عندما نتأمل أسماء الأساتذة في كلية الآداب في الجامعة المصرية، في السنة الأولى من إنشائها، نلحظ على الفور أن معظم الأسماء الأجنبية في هذه القائمة تنتسب إلى إيطاليا التي لم تتردد في مد يد العون الى الأمير أحمد فؤاد باشا رئيس مجلس إدارة الجامعة. ولذلك تتصدر القائمة أسماء المستشرقين: كارلو نالينو لتدريس تاريخ آداب اللغة العربية، ودي÷يد سانتلانا لتدريس تاريخ التعاليم الفلسفية، وجيراردو ملّوني لتدريس تاريخ الشرق القديم. وكان هؤلاء الأساتذة الرواد الذين تتلمذ عليهم الرعيل الجامعي الأول الذي كان على رأسه طه حسين. وتولت التدريس، إلى جانب مجموعة المستشرقين الإيطاليين، مجموعة أخرى من الأساتذة الأجانب الذين ينتسب كل واحد منهم إلى دولة أجنبية بعينها، كما لو كان هناك حرص على أن تكون الغالبية في الهيئة التدريسية من الأساتذة الإيطاليين وحدهم. ولذلك لم يكن هناك من الأساتذة الإنكليز سوى المستر غيل الذي استقدمته الجامعة لتدريس الأدب الانكليزي، والمسيو لومونييه لتدريس الأدب الفرنسي، فضلاً عن المستشرق الشهير إّنو ليتمان لتدريس علم مقارنة اللغات السامية. وإلى جانب هذه الأسماء الأجنبية أسماء مصرية تضم حفني ناصف بك لتدريس آداب اللغة العربية، والشيخ محمد الخضري لتدريس تاريخ الأمم الإسلامية، وسلطان محمد أفندي لتدريس الفلسفة العربية والأخلاق، وإسماعيل رأفت بك لتدريس الجغرافيا وعلم الشعوب. وأول ما يلفت الانتباه في هذه القائمة أنها تضم اسماً واحداً ينتسب إلى فئة المشايخ، هو الشيخ محمد الخضري، أما بقية الأسماء فتنتسب إلى فئة الأفندية المطربشين. ولكن جميع الأسماء الوطنية تنتسب إلى الغالبية المسلمة من ناحية مقابلة، ولا تضم اسماً لأستاذ ينتسب إلى الأقلية القبطية أو المسيحية بوجه عام، ذلك رغم تمثيل هذه الأقلية فى مجلس إدارة الجامعة من ناحية، وإسهام أعلامها في الدعوة إلى إنشاء الجامعة من ناحية أخرى. وأسرع الأسماء وروداً على الخاطر في هذا المجال هو اسم جرجي زيدان الذي كان من السابقين في الدعوة إلى إنشاء الجامعة على صفحات مجلته "الهلال". وأتصور أن قصة جرجي زيدان 1861-1914 مع الجامعة المصرية قبل تأسيس كلية الآداب، تشير إلى عقبة التعصب الديني التي قصدت الجامعة إلى مواجهتها منذ البداية، ولكنها رضخت لها على نحو مباشر على الأقل في حالة جورجي زيدان تحديدا. فقد طلبت إدارة الجامعة من الرجل أن يتولى التدريس فيها بإلقاء مجموعة من المحاضرات في التاريخ الإسلامي، ولكنها سرعان ما تراجعت عما طلبت تحت ضغط العناصر التي غمزت الجامعة لاستعانتها بمسيحي لتدريس التاريخ الاسلامي. ويحكي دونالد مالكولم ريد تفاصيل هذه القصة على نحو موثق في كتابه عن دور جامعة القاهرة في بناء مصر الحديثة. ويبدأ من اكتشاف جرجي زيدان الأرثوذكسي اللبناني علم الاستشراق في حجرة المطالعة بالمتحف البريطاني سنة 1868، وبداية اهتمامه منذ ذلك العام بمناهج المستشرقين الحديثة التي حاول تطبيقها على التاريخ الاسلامي، وهو التاريخ الذي أخذ جرجي زيدان ينظر إليه منذ ذلك الحين بوصفه تاريخ التمدن الإسلامي. وأفضت به اهتماماته البحثية في تعمق تاريخ التمدن الإسلامي إلى اقتحام ميدان اللغات التي من شأنها سبر أغوار الماضي الإسلامي فى تفرع علاقاته ومؤثراته، فتعرف العبرية والسريانية واللاتينية بالإضافة إلى اللغات اللازمة لقراءة كتب المستشرقين، أعني الإنكليزية والألمانية والفرنسية. وكان من حصيلة معارفه المذهلة ما أبدعه سرداً وما كتبه تأليفاً، ابتداء من رواياته التاريخية التي حاولت