اذا كان رولان بارت واتباع مدرسته اعلنوا"موت المؤلف" وقطعوا الوشائج بين النص وصاحبه وبيئته وتاريخه والعوامل المكونة له والمؤثرة في ابداعه، وجعلوا النص معلقاً في فراغ، لا قبل ولا بعد، وحسبوا انهم يضفون عليه مسحة قدسية تحوله الى صنم محوري يدور وحيداً حول نفسه. فقد آن لنا ان نعلن موت المنهج او مناهج النقد الادبي لنرد على الذين اماتوا المؤلف بأن مناهجهم ومناهج غيرهم ليست في منأى عن الفناء، وان بذرة موتها كامنة في تطرفها وتطلعها الى ان تكون القاعدة المثلى، ولنؤكد ان اي ثبوت في رأي فني، ابداعاً ونقداً، ان صمد حيناً فسيتهاوى لا محالة في مابعد. *** هل للنقد الادبي منهج او مناهج؟ وهل يتحتم على الناقد ان يتبع منهجاً معيناً واحداً في كل ما ينقد؟ وهل يجوز ان يتبنى مناهج مختلفة بتباين النصوص؟ هل النقد التكاملي الذي يجمع بين مناهج متفرقة منهج ام خرافة. اذا كان للنقد منهج او مناهج، فهل يمكن حصرها؟ يورد مصدر واحد خمسة وعشرين منهجاً: 1- المنهج التاريخي/ 2- الاجتماعي/ 3- النفساني/ 4- الجمالي/ 5- الوظيفي/ 6- الابداعي 7- التكاملي/ 8- الاخلاقي/ 9- الارشيفي/ 10- البلاغي الاسلوبي/ 11- النموذجي/ 12- الوصفي/ 13- الظاهراتي/ 14- الموضوعاتي/ 15- التفكيكي/ 16- التداولي/ 17- المونتاجي/ 18- اللساني/ 19- التفسيري/ 20- التوليدي التكويني/ 21- الشعري/ 22- الواقعي/ 23- الجدلي/ 24- البراكسيماتي/ 25- السيمائي. ونتابع القائمة بعد خمسة وعشرين منهجاً، ونذكر كل المناهج التي نستطيع تدوينها مستعينين بالمصادر والذاكرة وأية وسيلة اخرى نافعة، وندري ان عشرات ستفلت من بين ايدينا: 26- المنهج الشكلاني/ 27- البنيوي/ 28- التأويلي/ 29- الحواري/ 30 اللغوي/ 31- النفسي/ 32- العلمي/ 33- الانطباعي/ 34- الشكلي/ 35- التحليلي/ 36- القاعدي/ 37- السيري/ 38- الديني/ 39- الفلسفي/ 40- الماركسي/ 41- الوجودي/ 42- النصي/ 43- العقائدي/ 44- الاستقرائي/ 45- الاستدلالي/ 46- الاستردادي/ 47- الاستنباطي. لنفرض ان انساناً تعهد نفسه بالاطلاع والقراءة والتزود من الثقافة واستمر على ذلك عشرين حجة، ثم لما نضجت ادواته واكتملت وجد ان لديه القدرة ان يصير ناقداً، وان يكون منظماً، يتبع منهجاً واحداً في النقد. انه ليس تأثرياً، مزاجياً، متقلباً، لا ثبوت له في رأي او موقف، فما المنهج الذي يتبع؟ لنعد الى القوائم السابقة ونر اياً منها يمكن ان يصبح موضع اختياره؟ ترى هل يقر على قرار او يريد مناهج اخرى لتتسع دائرة الاختيار؟ وله ان يتبع مسالك، منهجية او غير منهجية، تقوده الى النصوص بحثاً عن مكنونات مقوماتها التي اكسبتها قيمة ابداعية حملته على ان يقبل عليها قراءة ثم نقداً وكشفاً عن العوامل التي جعلتها متميزة متفردة، ولكن تلك المسالك لا قيمة لها، ان لم يكن يتمتع بموهبة استيعاب تلك النصوص وتذوقها والاستجابة لها. على رغم القوائم التي قدمناها ندرك اننا لن نصل الى احصاء دقيق، فالمناهج لكثرتها ترفض ذلك، وقد تكون المناهج بعدد النقاد الذين ظهروا في العالم، او بعدد المتميزين من اولئك النقاد، فلكل طريقته ومساره. حتى اذا توصلنا - فرضاً - الى احصاء دقيق للمناهج فسيدحضه اي ناقد بابتداع منهج جديد يصبح رقماً في قائمة بأن يضع اسساً ويدعي انه طبقها على نص او نصوص واستنبط منها النتائج التي تشهد لمنهجه بالمنهجية. فما معنى ان يتجاوز المنهج الذي يفترض ان يكون واحداً او آحاداً، العشرات او المئات من التسميات؟ أليس في هذا شيء من خلل؟ وهل تفضي هذه الاعداد الى ان المنهج، حقاً، وسيلة موضوعية للاستقرار وصولاً الى نتائج علمية او انه سبيل الانسان لابتغاء الحقيقة. باختين يدعو الى النقد الحواري، ومن اهم مزاياه: "انه يسمح بأن تتكامل فيه المناهج النقدية الحديثة جميعاً، الداخلية والخارجية، في تفاعل وتداخل منهجي منسجم: الشكلانية، البنيوية، السيمياء، التفكيك، التأويل، شعرية العمل المفتوح، من جهة، والاجتماعية، التاريخية، التطورية، الأدب المقارن، الواقعية، نظرية الدفاع عن المؤلف، من جهة اخرى، في تلاقح حواري فذ…" وستانلي هايمن، بعد تجارب طويلة، يقدم لنا الناقد المثالي: "لو كان في مقدورنا ان نصنع ناقداً حديثاً مثالياً لما كانت طريقته الا تركيباً لكل الطرق والاساليب