل في فصل "شمو" القديم، ومنها التحول الى الارتفاع التدريجي في درجة الحرارة ومنسوب المياه في النهر، وبداية موسم رياح الخماسين الدافئة الجافة، وما تمثله هذه التحولات من أهمية بالنسبة الى العمل الزراعي في تلك المنطقة. وهناك ايضاً فكرة الارتباط بتجدد الحياة والخصوبة كما تعكسها عادة الاحتفال بعيد "شم النسيم" وبين فكرة البعث والخلود، كما تصورها العقيدة الاوزرية "اوزوريس" واسطورتها الشهيرة التي كانت تعكس واقع الحياة اليومية وخبراتها عند المصري القديم وتحمل تصوراته وتفسيراته الخاصة بما يحيط به من ظواهر طبيعية غامضة. ثم هناك بعض العناصر الاحتفالية التي تكرر ظهورها في الأعياد المصرية القديمة الى مظاهر الاحتفال بعيد "شم النسيم"، ومنها الخروج الجماعي الى البساتين والحقول والتنزه بقوارب في النيل، وإشعال المصابيح والنيران وتناول الاطعمة الخاصة بالمناسبات احتفالاً بمواسم العمل الزراعي وتقديمها كهدايا او قرابين في فصل "شمو" الذي كان يشهد نضج المزروعات وحصاد بعضها. على ان اهم ما يؤكد مصرية هذه العادة الشعبية هو دورها ووظائفها الاجتماعية في المجتمع المصري الزراعي المصري، فهي علامة زمنية تحدد موعدها تحولات الفصول والتغيرات المناخية المصاحبة، كما انها وسيلة لنقل الخبرة الجماعية في العمل الزراعي وتوارثها بين الاجيال. واستمرت هذه العادة تقوم بهذا الدور الاجتماعي مع استقرار الطبيعة الجغرافية لوادي النيل واستمرار الزراعة كنشاط رئيس لسكانه منذ اقدم العصور الى اليوم. وعيد "شم النسيم" وثيق الصلة بعيد الفصح اليهودي، لجهة ان بني اسرائيل حين خرجوا من مصر في عهد موسى، عليه السلام، وافق ذلك اليوم موعد احتفال المصريين ببدء الخلق وأول الربيع واعتبروه رأساً لسنتهم الدينية، واطلقوا على يوم خروجهم "الفصح" وهي كلمة عبرية بمعنى اجتاز او عبر. وكان "شم النسيم" يوافق موعد احتفالهم بأول فصل الربيع الذي يحتفلون به في موسم الحصاد واطلقوا عليه بالهيروغليفية اسم "شمو" وهو احد فصول السنة المصرية القديمة ويشمل اربعة اشهر من منتصف شباط فبراير حتى منتصف حزيران يونيو، وحُرّف الاسم على مر العصور الى "شم" واضيفت اليه كلمة "النسيم" حتى تصبح علماً عليه. وهكذا اتفق عيد الفصح العبري بعيد الخلق المصري، ثم انتقل الفصح بعد ذلك الى المسيحية لموافقته موعد قيامة السيد المسيح. ولما انتشرت المسيحية في مصر اصبح عيدهم يلازم عيد المصريين القدماء ويقع دائماً في يوم الاثنين وهو اليوم التالي لعيد القيامة. ويذكر المؤرخ الفرنسي، بيير مونتيه في كتابه "الحياة اليومية في عهد الرعامسة" والذي ترجمه الى اللغة العربية الاستاذ عزيز مرقص منصور، ان زراع الكروم كانوا يتخذون من المعبودة رنونت Renouanet آلهة الحصاد، وهي التي يعهد اليها المحافظة على مخازن الغلال والملابس والعنب واقبية الخمر الاحتفال بعيدها في اول فصل "شمو" الذي يتفق وافتتاح موسم الحصاد. وكان ملاك الاراضي يقدمون الى المعبود الثعبان "رنونت" عند الحصاد حزم القمح ودواجن وخيارا وبطيخا وخبزا وانواعا اخرى من الفاكهة. وفي اسيوط يقوم كل شريك في الزراعة للمعبود المحلي "أوب وأوات" بشائر محصولة. ومما لا ريب فيه ان المعبود المحلي في كل جهة كان يتلقى مثل هذا القربان، وكان الملك نفسه يقدم حزمة من القمح الى المعبود مين MIN إله الخصوبة امام حشد كبير من الاهالي، يقام في حفل في الشهر الاول من موسم "شمو". اعتاد المصريون القدماء ايضا ان يخرجوا مبكرين حفزا للهمم والنشاط، ورمزاً لأولئك الذين اطاعوا الالهة "صخور" وهم يحملون معهم اواني الجعة وهي تشبه لون الدم المسفوك ليسكبوها قبل فتكها واهلاكها للبشر. كما اعتادوا ايضا ان يحملوا معهم طعامهم وشرابهم، وكانت الاسرة تجد متعة في ركوب القوارب الخفيفة وهي تسير بهم على صفحة اليم يجمعون الزهور ويصطادون الاسماك والطيور ويغنون ويرقصون على انغام الناي والمزمار ويقضون يومهم في لهو وفرح. وكان احب انواع الطعام لديهم في ذلك اليوم، البيض والسمك المملح "الفسيخ" والبصل والخس والملانة ولحم الاوز والبط المشوي. فالبيض