سرد التمدن الإسلامي بواسطة قص تاريخي يثمر المتعة الفنية والفائدة العلمية، وانتهاء بكتابيه الطموحين والرائدين في آن: تاريخ التمدن الإسلامي، وتاريخ آداب اللغة العربية. وابتهج جرجي زيدان الذي كان يفخر بأنه راعي فكرة إنشاء الجامعة المصرية، فيما كتب هو شخصيا، عندما تلقى دعوة الجامعة إلى القاء مجموعة من المحاضرات في التاريخ الإسلامي. لكنه قرأ بالمصادفة في جريدة "المؤيد"، في أحد أيام تشرين الأول اكتوبر سنة 1910، قبيل بدء العام الدراسي، أن الجامعة قررت تعيين أستاذ آخر بدلاً منه خشية معارضة المسلمين. وأكد مجلس الجامعة خبر جريدة "المؤيد" في حرج، وأعرب عن احترامه لخبرة زيدان العلمية، لكنه أظهر الخشية من إثارة مشاعر المتعصبين من المسلمين غير المتعلمين، إذا تولى واحد من غير المسلمين تدريس التاريخ الإسلامي، فانسحب زيدان مأخوذاً بالمفاجأة. قد يكون اضطراب الأحوال السياسية المرتبطة باغتيال رئيس الوزراء القبطي بطرس غالي سنة 1910، وإطلاق الرصاص عليه بواسطة مسلم، واللجاج الطائفي الذي ثار على صفحات الصحف المصرية في ذلك العام، مسؤولاً عن حرج إدارة الجامعة الوليدة في أن تمضي في ما شرعت فيه من إيكال مهمة تدريس التاريخ الاسلامي إلى عالم غير مسلم، الأمر الذي دفعها إلى التراجع عن دعوة جرجي زيدان الذي يظل كتابه عن "تاريخ التمدن الإسلامي" علامة مضيئة في ريادة الدراسات التاريخية الحديثة، شأنه في ذلك شأن كتابه عن تاريخ الأدب العربي الذي كان بمثابة المحاولة المنهجية الأولى لتأريخ التراث الأدبي عند العرب. ويبدو أن اضطراب الأحوال السياسية هو المسؤول كذلك عن تغذية بعض النعرات الطائفية التي سرعان ما تداركها العقلاء من أبناء الأمة الذين دعوا إلى ضرورة أن يكون "الدين لله والوطن للجميع". لكن هذه النعرات سرعان ما ارتدت ثياب التعصب الذي لا يعرف معنى التسامح، خصوصاً من العناصر المضادة للمجتمع المدني والمعارضة للدولة المدنية على السواء. وهو الأمر الذي كان من نتيجته الهجوم اللاحق على كتابات جرجي زيدان في مجال التاريخ الإسلامي، وذلك ابتداء من الهجوم الذي نشرته مجلة "المنار" للشيخ محمد رشيد رضا، تلك المجلة التي ازدادت، بعد وفاة الامام محمد عبده المستنير، سنة 1905، إيغالاً في التعصب والهجوم على التفكير المدني بوجه عام، وعلى الجامعة الجديدة بوجه خاص. وأحسب أن مثل ذلك الهجوم بقي لفترة غير قصيرة مسؤولاً عن خوف الجامعة من إيكال مهمة تدريس تاريخ الأمم الإسلامية لغير مسلم من الأساتذة المحليين، ذلك على رغم قبول هذه الجامعة مبدأ تدريس المستشرقين الأوروبيين غير المسلمين مناهج لا تقل حساسية عن "تاريخ الأمم الإسلامية" مثل الفلسفة الإسلامية التي تولى سانتلانا تدريسها، أو الأدب العربي الذي تولى كارلو نالينو المحاضرة فيه. وأتصور أن حكاية جرجي زيدان مع الجامعة المصرية الوليدة على هذا النحو تنبئ بمفارقات البداية التي انطوى عليها إنشاء كلية الآداب، سواء من المنظور الديني أو السياسي، وفي علاقة مجلس إدارة الجامعة بقوى الضغط الداخلي والخارجي على السواء. وما كان ينبغي لإدارة الجامعة، منطقيا وعلميا على الأقل، أن تتراجع عن دعوتها التي وجهتها إلى جرجي، خصوصاً أنه كان يمكنها الاستناد إلى الحجة نفسها التي رد بها الأمير أحمد فؤاد على المسيو ماسبيرو الذي اعترض على التعليم باللغة العربية بمعرفة مدرسين أجانب، وكان ذلك حين أوضح الأمير بما لا يدع مجالا للشك أن مقام الجامعة مقام يفرض الابتعاد عن كل مناقشة سياسية أو دينية، وأنه لا يسمح مطلقا لأي