العملية التي استغلها رفاقه الاحياء، ولاستعار من جميع تلك الوسائل المتضاربة المتنافسة وركب منها منهجاً سوياً لا تشويه فيه". ويقول فكتور برومبيرت: "… واذا كان لا بد لي ان اختار اتجاهاً نقدياً فأنا افضل الأساليب النقدية المرنة التي تستند الى الانتقاء من مختلف النظريات وتتجنب الانظمة المتطرفة التي تتسم بقصر النظر - الاساليب التي تسعى الى الجمع بين الاتجاهات الثيمية والبنيوية والتفكيكية والتاريخية والسيرة الذاتية". وصلاح فضل يريد ان يمحق المنهجية من جذورها الاولى: "اذا كان المنهج بطبيعته نظاماً من الاجراءات التحليلية تدور وفق تصور كلي شامل، فانه قد يتحول بطريقة حرفية على الاعمال الادبية مما يحيلها الى مجموعة من الاستمارات وكشوف البيانات التي يملؤها الناقد وفقاً لكل حالة، وتفقد بذلك ابرز ما يتميز به العمل النقدي من مبادرة خلاقة وقدرة فذة على مفاجأتنا بما لا نتوقع من انماط التحليل ووسائل الكشف، فكيف يصبح بوسع الناقد ان يتخذ منهجاً دون ان يقضي على روح النقد نفسه؟". والعملية النقدية تنتهي بالنص المنقود ولا يمكن لها ان تتكرر حرفياً مع نص آخر، مهما كان المنهج صارماً. هل نلغي المناهج النقدية كلها؟ هل هذه دعوة الى كتابة الخواطر والانطباعات وما يعجبني وما لا ارتضيه؟ هل يمكن ان نزري الناقد اذا ما وضع خطة وأسساً لتتم في ضوئها عملية النقد؟ ليس بمقدورنا ذلك، فهذا يبعده في اكثر الاحيان عن الاضطراب الفكري والقيمة السائبة والحكم الذي يفتقر الى تسويغ، ولا ننسى مقولة ديكارت: "خير للانسان ان يعدل عن التماس الحقيقة من ان يحاول ذلك من غير منهج"، ولكننا لا ندري هل اتبع ارسطو منهجاً في كشوفاته أم اننا اوجدناه له، ولا ندري اي منهج قاد ارخميدس الى قانونه، ونيوتن الى الجاذبية، وفلمنك الى البنسلين… الخ، الا اننا اذا اردنا الابتعاد عن الاحكام الشاملة فعلينا ان ننص ان ديكارت وغيره يعنون المنهج في العلوم اولاً وتأتي الفنون في آخر الركب. حرية الناقد في ان يختار طريقته الخاصة اويبتدع منهجه او يصنع المسار الذي يرتأيه لنقده، هذا ما نرمي اليه، وله ان يتبع ما يشاه من المناهج على الا ينساق اليه طبقاً لموجة عارمة زائلة: "ان اسلوب تلبيس المنهج على النص قد يجعل نصاً بدوياً رعوياً يفكر بطريقة باريسية او العكس". المناهج النقدية تسعى، بعد ان يمارسها الناقد، الى المنابع الاولى، الى اللامنهج، والفنان يطبق القواعد كلها والمناهج كلها ليصل الى اللاقاعدة واللامنهج، ليعود الى تلك المنابع الاولى، ليندمج في روح الابداع، ليظل في ما ينتج رائداً: "انها لعبة الابداع: ان تخلق معاييرها وتخترقها باستمرار. ان توجد المرآة التي ترى فيها صورتها وقد اخذت في الاكتمال لتكسّرها عند الاكتمال". وعلى الناقد ان يكون اكبر من النص وأكبر من المنهج والا تغره آراء ونظرات سرعان ما تتلاشى، وليس له ان يبرهن على قدرات معرفية مستوردة تباهياً يفصح عن شعور دفين بالدونية. هل المسألة تسميات وقوائم ومناهج؟ هل تتسم بانسيابية مطلقة لا قرار لها؟ أم ان الغاية التي نهدف اليها، اذا وقعنا في حبائل منهج ما، ان نعرف كيف نتعامل معه او نقوده، لا ان يجعلنا من عبيد المناهج كما فعل الشعر بزهير ورهطه، ولذا اخذت نظرية "جمالية التلقي… على عاتقها مقاومة ديكتاتورية المناهج". في كثير مما نقرأ يضيع النص حين يعج النقد بمنهجه ومصطلحاته: "ليس اختيار منهج او المباهاة باختيار آخر او اقتناص احدث المناهج هو المسألة المركزية امام البعد الادبي العربي الحديث: فالمناهج "مرمية على الطريق العام"، لكن المسألة المركزية تتمحور حول السؤال الجوهري: كيف نستخدم المنهج". المنهج اساس الحضارة ومنطلقها، ولكن ان نعرف متى نطبقه ومتى نرفضه او نخفف من صرامة الخضوع له. والمنهج ضروري، ليس لانسان ان يلغيه في التفكير، وفي التجربة، وفي البحث، وفي الاكتشاف، فهو المنظم والقطب والمحور، ونحن لسنا اتباعاً له. انه من صنع ايدينا، ولنا الحرية الكاملة في ان نحييه او نميته او نخرج عليه قليلاً او كثيراً، والمنهج ليس غاية وانما وسيلة، لذا نرفض هيمنة كلية للمنهج، على الفن خاصة. واللامنهج الذي يقود الى منهج خاص بصاحبه هو المنهج الذي يمكن ان نبنيه على المناهج كلها. * اكاديمي عراقي