يرمز الى خصب الطير وموعد ظهور جيل جديد منه، ولأن أكله بعد موعد فصل الربيع غير مقبول، والبيض عند الفلاسفة هي اصل الخلق، وازدادت قداستها عند ظهور المسيحية فجعلوها رمزا للحياة، وصبغوها باللون الاحمر. واصبحت البيضة رمزا للشيء الصغير تخرج منه الحياة مجسمة في شكل مخلوق، وفي الصيام الكبير يصوم المسيحيون عن كل ما هو حيواني، واكل البيض رمز للحياة وفأل حسن في عيد الربيع. وكانوا يجففون السمك ويملحونه. وذكر "هيردوت المؤرخ اليوناني الذي زار مصر نحو القرن الخامس قبل الميلاد، ان المصريين كانوا يأكلون السمك ويجففون بعضه في الشمس ويأكلون بعضه نيئاً ويحفظون البعض الآخر في الملح، وقد يعني ذلك "الملوحة" او "الفسيخ" الذي كانوا يرون ان اكله مفيد اثناء تغيير الفصول. ومن العادات المألوفة لدى المصريين القدماء ان يعلقوا حزماً منه حول اعناقهم في عيد "نتريت" ويقع مع عيد الربيع في 29 كيهك، فيطوفون حول الدار البيضاء "منف" تبركاً به، كما اعتاد بعض الناس ان يعلقوا حزم البصل على ابواب المنازل ويصبوا عصيره على عتب الباب، ويضعونه تحت وسائدهم ويشمونه عند مطلع الفجر، اعتقاداً منهم انه يطرد الامراض، كما اعتادوا ان يضعوه قرب انف الطفل عند ولادته لما له من رائحة نفاذة ومن ثم اصبح البصل تقليداً يؤكل مع الفسيح في عيد "شم النسيم". اما الخضر وبخاصة "الملانة" والخس فأكلها لذيذ في هذا الفصل من السمنة، واجمع العلماء على ان الخس البلدي يحتوي على مادة زيتية تجلب الخصب والقوة والحيوية وان فيه نسبة من فتيامين "ه" الذي يستعمل الآن لعلاج الحالات التناسلية عند المرأة والرجل على السواء، كما ثبت ان هناك علاقة كبيرة بين فيتامين "ه" وهرمونات التناسل، لذلك بلغ عندهم مرتبة التقديس، وخصص للمعبود "مين" اله التناسل القديم. وكان العيد رمزاً للخضرة المحببة الى نفوسهم وعلامة بعث نبات جديد، وموعد تفتح الزهور، فحيثما ألقى المرء بنظرة على الآثار وجد الزهور في كل مكان، وكان المصريون القدماء يعشقونها ويقدرون ما فيها من جمال الطبيعة وسحرها، ويقدمونها قرابين. ومن اغاني المصريين القدماء احتفالاً بعيد "شم النسيم": "احتفل بهذا اليوم السعيد، واستنشق روائح العطر وزيوته، وضع اكاليل من زهور اللوتس علي ساقي اختك وصدرها، تلك المقيمة في قلبك، الجالسة الى جوارك، ولتصدح الموسيقى بالعزف والمنشدون بالغناء، ولا تهتم بشيء، بل اغتنم فرصة المرح والسرور قبل ان يجيء اليوم الذي تقترب فيه من الارض التي تألف السكون". ولم تختلف كثيراً المظاهر الاحتفالية بعيد "شم النسيم" في الوقت الحاضر عما كان عليه في عهد قدماء المصريين، وان اختلفت الوسلية لهذه المظاهر. ففي القرن التاسع عشر الميلادي يقول ادوارد لين "يحتفل المصريون ب"شم النسيم" في اليوم الاول من الخماسين وهو يقع دائماً في يوم اثنين، فيقومون وبخاصة النساء، مبكرين في هذا اليوم، فيكسرون بصلة ويشمونها ويبكرون بالذهاب الى الريف المجاور راكبين او راجلين، او يتنزهون في النيل ويتجهون الى الشمال على العموم ليتنسموا، او كما يقولون ليشموا النسيم وهم يعتقدون ان النسيم في ذلك اليوم في وتأثير مفيد عجيب، ويتناول اكثرهم الغذاء في الريف او النيل". ويقول أحمد أمين في كتابة "قاموس العادات والتقاليد": "وقبل هبوب الخماسين يخرج المصريون الى المزارع ل"شم النسيم" وهم يعتقدون انهم اذا شموا النسيم في ذلك اليوم وهو اليوم المعروف ب"شم النسيم" اتقوا شرور الرياح الخماسينية". ويحرص سكان القاهرة على الاحتفال بهذا اليوم بالخروج الى شاطىء النيل والحدائق العامة، وبينما يتوجه بعضهم جماعات بالزوارق البخارية الى حدائق القناطر الخيرية، ويتوجه البعض الآخر بالسيارات الى الخلاء عند الطريق الصحراوي بين القاهرة والاسكندرية ويفضل آخرون السفر لقضاء هذا اليوم في احدى المدن القريبة كالفيوم والاسماعيلية والغردقة. واذا اتجهنا الى الجنوب فإننا نجد في مدينة المنيا مظاهر الاحتفال ب"شم النسيم" اكثر بهجة وصخباً، إذ تخرج العائلات الى شاطئ النيل وقد ارتدى الصغار ثياباً جديدة. * باحث مصري في التراث الشعبي.