اعتبار سوى العلم بالتدخل في نفع الجامعة العلمي. ولكن من الواضح أن الكلام المعلن عن الأماني والأحلام والرغبات شيء والتطبيق الفعلي المرتبط بالواقع العملي شيء آخر مختلف. ولذلك تغلب مبدأ الواقع على مبدأ الرغبة في تأسيس استقلال كلية الآداب، ومن ثم تأسيس حرية البحث العلمي في الجامعة بأسرها. ولم تقتصر مفارقات البداية هذه على عقبة التعصب الديني عند التقليديين من أنصار المجتمع القديم ودعاة الدولة الدينية، وإنما امتدت إلى صراع القوى الاستعمارية التي حاولت فرض نفوذها بتمكين أساتذتها من السيطرة على توجهات الجامعة العلمية. وكان واضحاً منذ البداية أن فرنساوإيطاليا وإنكلترا، ثم ألمانيا بدرجة أقل، تسعى جميعاً للسيطرة على الجامعة الأهلية. وفقدت المجر النمسوية فرصتها في السباق عندما رفض اغناتسيو غولدتسيهر الدعوة التي وجهها إليه الأمير فؤاد للتدريس في الجامعة. وصنع صنيعة الهولندي سنوك هرغروني الذي عمل لدى الشركة الهولندية للهند الشرقية لمدة سبعة عشر عاماً. ولذلك ظلت ساحة الصراع مقصورة على فرنسا وإنكلترا بالإضافة إلى إيطاليا. لكن المفارقة الدالة في هذا السياق أن الأمور في الجامعة سارت على غير ما أرادت إنكلترا في البداية بسبب كراهية المصريين للورد كرومر أولا، ثم لغورست الذي لم يعمل بدأب على تعزيز المصالح الثقافية لانكلترا. ولم يكن الأمير أحمد فؤاد نفسه رئيس الجامعة يتحدث الانكليزية، ولم يكن يشعر بميل ثقافي نحو إنكلترا. ولذلك كان أستاذ الأدب الفرنسي ألبير بوفيليه - وليس نظيره الانكليزي - هو الذي تحدث باسم الأجانب في حفل افتتاح الجامعة سنة 1908. وكان من نتيجة ذلك أنه - على مدى عمر الجامعة الأهلية -لم يتول الإنكليز سوى منصب جامعي واحد هو منصب أستاذ الأدب الانكليزي، وظل الأساتذة البريطانيون في المؤخرة بالقياس إلى الأساتذة الإيطاليين ثم الفرنسيين الذين صارعوهم على النفوذ الثقافي في الجامعة، وسرعان ما انتصروا بسبب انفجار الشعور القومي المعادي لايطاليا التي عصفت بليبيا سنة 1911، وما تبع ذلك من انهيار الصداقة الإيطالية مع الجامعة، الأمر الذي أدّى إلى انصراف الطلاب عن محاضرات كارلو نالينو احتجاجا على قمع بلده للشقيقة ليبيا. وكان ذلك على رغم ما كتبه بعض طلاب نالينو في الصحف المصرية من ضرورة استمرار المستشرق الإيطالي الجليل في عمله لأن العلم ليس له وطن. ولكن الجامعة اضطرت إلى عدم تجديد تعاقدها معه، استجابة للضغط الشعبي الذي انفجر نتيجة السياسة الاستعمارية الإيطالية، واتجهت إلى الأساتذة الفرنسيين من أمثال لوي ماسينيون وغاستون ÷ييت ليحلوا محل الإيطاليين المبعدين. لكن المفارقة الكبرى في سياق إنشاء كلية الآداب في الجامعة المصرية أن الكثير من المستشرقين الذين عملت بلادهم على زرعهم في الجامعة تأكيداً لنفوذ ثقافي - ومن ثم سياسي - أجنبي، مضوا في اتجاه مخالف، واستبدلوا الذي هو خير من العلم الإنساني بالذي هو أدنى من أهواء التعصب السياسي، فقدموا للثقافة القومية خدمات جليلة في تعريف ميراثها الثقافي، ولم يكونوا عاملاً من عوامل المثاقفة التي تؤكد التبعية السياسية، بل على العكس كانوا عاملا من عوامل إثارة العقل الوطني القومي، ودعوته إلى التفكير المستقل، ومن ثم تشجيعه على وضع كل شيء موضع المساءلة بما في ذلك العلم الذي كان يقدمه المستشرقون أنفسهم. ولهؤلاء العلماء الإنسانيين المعادين بإنجازهم ودورهم لنزعة الإستشراق التي وصفها إدوارد سعيد وصفاً صائباً إلى حد كبير تدين بالكثير كلية الآداب في نشأتها الأولى في الجامعة المصرية.